أفق نيوز
الخبر بلا حدود

الوظيفة التربوية للزكاة

223

 د.حمود عبدالله الأهنومي

 

 

للزكاة وظائف وغايات سامية وهامة وذات أثر فاعل في حياة الفرد والمجتمع في الأمة المسلمة، وبقدر ما تؤدي الزكاة وظيفتها المالية والاقتصادية والاجتماعية فإنها أيضا تترك أثرا جميلا ورائعا في الجانب التربوي والإيماني للأمة بدءا بالمزكِّي وانتهاء بالفقير والمجتمع، وهي وإن كانت في ظاهر أمرها تصب في مصلحة الفقير وتسد حاجته وعوزه، إلا أن القرآن الكريم لما ذكر آثارها الإيجابية فإنه بيَّن أن آثارها تصب في صالح الغني (المُزَكِّي) بالدرجة الأساسية.

 

تعريف الزكاة تربويا

 

الزكاة لغة: مصدر «زكا» الشيءُ إذا نما وزاد، وزكا فلان: إذا صلح، فالزكاة هي البركة، والنماء، والزيادة، ومنه قول الإمام علي عليه السلام: «والعلم يزكو بالإنفاق»، وهي أيضا الصلاحُ، قال الله تعالى: (فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) [الكهف:81]، قال الفرَّاء: أي صلاحا، وقال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً) [النور:21]، أي ما صلح منكم، وتُطْلَقُ أيضا على الطهارة، ومنه قوله تعالى: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) [آل عمران: 164]، وقوله تعالى: (قد أفلح من تزكّى) [الأعلى:14].

 

ولعلها بهذا المعاني تسلط الضوء بشكل واضح على وظيفتها التربوية والنفسية والإيمانية، فهي والزيادة والصلاح والطهارة بالنسبة لمخرجها، وللمجتمع الذي ينتمي إليه، ومن هنا قيل لما يُخْرَجُ من حق الله في المال: «زكاة»؛ لأنه تطهير للمال مما فيه من حق، وتطهير لصاحبه، وتثمير له، وإصلاحٌ ونَمَاءٌ بالإخلاف من الله تعالى، وزكاة الفطر طهرة للأبدان.

 

إن مما يلفت النظر إليه قول الإمام علي عليه السلام: (سُوْسُوا إيمانَكم بالصدقة، وحَصِّنُوا أموالَكم بالزكاة، وادفعوا أمواجَ البلاء بالدعاء)؛ حيث بين أن الزكاة حصن للمال، يحفظه ويقيه من الزوال، والسلب، وانعدام البركات، وأن لا يقع فيه شيء من الحرام، ومن كل الأمور التي تؤثر سلبا على وظيفة المال وجوهره؛ وكون الزكاة – التي هي في ظاهر الأمر نقصان في المال – تحصينا له، أمرٌ غيبي مرهون بالإيمان بالله تعالى، والتوكل عليه، والثقة بما عنده، وبما يخلفه على المزكي، وماله، من البركات والخيرات، وهو أمر تربوي إيماني، تكون الزكاة عاملا أساسيا فيه.

 

يعتمد الإسلامُ على إيقاظِ الوازعِ الديني عند أفراد المجتمع المسلم، ويبني فيهم مقومات الإيمان وأركانه وأبعاده الوجدانية، والنفسية والتربوية والعملية بشكل منظم، ودقيق، وفاعل، ومؤثر، ولعل الزكاة من أهم تلك الفرائض التي تشارك في بناء المنظومة الدينية بأبعادها المختلفة في واقع المسلمين ووجدانهم، وغاياتهم، وبالتأمل فيها فإنها تعطي وظائف وآثارا تربوية على كل من الغني والفقير والمجتمع كله.

 

وظائفها التربوية على الغني

 

هدف الإسلام إلى معالجة وبناء الحالة التربوية والنفسية والوجدانية والعملية لدى الغني (المزكي) من خلال إلزامه بدفع جزء بسيط من أمواله، واعتبارها حق الله الذي يجب عليه أن يدفعه لبعض خلقه المحتاجين، وهذه بعض الوظائف والآثار التربوية التي تتحقق عند الغني:

 

أولا: يتحقق فيه معنى العبودية والخضوع المطلق والاستسلام التام لله رب العالمين، فهو عندما يخرج زكاة ماله طيبة بها نفسه، فإنه يعتبر مطبِّقًا لشرع الله، منفذا لأمره، شاكرا للمنعم على تلك النعمة التي أنعم بها عليه، قال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:7]، وهذا أمر ينمِّي حالة اليقين بهذه العبودية لله، وهي قضية ركّز الإسلام على تثبيتها في نفس المؤمن الحق.

