منذُ الأزمة المالية العالمية في 2009، ومؤشراتُ الانسحاب الأمريكي من المنطقة تسجّلُ منحىً تصاعدياً سنةً بعد أخرى، ولولا أن ثوراتِ الربيع العربي قد أعادت شهيةَ واشنطن وعواصم غربية أخرى للمزيد من التدخُّل في شئون العالم العربي، لأمكن لمرحلة تخلُّق النظام العالمي متعدد الأقطاب أن تمُــرَّ بسلاسة ودون حروب وخسائرَ مكلفة ندفع نحن العربَ النصيبَ الأكبرَ من فاتورتها دماً، ومالاً، وانقسامات بينية لا حدودَ لها.
وبغض النظر عن الزمن الذي يحتاجُه العالم حتى تتبلور صيغة جديدة ومستقرة للنظام الدولي الجديد، فمن المؤكد أن المنطقة العربية تستحوذُ على النصيب الأكبر من مفاعيل صناعة هذا التحول، أَوْ المخاض الذي ينبئ بولادة متعسرة لا سبيل للحدّ من تداعياتها إلا عبر تفاهمات سياسية طويلة الأمَد نسبياً تحفظ وَحدة الأوطان العربية وتحولُ دون انهيار النسيج الداخلي لمجتمعاتها.
بُعَيْــدَ التدخُّلِ الروسي العسكري في سوريا، لم تعد واشنطن اللاعبَ الأبرزَ في المنطقة، وبعد إبرام الاتفاق حول الملف النووي بين إيران والغرب، بات لخصوم البيت الأبيض هامشٌ أوسع من التحرك الإقليمي، يقتطعُ حتماً من مساحة الدور الذي كان متاحاً لحلفاء أمريكا التقليديين في المنطقة وعلى رأسهم المملكة السعودية.
وإذ اختلت توازناتُ المنطقة خلال الخمسة الأعوام الماضية في ظل اندلاع الثورات والثورات المضادة في أكثر من قطر عربي، فإن العواصم الخليجية التي لم تكن بمنأىً عن هذه المتغيرات، وجدت نفسها أمام استحقاقات تفرض عليها القيام بالدور الأصيل بعد أن ظلت تمارس لمدى عقود غواية اللعب كوكيل لمصالح القوى الكبرى، وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية.
قبل وأثناء هبة الربيع العربي لعبت قطر دوراً كبيراً في تسيير دفة شئون الإقليم، وبالتعاون مع تركيا والإخوان المسلمين، كاد محور الدوحة أن يستكمل رسم الخارطة الجديدة للمنطقة بالتفاهم مع واشنطن التي قررت الانسحاب التدريجي من أفغانستان والعراق، وتدخلت على استحياء في ليبيا، ثم أحجمت عن التدخل العسكري المباشر في سوريا.
لكن الخطر القطري كاد يصل إلى الرياض، التي وجدت نفسها أمام معضلتين تحاصران الدور السعودي الإقليمي، فالانسحاب الأمريكي يضع الرياض في الواجهة مباشرة مع تنامي الدور الإقليمي لإيران وتركيا. ومن جهة ثانية، فإن استمرارَ معضلة الإخوان المسلمين، تدفع بتراجع دور الدولة النفطية الكُبرى في المنطقة لصالح الدوحة وقاهرة الإخوان.
وهكذا وجدت الرياضُ نفسَها في مهمة الاشتباك المباشر مع اللاعبين الكبار والصغار بالمنطقة، واندفعت بإمكاناتها المالية والإعلامية الضخمة نحو القاهرة، مستغلةً التملمُلَ الشعبي ضد الإخوان المسلمين، وأمكن لها بالفعل تغييرُ قواعد اللعبة إقليمياً، ما شجّعها للمُضي في السياسة الجديدة عبر التدخُّل غير المباشر في العراق وسوريا وليبيا، ثم عبر التدخل العسكري المباشر في الـيَـمَـنِ.
وعليه يمكن القول إن المنطقة المشتعلة بالحروب السعودية ذات الصبغة الطائفية، تقُف على أعتاب منعطف حالك يفاقم من خطورته، اندفاع الدب الروسي المدعوم صينياً وإيرانياً، وسط تراخٍ أمريكي غير مسبوق.
يمنياً، لا تمكن قراءةُ أسباب ومآلات الحرب السعودية العدوانية بمعزل عن المتغيرات الإقليمية والدولية، التي باتت متداخلةً بشكل يبعث على الدهشة والحيرة معاً. وهذا يعني بالمجمل أن الـيَـمَـنَ غدت أكثر انخراطاً في لُعبة الأمم، وأنها باتت أكثر أثراً وتأثيراً في محيطها من أي وقت مضى، ولا شك أن وجهَ المنطقة سيتغيَّرُ وفقاً للكيفية التي ستنتهي بها هذه الحرب!