أفق نيوز
الخبر بلا حدود

“الشيطان يكمن بالتفاصيل”.. ما الجديد الذي كشفه أردوغان بمقتل خاشقجي؟

159

يمانيون – تقارير

في تمام الساعة ١١:٤٥ من صباح يوم الثلاثاء، الثالث والعشرين من أكتوبر، وفي سيناريو يشبه انتظار الحلقات الجديدة من المسلسلات التركية الطويلة؛ خرج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خطابه المجدول مسبقا أمام الكتلة البرلمانية لحزبه “العدالة والتنمية” الحاكم في البرلمان بأنقرة، والذي كان قد تعهد قبل هذا الخطاب بيومين بأنه سيكشف كل “تفاصيل ” قضية جمال خاشقجي، الصحفي السعودي المقتول بقنصلية بلاده في إسطنبول قبل ثلاثة أسابيع من الخطاب، وبأنه سيتطرق لها بـ”شكل مختلف جدا”، الأمر الذي رفع التوقعات بأن ينهي الرئيس التركي القضية بكشفه كل تفاصيلها، وهو ما لم يحصل بطبيعة الحال، رغم أن الخطاب، الذي أخذت به قضية خاشقجي ثلثه تقريبا، حقق ما تعهد به بدرجة كبيرة.

وباختياره هذا الزمان والمكان تحديدا – اجتماعه مع كتلة حزبه الحاكم البرلمانية -؛ يأتي خطاب أردوغان في سياق سياسي محدد، أي أن أردوغان كان يتحدث بصفة أقرب للذاتية من كونها صيغة الدولة (فلم يلقه أمام البرلمان كلّه على سبيل المثال)، وتنفيذية/ تشريعية (بعدم إلقائه في محفل قضائي)، وبالتأكيد فهو ليس ذا صبغة نهائية أو كبرى، سواء على الصعيد الاجتماعي بعدم إلقائه في مكان شعبي مفتوح (ساحة يني كابي في إسطنبول كانت المكان المفضل لهذا النوع من الخطابات)، أو على الصعيد الدولي بعدم إلقائه من القصر الجمهوري في أنقرة.

سياق الخطاب
صبيحة الاجتماع، كانت رئيسة الاستخبارات المركزية الأمريكية جينا هاسبل في أنقرة، مبعوثة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، للاطلاع المسبق كما يبدو على أي تفاصيل نوعية قد تمثل انقلابا جوهريا، ولمتابعة سير القضية.

كما كشفت صحيفة “نيويورك تايمز”، في وقت قريب من وصول هاسبل، نقلا عن مصدر مطّلع قريب من أردوغان أنه سيطرح أسئلة محددة “تتهم ضمنا أو تشير بأصابع الاتهام إلى الديوان الملكي”، دون كشف للأدلة أو التسريبات السابقة، التي سيتركها لتقرير المدعي العام، وهو ما حصل بالفعل.

إلا أن الأخطر كان كشف هذا المصدر عن عرض الأمير السعودي خالد الفيصل، الذي كان مبعوث الملك إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عن “صفقة” تتضمن استثمارات ومساعدات مالية سعودية لتركيا التي تواجه وضعا اقتصاديا صعبا، ورفع الحصار عن حليفتها الخليجية قطر، وهو ما رفضه “بغضب”، واصفا إياه بـ”الرشوة السياسية”.

وبين عدم كشف الأدلة، ورفض الصفقة السياسية؛ تأتي كلمات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سياقها المحدد: عدم إغلاق القضية بتسوية سياسية، وبالمقابل، عدم إنهائها بالكشف الكلي عن التفاصيل واتخاذ موقف نهائي، في استطالة أكبر للاستراتيجية التركية – المثمرة – المتمثلة بالتسريبات التدريجية النوعية، ضامنة بقاء القضية على سلم الأولويات العالمية، بما يعني مزيدا من ردود الفعل الغاضبة على السعودية، وفي الوقت نفسه؛ عدم قتلها لتصبح قضية ثانوية، في سعي تركي سياسي حازم للوصول لأهداف معينة، أو بالأحرى أشخاص محددين معروفون ضمنيا في القضية، على رأسهم ولي العهد السعودي ورجلها القوي محمد بن سلمان، الذي يبدو أن أردوغان قد وضعه نصب عينيه في القضية.

تنشيط الذاكرة
بالتطرق للخطاب الذي استمر خمسة وخمسين دقيقة؛ تبدو الأهمية التي يوليها الرئيس التركي لقضية خاشقجي بوضعه إياها على أولويات القضايا المناقشة بعد بروتوكول عرض ملخص لإنجازات الأسبوع الماضي (التي تضمنت زيارة كمبوديا ومجموعة من الزيارات الداخلية)، وحتى قبل نقاش المواضيع الجوهرية للحزب، وعلى رأسها كان “العفو عن السجناء” و”الحلف السياسي” مع حزب “الحركة القومية”.