 

ثانيا: ينمو لدى المخرِج لزكاته الإيمانُ واليقينُ بأنَّ ما عند الله خيرٌ وأبقى، وأن الخَلَفَ من الله مضاعَف، والحسنة بعشر أمثالها، وأن المال بالزكاة ينمو ويزكو ويكثر وتحل فيه البركات؛ ولهذا يقول الله تعالى: (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) [الروم:39]، ويقول تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261]. ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (من أيقن بالخلف جاد بالعطية).

 

ثالثا: إن الزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب، بل هى أولا غرسٌ لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيدٌ لخليقة المحبة في قلب هذا المزكِّي وغيرِه من أفراد الأمة، وإذا كان المال وتكدُّسُه قد يحمل الإنسانَ على الأنانية والشعور بالأثرة النفسية فإن إخراج الزكاة كفيل بإعادة التوازن النفسي والإيماني والأخلاقي والقيمي للمزكي، وكفيل بربطه بالواقع، وبالأمة من حوله، وبإشعاره بأنه فرد ضمن أمة تتحرك إلى الله جميعا، وبطريقة عادلة ومنصفة، ولا ريب أن تنظيف النفس من أدران النقص والتسامي بالأمة إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى من تشريع الزكاة.

 

رابعا: يلتحق المزكي بركب الكرماء ذوي السماحة والسخاء، والفضل والعطاء، وتستوجب الزكاة اتِّصافَ المزكي بالرحمة والعطف على إخوانه المعدمين، وتنمي فيه مشاعر الأخوة والرأفة والتواصل الإنساني (والراحمون يرحمهم الله)، وهذا يصنع منهم أعلاما للمجتمع، وقدوات صالحة داخل الأمة، تحمل أفراد الأمة على التأسي بهم، ومن ثم يتم إشاعة أجواء التعاطف والتواد والتراحم والتلاحم والتماسك.

 

خامسا: من المشاهَد أنَّ بذْلَ المال والعطاء للمسلمين يشرح الصدر، ويورث السعادة، ويبسط النفس، والإنجاز في هذا المجال يوجب أن يكون الإنسان سعيدا بحسب ما يبذل من النفع لإخوانه، وهذا يعود بالصحة النفسية والتربوية على المزكي وأهله ومحيطه المجتمعي، بخلاف ما لو كان صاحب المال شحيحا قتورا فإنه يظل في حالة من البؤس والقتر والتضييق تجعله يعيش عيش الفقراء على الرغم من أنه محسوب على الأغنياء.

 

سادسا: تتطهَّر نفسُ المزكِّي من الشُّحِّ والبخل، فتعتاد نفسه على البذل والعطاء للفقراء ولغيرهم؛ الأمر الذي يحقِّقُ التآلفَ والمحبة بين أفراد المجتمع؛ قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [التوبة:103]، وهذا أهم درس يستفيده المزكي، وهو ما ركّز عليه القرآن الكريم كجزاء لإخراج الزكاة، وعلة لتشريعها.

 

تطهرهم وتزكيهم بها

 

لَفَتَ الخطاب القرآني إلى الفائدة الأولى الناتجة عن الزكاة وأنها تعود أصلا للمزكي، بحيث لو خُيِّر المزكي بين إخراج الزكاة ومنعها وقد كشف له الغطاء عن الآثار الإيجاية والنتائج الإيمانية والأرباح العديدة والتي يحصل عليها مع الزكاة – لاختار إخراج الزكاة طيبة بها نفسه.

 

إن الخطاب القرآني يبين للغني أنه الرابح الأعظم في هذه العملية؛ قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، «والتزكية: جعْلُ الشيءِ زكياً، أي كثير الخيرات . فقوله : (تطهرهم) إشارة إلى مقام التخلية عن السيئات. وقوله : (تزكيهم) إشارة إلى مقام التحلية بالفضائل والحسنات. ولا جرم أن التخلية مُقَدَّمة على التحلية. فالمعنى أن هذه الصدقة كفارة لذنوبهم، ومجلبة للثواب العظيم لهم.

