وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً
أفق نيوز | من هدي القرآن |
يقال في [علم الكلام] بأنه أشرف العلوم؛ لأن موضوعه هو معرفة الله سبحانه وتعالى، ومعرفة الله هي أعلى شيء، فالفن الذي يتناولها هو أشرف العلوم؛ لذلك يبادرون به وبكتيّبات صغيرة إلى الأطفال من سن البلوغ يكون قد بدأ بمعرفة الله؛ لأنها أهم شيء.. لكن هكذا ننظر للأشياء وننطلق فيها بحسن نية وبإخلاص وكأن القضية متروكة إلينا نحن، أن نرسم الأشياء على ما نرى, وعلى ما نلمس بأن فيه رضا الله, وفق رؤية انطلقت من داخلنا دون اعتماد كبير على القرآن الكريم بأنه كتاب شامل يعطي مناهج للمعرفة أيضاً، ومناهج للتربية ومناهج للعمل في مختلف شئون الحياة..
{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} هذه وحدها تكفي لمن يتأمل؛ لأننا نقول: إن الله سبحانه وتعالى هو العالم هو العليم {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (الأنعام: من الآية73) {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (البقرة: من الآية255) {يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الفرقان: من الآية6) إذاً هو العالم.. أليس كذلك؟ هو العالم واسع العلم، هو من أحاط بكل شيء علماً، فهو من يجب أن نلتفت نحوه ليعلمنا، وليس فقط أن ندعوه أن يرزقنا العلم وننطلق من مصادر أخرى نبحث عن العلم.
{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي} زدني أنت {عِلْماً}، حتى العلوم الأخرى هذه الاختراعات، وعلوم الصناعة، يقال: إن كثيراً من المخترعين ـ وهم أثناء تجاربهم ـ يلمسون وكأن هناك شبه توفيق إلهي أو تدخل إلهي في المسألة، فيرشدهم إلى شيء معين فيبتكر شيئاً من خلال تجاربه المتعددة.
يلمس البعض منهم يداً غيبية تتدخل في القضية، يطلب الشيء فيبرز إلى الوجود من الاختراعات العظيمة غير ذلك الشيء الذي كان متجهاً نحوه وهو يجري تجارب يريد شيئا آخر.
واسع العلم، من وسع كرسيه السموات والأرض، من أحاط بكل شيء علماً.. أليس هو الذي ينبغي أن نعرفه من خلال ما يهدينا إليه هو، من خلال كتابه الكريم؛ لأنه هو من خلقنا، هو من يريد أن نعرفه تلك المعرفة التي تترك أثراً في نفوسنا، وليست معرفة بمجرد المعرفة، أو علماً بمجرد العلم، فنقول: كم قرأت في كتب الكلام؟ -التي سميت فيما بعد: [كتب أصول الدين]!- كتاب كذا، وكتاب كذا، وكتاب كذا، إلى آخره.. ما شاء الله، نقول هكذا.
عالم.. عالم لمجرد العلم، وعقائد لمجرد العقائد، علم محدود عقائد أتعامل معها بشكل أحكام أصدرها، وليس هناك أثر لها في النفس.
أما القرآن الكريم فهو كتاب عملي، كتاب عملي، معرفة تترك أثراً في النفوس، تترك هذه النفوس أثراً في الحياة، معرفة تزكو بها النفوس، فينعكس أثر هذه النفوس صلاحاً في هذه الحياة، والله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان هو يعلم من أين يأتي له، وكم هي المداخل ليعرف إلهه، المعرفة العملية.. ألسنا نرى في القرآن الكريم كيف كان يهدد الكافرين بجهنم، هذا على طريقة المعتزلة ونحوهم غير منطقي؛ لأنه تهدد الكافرين بجهنم، وهو بعد لم يؤمن بمحمد ولا بالقرآن، لم يؤمن بعد بهما حتى تهدده بجهنم، وجهنم إنما جاء الخبر عنها من قبل القرآن الكريم ومن قبل رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله).. إذاً فهذا غير منطقي، سيكون كثير من القرآن غير منطقي.
لكن من يدري أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم أن هذا الإنسان ـ وإن كان ما يزال جاحداً ـ أن أسلوب القرآن وأسلوب النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) هو ذلك الأسلوب الذي ينفذ إلى أعماقهم رغماً عنهم، ينفذ إلى أعماق نفوسهم رغماً عنهم.
فيسمع التهديد والإنذار بأنه إذا ما كذبوا قد يحيق بهم ما حاق بالأمم السابقة، قوم صالح.. وقوم هود وقوم نوح.
ألم يظهر في القرآن الكريم تهديد للكافرين، كيف تهددهم وهم بعد لم يؤمنوا بالقرآن الكريم ولم يؤمنوا بمحمد (صلوات الله عليه وعلى آله)؟ لكن محمداً, شخصية محمد (صلوات الله عليه وعلى آله)، كماله والمعجزات التي تظهر على يديه هنا وهناك هي مما يترك أثره في النفس، حتى وإن كان صاحب هذه النفس ما يزال معلناً لكفره وجاحداً، عندما يسمع التهديد لا بد أن يترك أثره في النفس، ولو في لحظة من لحظات يومه أو ليلته، ولو قبيل نومه وهو فوق فراشه مسجى بلحاف، وهي اللحظة التي ـ عادة ـ يفكر الإنسان فيها كثيراً.