بدأ أردوغان خطابه بالتأكيد الرسمي لمقتل خاشقجي في القنصلية، ثم بالترحم عليه وتعزية أهله وخطيبته وعالم الإعلام والصحافة. وبذكر خطيبته التركية خديجة جنكيز تحديدا – عدا أهله -، يولي أردوغان الباحثة التركية أهميتها الرمزية في القضية وبالنسبة إليه، كما يستغل الفرصة لينفي عن نفسه تهمة “عدو الصحافة والصحفيين”، التهمة التي يوليها إياه معارضوه الداخليون والخارجيون، بذكرهم تحديدا وبتذكيرهم بأنه يتولى قضية لصحفي كبير، لم تكن لتبدو كذلك لولا أنه صحفي، بحسب ما يعيد التذكير به في مضامين الخطاب.

يدخل أردوغان بعد ذلك بما وصفه “تنشيط الذاكرة”، في خطوة تتجه نحو إضفاء صفة رسمية على بعض التسريبات الصحفية المحددة التي تم تداولها داخليا وخارجيا، وأهمها وصول فريق القتل على عدة رحلات إلى إسطنبول، وتكونه من ١٥ شخصا بينهم جنرالات وأطباء شرعيون ورجال أمن ومخابرات وشبيه لخاشقجي – بما يضفي عليهم صفقة فريق الاغتيال – ، والزيارة المسبقة لخاشقجي للسفارة قبل يومين من مقتله، كما ألمح لبعض التفاصيل التي لم يعلنها بشكل مباشر، ومنها التسريبات حول تعذيبه قبل قتله وتقطيعه بمنشار العظم، والتي اكتفى على التلميح لها، حتى الآن، بوصفه ما حدث بالجريمة “الوحشية”.

إضافة لذلك، قدم أردوغان بعض التفاصيل الجديدة للحادثة التي لم تكشف من قبل، منها تأكيده وجود ثلاثة أشخاص من ضمن طاقم القنصلية نفسه متورطون بالقضية، ووصول ثلاثة أشخاص برحلة عادية للخطوط الجوية، لا على متن طائرة خاصة، وإزالة الفريق المتعمد لذاكرات كاميرات المراقبة، إضافة لتوجه أعضاء من فريق القتل إلى غابات بلغراد ومدينة يلوا، بما يفسر توجه السلطات التركية إلى هناك بعد أيام من الحادثة.

وبـ”تنشيطه للذاكرة”، عالج الرئيس التركي تفاصيل الحادثة بدقة بالغة، باليوم والساعة والدقيقة، قبل وقوع الحادثة بأيام، وحتى مغادرة مصطفى مدني، شبيه خاشقجي، لوحده ليلة الحادثة، بما يبدو استعراضا لقوة الأجهزة الأمنية التركية، وفي رسالة للسعودية بأنها لا تستطيع الاستمرار برواياتها المتناقضة للحادثة التي تملك المخابرات التركية تفاصيلها كأدلة رسمية، ليست أكثر من قمة جبل الجليد لما قد تملكه تركيا من أدلة وتسريبات أخرى قادمة للجريمة.

رفض الرواية السعودية
بعد “تنشيط الذاكرة”، مر أردوغان على تفكيك سريع للحادثة، استعرض به تواصلاته المشتركة، سواء مع الملك سلمان ومبعوثيه الرسميين، أو مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كان أهم ما قام به أثناء ذلك هو مقارنته مباشرة بالرواية السعودية، الرواية الرسمية المتاحة حتى الآن، التي أعلن رفضه إياها، سواء بشكل مباشر بوصفه بوصفه إياها بـ”المتناقضة”، أو بشكل غير مباشر بتأكيده أكثر من مرة على أن الحادثة كانت متعمدة ومقصودة وليست مجرد “اشتباك بالأيدي”، أو “اختناق”، كما يقول السعوديون.

لم يرفض الرئيس التركي مجرد الرواية السعودية، لكنه، بلغة دبلوماسية، بعد إقراره بأهمية خطوة وقوع جريمة القتل؛ أعلن رفضه لنتائج هذه الرواية وتحميل المسؤولية على الشخصيات المعفية وحسب، مطالبا السعودية بالسعي للكشف عن كافة المتورطين بهذه القضية “من أسفل السلم إلى أعلاه”، كما طالب، بالطريقة الدبلوماسية نفسها، بعد رفضه التشكيك بمصداقية “خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز”، بالمطالبة بتحقيق شامل يجريه وفد محايد وموضوعي وعادل، طارحا عددا من “الأسئلة الكبرى” الجوهرية بالموضوع، وهي تحديدا:

– لماذا تجمع فريق القتل المكون من ١٥ شخصا في مدينة إسطنبول يوم ارتكاب الجريمة؟

– لماذا أتوا إلى هناك وبناء على تلقي تعليمات ممن؟

– لماذا فتحوا مبنى القنصلية للتحقيق والبحث والدراسة ليس بعد الحادث مباشرة وإنما بعد أيام عديدة؟

