عبدالباري عطوان : هذه هِي النصيحة التي سأُوجهها للرئيس الأمريكي لو كنت مستشاره؟
عبد الباري عطوان
بالنَّظرِ إلى الهُجوم الشَّرِس الذي تعرَّض لَهُ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من قِبَل المُشرِّعين والصِّحافيين الأمريكيين بعد عَودتِه من قِمّة هلسنكي، حيث واجَه اتِّهاماتٍ بـ”الضَّعف” و”الخِيانة” و”التَّهوّر”، فإنَّني لو كُنت مُستشاره، وهذه وظيفة افتراضيّة لا أتمناها، لنَصحتُه باقتصارِ زياراتِه الخارجيّة على الدُّوَل العربيّة، والخليجيّة منها على وَجه الخُصوص، لأنّها المِنطَقة الوَحيدة في العالم التي يَظهَر فيها بمَظهر القَويّ، ويَجِد زُعَماء يرضَخون لجميع إملاءاتِه، ويُلَبُّون كل طَلباتِه ويتحمّلون كُل إساءاته، ويَعود إلى واشنطن وحقائبه مُتخَمة بمِئات المِليارات.
حَملة الانتقادات التي تَعرَّض لها ترامب كانَت مُصيبةً في مُعظَمِها إن لم يَكُن كلها، فقط كان تِلميذًا مُطيعًا مُرتَبِكًا أمام “مُعلِّمه” فلاديمير بوتين، وكأنّه “مَضبوع″، حيث وافَقه، أي الرئيس بوتين، على جَميع أقوالِه، وأقرّ بصِحَّة وِجهَة نظره حول جميع القَضايا المَطروحة، ولم يُوجِّه له أي انتقاد حول أي من المَلفّات المَطروحة في أُوكرانيا والقُرم والانتخابات الرئاسيّة، وحتّى في سورية.
***
الرئيس ترامب اعتَرف بطَريقةٍ مُلتَوية بأدائِه الضَّعيف في قِمّة هلسنكي، وتَراجَع بَشكلٍ مُخجِلٍ عن تَصريحاتِه التي بَرّأ فيها روسيا من التَّدخُّل في الانتخابات الرئاسيّة عام 2016، وحاول أن يُعَدِّل أقواله التي أطلقها في المُؤتمر الصِّحافي في هذا الصَّدد التي كان أبرزها قوله “أنّه لا يرى سَببًا لتَدخُّل روسيا في الانتخابات الرئاسيّة”، عندما أكَّد أنّه كان يَقصِد “أنّه لا يرى سَببًا لعَدم اعتبار روسيا هي المَسؤولة عن التَّدخُّل”، ولكن هذا الاعتراف الذي جاء مُتأخِّرًا، ونتيجة عاصِفة الانتقادات في الكونغرس، لم يُقنِع أحَدًا حتى داخِل حزبه الجُمهوري.
حالة الفَشل والسُّقوط والارتباك، التي يَعيشها الرئيس ترامب، وتتعمَّق يومًا بعد يَوم، تعود في رأينا إلى ثلاثة أسباب:
ـ الأوّل: أنّه يُعانِي من عُقدَة تُسيطِر عليه، اسمها الرئيس أوباما، ولهذا يتبع سياسات ويتَّخِذ مواقف تُعتبَر نقيضًا لكُل سِياساتِه، وعلى رأسها تحسين العَلاقات مع روسيا، وإنهاء التَّوتُّر معها، وجعل المملكة العربيّة السعوديّة التي وجَّه إليها أوباما انتقاداتٍ شَرِسة، المَحطّة الأولى لزيارته الخارجيّة، وتوتير العلاقة مع الاتِّحاد الأُوروبي الحَليف، وإلغاء الاتِّفاق النَّوويّ الإيرانيّ.
ـ الثاني: توثيق العلاقة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، ونقل السِّفارة الأمريكيّة من تل أبيب إلى القُدس المُحتلَّة، وجعل بنيامين نِتنياهو مُستشاره الأوّل في السِّياسةِ الخارجيّة، وتنفيذ جميع اقتراحاتِه دون مُناقشة، بِما في ذلك التمهيد لحَربٍ ضِد إيران بفَرض حِصارٍ خانِقٍ ضِدها.
ـ الثالث: تصعيد العَداء لكُل ما هو مُسلِم، والتحالف مع الشخصيّات والأحزاب المُتطرِّفة في عُنصريّتها، وشَن حَربٍ على الهِجرة والمُهاجِرين، لأنّ أوباما ينتمي إلى أُسرَةٍ مُهاجِرةٍ من القارّة الأفريقيّة (كينيا) ولأنّ والده مُسلِم.
***
الرئيس بوتين خَرَجَ فائِزًا بالضَّربةِ القاضِية من هَذهِ القِمّة النَّاعِمة، وأظهر أنّه لاعِب ماهِر يَعرِف كيف “يَسحِر” خُصومه أو ضُيوفه، ويَحصُل على كُل ما يُريد مِنهم، دون أن يُقدِّم إلا قليل القليل في المُقابِل، ولعَلَّ المُؤسَّسة الأمريكيّة الحاكِمَة (the Establishment) أدرَكت هذه الحقيقة جيَّدًا، وهذا ما يُفَسِّر ثَورَتها الحاليّة الغاضِبة جِدًّا ضِد الرئيس ترامب وفَريقِه.
ترامب اعترف باليَد العُليا لروسيا في سورية، وأقَر باستعادَتها لشِبه جزيرة القُرم، وصَوابيّة دعمها لحُلفائِها في شرق أوكرانيا، ولم يَتحدَّث بكَلِمَةٍ واحِدة عن إيران ووجودها في سورية، وكل ما قاله أنّها يَجِب أن لا تستفيد من هزيمة “الدولة الإسلاميّة” أو “داعش”، فماذا يُريد الثَّعلب بوتين أكْثَرَ من ذلِك؟
جون كيري وزير الخارجيّة الأمريكيّ السابق، كان حَكيمًا عندما عبّر عن صَدمتِه من نتائج جولة ترامب الأُوروبيّة الكارثيّة، وتعامله الفَج خلالها مع أعضاء “حِلف الناتو”، الذي اتَّسَم بالغَباء والغَطرسة، بقَولِه، أي كيري، “لقد فضحتنا يا رَجُل”، ولا نَستغرِب أن يذهب إلى ما هو أبعَد من ذلك عندما يَطَّلِع على تفاصيل قِمَّة هلسنكي، وما سيكشفه المُترجِم عَمّا دار في الاجتماع المُغلِق الذي استمرَّ ساعتين أثناء شهاداته أمام الكونغرس.
هَنيئًا للرئيس بوتين هذا الانتصار الكبير، ولا عَزاء للمُؤسَّسةِ الأمريكيّة، فهِي ومِن كَثرة أخطائها، وتَدخُّلاتِها الدمويّة المُدمِّرة في مِنطَقتنا التي أدَّت إلى استشهادِ المَلايين من العَرب والمُسلمين، لا تَستحِق رَئيسًا غير ترامب، يُدَمِّر ما تَبقّى من سُمعَتها وصُورَتها في العالم على قلته.