هذه المعرفة معرفة عملية تدفعك لتغوص إلى أعماق نفسك، ثم تدفعك عملياً إما أن تكون ممن ينطلق على وفق الهدى والإيمان، أو تتجلى هناك، تتجلى هناك خبيثاً منافقاً أو كافراً.. ما الذي حصل في تاريخنا نحن؟ عالم بعد عالم لم يظهر لك مؤمن بشكل صحيح أو منافق بشكل واضح أو كافر بشكل واضح، صفوف علماء من هذه الطائفة، وصفوف داخل هذه الطائفة، وصفوف هنا وصفوف هناك، لم تتجل الأشياء؛ لأن ما قدم, لأن ما في داخلهم ليس من النوع الذي يجلي بشكل كامل.
مع أن الجميع يصبغون ما يقدمونه بصبغة إيمانية، فهو لا يرى نفسه بالتأكيد أنه مصيب, أو أنه مخطئ، أنه مؤمن أو أنه منافق، أنه محق أو أنه مبطل، أنه مهتد، أو أنه ضال؛ ولهذا وجدنا في الساحة أشياء كثيرة من الضلال وأصحابها يقدمونها على أنها من دين الله، ويتعبدون الله بأنهم يقدمونها لعباده.. ضلال كثير نزل.
لكن القرآن الكريم هو وحده ـ إذا ما حاولت أن تهتدي به ـ ستعرف نفسك من خلاله، كتاب عملي، تعرف نفسك من خلاله، وتعرف الآخرين أيضاً من خلاله، وتعرف الفنون الأخرى من خلاله، وتعرف الحياة كلها من خلاله، وتعرف إلهك بالشكل الذي يليق بك كعبد له أن تعرفه به، تتجلى لك الأمور, تتجلى لك المواقف.
فنحن عندما نتحدث عن معرفة الله سبحانه وتعالى نتناول أشياء كثيرة من خلال القرآن الكريم مما قد يرى البعض بأنها تدل على جهل أن نتناولها ونحن في إطار الحديث عن معرفة الله, من أجل أن نعرف كيف نتولاه فنكون من أوليائه بتوفيقه.
الحديث عن نعم الله سبحانه وتعالى مهم جداً، في القرآن الكريم آيات كثيرة تناولت كرم الله سبحانه وتعالى وإحسانه العظيم إلى عباده في ما أسبغ عليهم من النعم الظاهرة والباطنة.. وتأتي لأكثر من هدف أو لأكثر من غاية، فدلائل على قدرته سبحانه وتعالى، على حكمته، على رعايته، على حسن تدبيره, على عظم إحسانه إلى عباده ليحبوه ليعظموه ليجلّوه، ليخلق في نفوسهم ذلك الأثر الذي تجد في نفسك أمام أي نعمة تسدى إليك من الآخرين.
هذه المشاعر مهمة جداً، عندما نستشعر عظم إحسان الله إلينا، عظم إنعامه علينا بنعم كثيرة جداً.. نعمة الهداية، نعم مادية كثيرة، نعمة كبيرة فيما أعطانا من هذه الكيفية التي قال بأنها أحسن تقويم {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}(التين:4).
تلك المشاعر التي تتركها هذه، نظرتك إليها، نظرتك إلى من أسداها إليك، تلك المشاعر مهمة جداً في ربطك بالله، في ثقتك بالله، في انطلاقك في طاعته، في ابتعادك عن معصيته، في خوفك منه، في إجلالك له، في حيائك منه، في حرصك على رضاه.
فتصبح في حالة لست بحاجة إلى من يأتي يحلل لك المسألة.. أنه لماذا وجبت الطاعات، من أين وجبت علينا، أليس هذا من منطق المتكلمين؟ كيف عمل الواجب حتى وجب؟ ومن أين وجب حتى وجب؟ من أين؟ وكيف عمل؟ ما هو الذي يعتبر منطقياًَ، وشيئاً منطقياً يسوِّغ أن يكون هذا الواجب واجباً، من أين وجب الواجب حتى أصبح واجباً؟!.
لستم بحاجة إلى هذا التحليل بكله، الذي يجعلك هناك، والله هناك، وكأنه لا علاقة بينك وبينه، معرفته الواسعة التي تسيطر على كل مشاعرك، هي التي تدفعك، هي التي تجعلك تقر بعبوديتك لله سبحانه وتعالى، فلا تحتاج إلى من يأتي ليشعرك بأنه واجب عليك، وبأنك ملزم بكذا وكذا، أنت ترى أن المسألة فوق مجرد واجب وفوق مجرد إلزام
أنت أصبحت تسير تلقائياً نحو الله سبحانه وتعالى.. قلبك مليء بحبه.. نفسك كلها سلمتها له.. في حالة كهذه متى يمكن أن يجول بخاطرك تساؤل: من أين وجب الواجب حتى وجب؟. هذا التساؤل في الأخير يجعلك تتساءل من أين لزم اللازم حتى لزم.
