أفق نيوز
الخبر بلا حدود

الدوافعُ المحرِّكة لمفاوضة الذات

34

أفق نيوز | د. عبد الرحمن المختار

تردّدَتْ كَثيرًا وبشكل واسع وعلى كافة المستويات، سياسيًّا وإعلاميًّا، وبمختلفِ اللُّغات، وحُبست انتظارًا لنتائجها أنفاس المغفلين، إنها المفاوضات التي لطالما وُصفت بدايات ماراثونات جولاتها بأنها إيجابية، وشخصيًّا كتبتُ كَثيرًا منذ أشهر خلت عن وَهْمِ وزيف وخداع وتضليل الترويج لتلك المفاوضات، ومن عناوين تلك الكتابات (إتقان الإدارة الأمريكية لُعبةَ الوساطة) وَ(الوساطة مُستمرّة والإبادة مُستمرّة) وَ(الإدارة الأمريكية المجرم الوسيط) وللإنصاف فقد تحدث بعض المحللين عن سبب عدم نجاح المفاوضات خلال المرحلة الماضية، وأن السبب يكمن في أن كيان الاحتلال يفاوض نفسه، وَأَضَـافَ البعض أن هذا الكيان المجرم يتفاوض مع حليفه الإدارة الأمريكية! ولم يكن يتفاوض مع حماس في المراحل السابقة، ومع حزب الله في الوقت الراهن!

والحقيقة أن النخبة العربية القادرة على قراءة الوقائع بالشكل الصحيح غائبة أَو مغيَّبة، والتعاطي مع هذه الوقائع بشكل يومي والتوصيف لما يجري لا يخلو من السذاجة إن أحسنا الظن بأُولئك المتحدثين على القنوات العربية وعلى مدى أكثر من عام، أما من انحاز منهم إلى العدوّ تبعًا لانحياز أنظمة الحكم العربية الوظيفية، فأُولئك يجتهدون غايةَ الاجتهاد في الترويج لما يخدم أهدافَه بتجريع شعوب الأُمَّــة الخداع الزيف والتضليل، وباستثناء النظرة الثاقبة للقيادات الجهادية، فَــإنَّ النخبةَ العربية منساقة تمامًا وراء تضليل الإدارة الأمريكية، ومنخدعةٌ بترويجها للحلول السحرية، التي ترفعُ سَقْفَها بدايةَ جولاتها التفاوضية، لتعلِنَ انهيارَها في نهاية كُـلّ جولة!

وقد تحدث أمين عام حزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم في أول خطاب له أنه لا قيمةَ لما يجري على الساحة العربية من حراك سياسي! ولا تعويلَ على ذلك، وهذه النظرة تكرّرت وتتكرّرُ باستمرار في أحاديث القيادات الجهادية في محور المقاومة، لكن أثرها محدود؛ بسَببِ توظيف الإدارة الأمريكية وغيرها من القوى الاستعمارية الغربية، والكيان الصهيوني الوظيفي، والكيانات العربية الوظيفية لماكينة إعلامية ضخمة جِـدًّا لترويج الخداع والزيف والتضليل؛ بهَدفِ صرف نظر الرأي العام عن حقيقة دور القوى الاستعمارية في الجريمة المقترفة منذ أكثر من عام في قطاع غزة وامتداداتها إلى الضفة الغربية ولبنان!

وليس عنا ببعيد ذلك الترويج الصهيوأمريكي خلال شهر سبتمبر الفائت، لوقف وشيك لإطلاق النار على طول الحدود اللبنانية مع الأراضي المحتلّة، ولم يكن لوسائل الإعلام من تناول سوى هذا الوقف المرتقَب، الذي أُشيعت حوله أجواءٌ غايةٌ في الإيجابية والتفاؤل، خُصُوصًا عندما تزامن ذلك الترويجُ مع البيان الرئاسي الأمريكي الفرنسي المشترك، وإعلان وزير الخارجية السعوديّ عن ولادة ما سُمي بـ (التحالف الدولي لحل الدولتين)، غير أن تلك الأجواء انتهت بالعملية الإجرامية التي استهدفت أمين عام حزب الله سماحة السيد المجاهد الشهيد حسن نصرالله –رضوان الله عليه- وانتهى في حينه تمامًا أي حديث عن وقف إطلاق النار أَو استمرار التفاوض، وكل ما تناولته الماكينة الإعلامية لقوى الإجرام، هو استمرار الهجمات الصهيونية على لبنان للاستفادة من حالة الإرباك لتفكيك حزب الله!

وبعد استيعاب مجاهدي حزب الله أثر الصدمة، وبمُجَـرّد استعادتهم زمام المبادرة، والبدء بتوجيه ضربات منكلة بجيش الاحتلال الوظيفي الصهيوغربي، والتي أصابت بالذعر قطعان المستوطنين في كامل النطاق الجغرافي للأراضي المحتلّة، عادت إلى الواجهة الإعلامية والسياسية سردية المفاوضات، وما توفره من فرص ثمينة لوقف إطلاق النار وإحلال السلام، واتسعت المساحات في مختلف وسائل الإعلام للترويج لجولات جديدة من المفاوضات، وبعثت الإدارة الأمريكية بموفدَيها (هوكتسين) إلى بيروت والأراضي المحتلّة وَ(بلينكن) إلى المنطقة عُمُـومًا، بالتزامن مع تشغيل أدواتها في المنطقة من أنظمة عربية وظيفية، لإشاعة أجواء التفاؤل بقرب التوصل لوقف وشيك لإطلاق النار في لبنان وغزة، لينتهي الأمر من جانب الأمريكي وبشكل مفاجئ بالإعلان عن فشل الجولة التفاوضية، وليعبر رئيس الحكومة اللبنانية عن دهشته من هذه النتيجة غير المتوقعة التي جاءت بالعكس تمامًا من الأجواء التفاؤلية التي سادت اللقاءات السابقة لها.