 

والصلاة عليهم: هي الدعاءُ لهم، … وقد كان النبي صلى الله عليه وآله سلم بعد نزول هذه الآية إذا جاءه أحد بصدقته يقول: اللهم صلِّ على آل فلان، والصلاة من الله الرحمة، ومن النبي الدعاء.

 

وجملة: (إن صلاتك سكن لهم) تعليلٌ للأمر بالصلاة عليهم بأنَّ دعاءَه سَكَنٌ لهم، أي سببُ سَكَنٍ لهم، أي خير. فإطلاق السَّكَنِ على هذا الدعاء مجازٌ مرْسَل. والسَّكَنُ: ما يُسْكَنُ إليه، أي يُطْمَأَنُّ إليه ويُرْتاحُ به». «وفي تفسير الإمام زيد بن علي عليه السلام لقوله تعالى: (إن صلاتك سكن لهم) معناه: دعاؤك سَكَنٌ لهم وتثبيت».

 

آثارها على الفقير

 

-تظهر الآثار التربوية على الفقراء والمعوزين الذين يأخذون الزكاة، من حيث إزالتها للأحقاد والضغائن من صدورهم، وتسلُّ السخائم من قلوبهم؛ فإنهم إذا رأوا تمتع الأغنياء بالأموال وعدم انتفاعهم بشيء منها، لا بقليل ولا بكثير، فربما يحملون عداوة وحقداً على الأغنياء حيث لم يراعوا لهم حقوقاً، ولم يدفعوا لهم حاجة، وهذا يشكل خطورة على الغني وماله والمجتمع أيضا، فذهاب هذه الأحقاد والسخائم مطلب مهم، يساعد المجتمع من التخلص من الإعاقات التي تكبح حراكه الإيجابي وتحركه إلى الله.

 

وحين يستشعر الفقير اهتمامَ الغنيِّ به، فإنه يحب الغني، ورجال الأعمال، ويتمنى زيادة مال الغني بدلا من زواله ليبقى حظه في ذلك المال، وسيتحرك في واقعه اليومي بالشكل الذي يحفظ الأمن والاستقرار، في الوقت الذي يكون فيه الغني وأمواله أحوج ما يكون إلى هذه الحالة من الاستقرار، ولا يخفى ما في هذا من زيادة الألفة بين أفراد المجتمع والتآخي بدلاً من التدابر والقطيعة والبغضاء.

 

الآثار على المجتمع

 

أما آثار الزكاة على المجتمع فكثيرة، منها: أن تجعل المحبة والتآلف بين فئات وطبقات المجتمع يسودان بدلاً من الكراهية والنفور، ويذيب الفوارق بين أهل الغني وأهل الفقر، ويجعل الجميع يستشعر واجبه تجاه الآخرين، ويتحقق مبدأ الترابط والألفة؛ لأن النفس البشرية جبلت على حب من أحسن إليها، وبذلك يعيش أفراد المجتمع المسلم متحابين متماسكين كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، وتقل حوادث السرقة والنهب والاختلاس، ويسهم هذا الأمر في قطع دابر الجريمة والاستقرار الأمني في البلاد فلا يمكن أن تُحدِّث الفقير نفسه بسرقة مال الغني أو إتلافه مادام الغني يعطي الفقير حقه من الزكاة.

 

وعليه فإن المجتمع يعيش حالة من التكامل والتنوع والتحرك الدائم نحو الكمال المنشود والنهضة المطلوبة، في جو مفعم من المحبة والمودة، وفي بيئة مستقرة، تساعد على النهضة وقيام الأمة بمسؤولياتها في الكينونة أمة قوية ناهضة متماسكة، تستطيع مواجهة أعدائها والإعداد لهم بقوة روحية، وتماسك مجتمعي، وترابط إنساني، وفي هذا ما فيه من موجبات النصر، ومقومات العزة والعظمة.

 

وبهذا يتبين أن القرآن الكريم يلفت عناية المسلمين ويربي فيهم أن المعطي هو الذي ينال الخير من عطائه قبل الآخذ، وأن ذلك يعود بالطهارة والزكاء عليه وعلى حالته الإيمانية، والنفسية، والاقتصادية، ويعود بالبركة والنماء على ماله، ويحصنه من الضياع وقلة البركات.

 

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com