إذاً لا بأس هذا لزمني لكن مجاملة، هكذا مجاملة، أو ليس معي مجال منه، لا بأس لزم لكن يمكن يكون لك حيَل شرعية لأجل أن لا يلزم، ثم تنطلق في طريق التهرب من أن يلزم، من أين يجب؛ لأنه هو مقدار العلاقة فيما بينك وبين الله، فأنت مكره: [مكره أخاك لا بطل] كما يقولون. وجب، يقال واجب وغصباً عنا، وإن كنا لم نعرف بعد لماذا وجب، لزم وإن لم نكن نعرف بعد لماذا لزم؟ لكن لزم؛ لأن الصيغة جاءت بعبارة [افعل] أو نحوها، فتأتي القواعد التي تفتح الأبواب أمامك، فتجعل هذا ما يلزم، فتتعلم كيف تتهرب من أن يلزم، ما يلزم، كيف تتهرب من أن يجب الواجب بالنسبة لك.. ثم نقول: عالم، عالم، وهو يتهرب عن الله، وهو يتهرب هناك عن أي شيء يلزمه، فيقول: يمكن أن نحاول أن لا يلزمنا، وهذا الشيء لم يلزمنا، وما قد وجب علينا.. وهكذا.
هل هذا ممن يمكن أن نقول فيه:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: من الآية28) لو أن قلبه مليء بخشية الله، لو أن قلبه مملوء بمعرفة الله الصحيحة، لو أن قلبه مليء بحب الله لما كان على هذا النحو، فيسير في طريق التهرب من الأعمال التي فيها رضا الله، حتى وإن كانت واجبة يتمسك بقواعد معينة تعفيه عن أن تكون قد وجبت عليه من وجهة نظر تلك القاعدة.
إذاً لا بد أن نعود إلى القرآن الكريم؛ لنعرف من خلاله أنفسنا كعبيد لله سبحانه وتعالى، لنعرف من خلاله المعرفة الواسعة لكمال الله سبحانه وتعالى.. إلهنا.. وربنا.. وسيدنا.. ومالكنا.. والمنعم علينا.
وحينئذٍ ستبدو، وسيبدو الحديث عن النعم في القرآن الكريم له أهمية كبيرة فيما يتعلق بنفسيتك، وفي تعاملك مع الله، وفي نظرتك نحو الله سبحانه وتعالى.
ما يدلك على أهمية هذا، أنه يقرن الحديث عن نعمه بإرشاد عباده إلى عبادته والأمر لهم بعبادته فيقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(البقرة:21 – 22).
ألم يتحدث هنا عن كيف يرعانا؟ الأرض بالنسبة لنا فراش، السماء بالنسبة لنا سقف، فكأن مجموع الأرض مع السماء بالنسبة لنا بناء نقيم فيه {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} وهذا الماء ينزل بسهولة لا يكلفنا شيء لا نحتاج إلى مضخات، ولا نحتاج إلى بقر [نسْنِي] عليها، ولا نحتاج إلى شيء ينزِّل المطر، وفي دقائق معدودة ترى الأرض مملوءة بالماء في دقائق معدودة، هذا الماء هو الذي يرتبط به كل حاجات الإنسان، كل حاجات الإنسان مرتبطة به.
{فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وأنتم تعلمون بهذا.. أنه الذي خلق الأرض وخلق السماء، وأنه هو الذي ينـزل الماء من السماء، وأن هذه الثمرات هو الذي أخرجها بما أنزل من الماء.. أليس للحديث عن نعم الله هنا علاقة بتوحيده؟ {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أليس للحديث عن نعمه أثر كبير في الدفع نحو عبادته؟ هو يقول: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أليس للحديث عن نعمه أثر كبير في ترسيخ حالة التقوى في النفس؟ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
يبدو الحديث وكأنه حديث عاطفي، وفعلاً تلمس في القرآن الكريم هذا الجانب، هذا الشيء، أو هذا الأسلوب يأخذ مساحة واسعة في القرآن الكريم، الحديث الذي يبدو حديثا عاطفيا، استعطاف {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أليس هنا يذكرنا بما عمل لنا؟ أم أنه يقول: اعبدوا ربكم وإلا فسوف نحرقكم.. هل قال هكذا؟ ممكن أن يقول هكذا؟ وهي حقيقة – إن لم تعبد ربك سيعذبك بعد أن يكون قد أرسل من يبلغك, من ينذرك، من يعرفك بعبادتك له
كيف تعبده لكن لا.. هذا وإن كان شيئاً حقيقياً، وقد يبدو في بعض الآيات، لكن يأتي في مقام التهديد بعد أن يكون الإنسان قد عرف الكثير، وطرق مسامعه الكثير من الآيات التي تأتي على هذا الأسلوب.. الاستعطاف.
[الله أكبر/ الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل/ اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
من ملزمة معرفة الله الثقة بالله الدرس الثاني
ألقاها السيد/حسين بدرالدين الحوثي
بتاريخ:19/1/2002م
اليمن – صعدة