عهد الإمام علي عليه السلام للأشتر
أفق نيوز – بقلم – عبد الرحمن مراد
تمر هذه الأيام ذكرى الولاية أو عيد الغدير كما يعتاد أهل اليمن على تسميته, وهي ذكرى لها مساقاتها النظرية وعللها ويدور حولها جدل في الفكر الإسلامي بين من يرى فيها حقا وبين من ينكرها , وما يزال فكرنا المعاصر يجتر ذلك الجدل التاريخي إلى اليوم , فحين تقرأ في شبكة التواصل الاجتماعي تجد من يجتر آراء ابن حزم وابن تيمية أو غيرهما ثم يسقط ذلك كمسلمات عقلية لا يجوز نقاشها , وقد تشعر من خلال النقاشات في شبكة التواصل الاجتماعي وكأن الإمام علي -عليه السلام- أصبح عدواً للحركات والجماعات والمذاهب التي تمتطي الدين سلما للوصول إلى كرسي السلطة ثم تنقلب على الدين وتضعه وراء ظهرها .
الإمام علي -كرم الله وجهه- لم يكن يبحث عن سلطة ولا مال حتى تذهب تأويلات تلك المذاهب التي نقرأها في شبكة التواصل الاجتماعي , فهو الرجل الحكيم الذي حمل روح الإسلام وجوهره في كل المراحل , وفي سيرته ما يفيد ويعلل ويرد الكثير من الأباطيل والكذب , فالخلفاء لم يستغنوا عن حكمته بل قال عمر قولا مشهورا : “لولا علي لهلك عمر” , ومن المعيب على بعض المذاهب أن تقف من الإمام علي موقف الخصم وموقف العدو , ولعل من كبائر الأمور أن يقف العالم من حولنا مندهشاً ومنبهراً من حكمة الإمام علي وفي بني الإسلام من يناصب الإمام العداء ويمعن في التنكر والبلاء .
في عهد الإمام عليه السلام للأشتر حين ولاه مصر ما نباهي به الأمم, فهو عهد يسبق الفكر السياسي المعاصر في كيفية إدارة الدولة , وسياسة الحكومة , ومراعاة حقوق الشعب , وفيه نظريات الإسلام في الحاكم والحكومة ,ومناهج الدين في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والحرب والإدارة والأُمور التعبدية والقضائية.
فالعهد يمثّل نظاماً وقانوناً إدارياً، وهو لا يتناول البحث في العموميات بل يذهب إلى التفاصيل الصغيرة لتكون معلماً ومنهاجاً يسير عموم الناس عليه , وحين غلب الهوى على مقاصد الدين فسد من أمر المسلمين ما فسد وها نحن نجني ثمار ذلك الفساد تخلفاً وتيهاً وضياعاً .
وهذا العهد أعتُمِدَ في الأمم المتحدة كونه من أوائل العهود والرسائل الحقوقية التي تحدد الحقوق الواجبات بين الدولة والشعب؛ وقيل أن هذا العهد وصل إلى أذن الأمين العام للأُمم المتحدة عبر زوجته السويدية ، وقد قال الأمين العام للأمم المتحدة حين اطلع على العهد : إنّ هذه العبارة من العهد يجب أن تعلّق على كلّ المؤسسات الحقوقية في العالم، والعبارة هي :
“وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظيرٌ لك في الخلق” .
وهذه العبارة جعلت كوفي عنان ينادي بأن تدرس الأجهزة الحقوقية والقانونية عهد الإمام لمالك الأشتر، وترشيحه لكي يكون أحد مصادر التشريع للقانون الدولي، وبعد مداولات استمرّت لمدّة سنتين في الأمم المتحدة صوّتت غالبية دول العالم على كون عهد علي بن أبي طالب لمالك الأشتر كأحد مصادر التشريع للقانون الدولي وقد تمّ بعد ذلك إضافة فقرات أُخرى من نهج البلاغة غير عهد علي بن أبي طالب لمالك الأشتر كمصادر للقانون الدولي.
ولعلنا نلاحظ ماهي اهتمامات العالم من حولنا وكيف يتعاملون مع الفكرة بغض النظر عن طبيعة قائلها وعن عرقه ودينه ومذهبه , في حين نستغرق انفسنا في الشكليات وفي العداوات .
نحن اليوم وفي هذه المناسبة بالذات مطالبون بقراءة عصرية لفكر الإمام علي -عليه السلام- إذا رغبنا بدولة مدنية عادلة ومستقرة , فإذا كانت الأمم الأخرى تقر أن فكر الإمام علي –عليه السلام- أحد مصادر التشريع فلماذا لا نستمد منه نحن المسلمين تشريعاً كاملاً ؟ .
القضية اليوم في جُلِّ ما ترمز إليه في التفاعلات الاجتماعية والثقافية هي في عودة الأشياء إلى طبيعتها , فالغدير محطة تبعث نفسها كي نعيد ترتيب أنساقنا ومساربنا الفكرية ,ونعيد البناء على ضوء من المحبة والولاء , ففي فكر الإمام علي بن أبي طالب ما يجعلنا نسابق العصور والأزمنة , وكل فكر يستمد من القرآن لا تبلى محامده ويظل يعيش المستقبل كفكر قادر على العطاء والتحرك في فضاء الإنسان وحاجاته .
المحزن أن لديناً تراثاً عظيماً وفكراً متحركاً ومبادئ سامية وإسلاماً فاعلاً إلا أننا عطلنا قدراتنا الفكرية فوقعنا في الشر المستطير الذي أصاب الأمم من قبلنا وهو التيه والضياع .
العالم من حولنا يقدِّر رموزنا وينزلهم منازلهم ونحن ما نفتأ نحط من قدرهم ولا قضية لنا سوى النيل منهم عبر خصومهم في زمنهم دون دراية وفقه وتمعُّن وفكر, ويسير الخلف في كل الأزمنة على ما سار عليه السلف , ولذلك تجد دكتوراً جامعياً يغرد أو يكتب منشوراً في الفيس بوك يردد ما قاله رموز منهجه الفكري دون تمحيص وفهم وإدراك .
لقد وصلت الأمة إلى منحدر خطر جداً, إن لم تصحو وتعيد قراءة تراثها الفكري بوعي العصر فسوف يستمر ضياعها ويستمر هوانها على الأمم .