– لماذا الإدلاء بتصريحات متناقضة حول القتل؟

– لماذا لم يتم الكشف عن جثة الشخص المقتول حتى اليوم؟

– هناك ادعاء بأنه قد تم تسليم الجثة إلى متعاون محلي، من هذا المتعاون المحلي؟
كد أردوغان بطريقة حازمة إبقاء الملف مفتوحا حتى الإجابة المرضية عن هذه الأسئلة، والتي تمثل إن أجيبت بالفعل، إدانة مباشرة لشخصيات كبرى في المملكة كانت هي التي أعطت التعليمات، كما أن الكشف عن الجثة يعني انتفاء الرواية السعودية بالدليل الملموس، مما يعني مزيدا من الضغط الدولي على المملكة وصولا إلى سقف أعلى، والتي يبدو أن الأتراك يملكون بعض إجاباتها التي سيكشفونها خلال الأيام المقبلة، ما لم تبادر المملكة بنفسها للإجابة عنها، والتي ترك أردوغان الكرة في ملعبها بطرحه هذه الإشكالات بشكل أسئلة، لا اتهامات مباشرة، وإن كان قد يملك أجوبتها.

وفي الختام؛ شكك أردوغان بصورة ضمنية بالإجراءات القضائية السعودية وغياب الشفافية، ولذا فقد ألقى الكرة مرة أخرى في ختام خطابه بملعب السعودية، باقتراحه إرسال المسؤولين عن القتل إلى تركيا مرة أخرى للتحقيق معهم، في تأكيد للمرة الثالثة أن القنصلية واقعة على أرض تركية، وإن كانت تتمتع بحصانة دبلوماسية، بما يمنح الأتراك الحق بالتحقيق والمحاكمات.

بين السطور
بين سطور تفاصيل الرواية، وبين نقدها ونقضها، ومطالباته ومطالبه، أرسل أردوغان عددا من الرسائل، التي يصل منها بقولها، والأشد وطأة منها: ما تصل بعدم قولها.
ربما كان من الأكثر لفتا للنظر في هذه القضية هو مناداته للعاهل السعودي الملك سلمان بلقبه غير الرسمي، المعروف به رمزيا وداخل السعودية: خادم الحرمين الشريفين، إذ استحضره بهذا الاسم في ثلاث مرات مختلفة، بما يبدو سعيا للتقرب إليه وإبقاء الخطوط مفتوحة، واستذكارا للرمزية والأهمية الدينية للملك، في رسالة داخلية للأتراك الذين يعني لهم الحرمان الشريفان وخدمتهما الكثير من البعد الروحي والتاريخ، والتأكيد الشخصي لأردوغان على أهمية الملك سلمان، الذي يبدو غائبا في المشهد بالمقارنة مع نجله محمد الذي يبدو الحاكم الفعلي للسعودية.

وبمقابل هذا التبجيل؛ غاب ذكر محمد بن سلمان، المتهم بالمسؤولية عن اغتيال خاشقجي، بشكل كامل، في ما يبدو تجاهلا متعمدا يحمل بعدا من عدم الاهتمام والتقدير، إضافة لتضمينه للاتهام التركي غير المباشر إليه بالمطالبة بمحاسبة المتورطين من “أدنى السلم إلى أعلاه”، بل وباتهام ضمني كذلك لمن يقف وراءه من “الشركاء الموجودين في سائر الدول الأجنبية”، بما يمكن تفسيره على العدو الإقليمي الأشد لأردوغان: الإمارات ورجلها محمد بن زايد، وصهر الرئيس الأمريكي ومستشاره جاريد كوشنر، ضمن ما وصفه وصفه إبراهيم كاراجول رئيس تحرير صحيفة “يني شفق”، المقربة من السلطات التركية، في مقاله اليوم بأنه: “جزء من مخطط جديد يستهدف المنطقة ويديره ابن سلمان وابن زايد وصهر الرئيس الأمريكي كوشنر”.

وبين تبجيل الملك وتجهيل نجله، وضمن السياق العام للخطاب التركي ولغته الدبلوماسية؛ يبدو التوجه التركي المعلن، إضافة لغير المعلن، في خطاب أردوغان واضحا: مشكلة تركيا ليست مع السعودية التي تسعى على إبقاء الخطوط والعلاقات الدبلوماسية معها مفتوحة، وإنما، تحديدا، مع خصمه الإقليمي غير المعلن محمد بن سلمان وشبكته ومن وراءه، وهو ما كشفه المصدر المقرب من أردوغان لـ”نيويورك تايمز” صبيحة الخطاب، بأن تركيا مصرة على إلقاء اللائمة على الصفوف الأولى من الديوان الملكي الذي تصعد إليه شيئا فشيئا، حتى تقترب قدر المستطاع من ولي العهد السعودي، ضمن استراتيجية الاستنزاف الطويلة والتي لم يكن خطاب أردوغان نهاية لها ولملف خاشقجي، وإنما يبدو أنه مجرد بداية جديدة لمرحلة أخرى أشد شراسة، في القضية التي دفعت، بمفارقة ساخرة، أردوغان إلى واجهة الشرق الأوسط، بعد أن تبوأها محمد بن سلمان خلال السنوات الماضية.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com