ورغم أن النتيجة التي انتهت إليها جولة (هويستين، بلينكن) هي المتوقعة وفقًا للمعطيات، لكن البعض يتمسك بالسير وراء زيف وخداع وتضليل الإدارة الأمريكية، ويتلقى الصدمات المتتالية في جولات الوَهْمِ التفاوضية، وليس هناك من حَـلّ أمام النخبة العربية لتجاوز حالة التبلد والسذاجة سوى تسليط الضوء على الدور الحقيقي للإدارة الأمريكية في الجريمة، والإشارة إليها وفقًا لذلك بكل وضوح، لنزع قناع الزيف والخداع والتضليل الذي ترتديه، ووصمها بكل صراحة وصرامة بعار الجريمة، التي اقترفتها ولا تزال تقترفها إلى اليوم، أما بغير ذلك فعلى الجميع أن يتوقَّعَ من الجولات التفاوضية للإدارة الأمريكية أكثر مما ترتَّبَ على سابقاتها من نتائج، وعلى الجميع أن يضعَ علامةَ استفهام كبيرة بحجم مأساة غزة ولبنان عن سبب انتهاء الجولات التفاوضية منذ أكثر من سنة إلى تلك النتائج!

وسيدرك الجميع أن ما جرى ويجري ليس تفاوُضًا، ولا وساطة؛ لأَنَّه بكل بساطة لا وجودَ لطرف محايد يدير وييسِّرُ المفاوضات بين طرفَي النزاع المسلح، إن سلَّمنا جدلًا وقَبِلنا بوصف ما جرى بين الكيان الصهيوني وحماس، ويجري بين هذا الكيان المجرم وحزب الله، بأنه نزاع مسلح وفقًا لترويج الماكينة الإعلامية للقوى الاستعمارية الصهيوغربية، وكياناتها الوظيفية في المنطقة العربية، مع تمسُّكِنا وبإصرار شديد على سابق وصفنا لما جرى ويجري بأنه جريمة إبادة جماعية توزع أدوارها مجرمون متعددون ومحترفون بين مباشر لأفعالها ومشارك فيها بصور وأشكال متعددة!

وعلى كُـلّ حال، وحتى مع فرضية وصف ما يجري بأنه نزاع مسلح، فلا وجود -كما ذكرنا آنفًا- لطرف محايد ييسر المفاوضات بين أطراف هذا النزاع، والإدارة الأمريكية التي وصفناها في عنوان مقال سابق بأنها (المجرم الوسيط) تقدم نفسها منذ أكثر من عام بأنها وسيط إلى جانب وسيطَينِ عربيَّينِ شريكَينِ لها في الجريمة هما مصر وقطر، استخدمتهما للضغط على حماس، ومعرفة أوضاع المجاهدين الميدانية في غزة، ومدى قدرتهم على الصمود، لتستخلص نقاط الضعف وتتصرف سياسيًّا وميدانيًّا على أَسَاس ذلك، ولا يعني الإدارة الأمريكية بحال من الأحوال الوضع الإنساني لسكان غزة، بل إنها تضغط من خلاله على المجاهدين لتفرض عليهم خياراتها الإجرامية!

وليس هناك من دور مستقل للوسيطين العربيين مصر وقطر؛ فدورهما وظيفي ينحصر في خدمة الأهداف الإجرامية للإدارة الأمريكية، ولا يتعداه أبدًا إلى كونهما وسيطَينِ مستقلين أَو محايدين، وذات اللعبة لعبتها ولا تزال تلعبها الإدارة الأمريكية مع الحكومة اللبنانية، وبمساندة من الأنظمة العربية الوظيفية، وفي لعبتها التفاوضية ترسل الإدارة الأمريكية موفدَيها إلى المنطقة، أَو تستدعي إلى واشنطن أيًّا من موظفيها في قاعدتها المتقدمة المسماة دولة “إسرائيل”، وكما يجري الترويج حَـاليًّا لزيارة من يسمونه وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي (رون تيرمر) إلى واشنطن، وما تروج له ماكينتها الإعلامية من توفر فرصة حقيقية لوقف إطلاق النار في لبنان.

إن ما يجري في جولات المفاوضات -سواء تعلق الأمر بإرسال الموفدين من واشنطن، أَو استدعاء مسميات لموظفيها من قاعدتها المتقدمة في المنطقة- لا يعدو عن كونه تشاوُرًا بين فريق المجرمين وتقييم لنتائج أفعالهم الإجرامية، وآثار الأفعال المقاومة للجريمة، وهذا التشاور والتقييم يجري فقط بين الشركاء في الجريمة، وأما الأدوار المسندة للأنظمة العربية الوظيفية في ما يسمى بالجولات التفاوضية، فذلك لا يُخرج مسمى الجولات التفاوضية عن وصفها الحقيقي؛ باعتبَارها جولات تشاور لتقييم المجرمين لمسارات فصول جريمتهم، ومدى تأثرها بالأفعال المقاومة، فإذا ما وجد الشركاء المجرمون أن الأفعال المقاومة مؤثِّرة بادروا إلى تحريكِ جولات المفاوضات، فإذا ما تم إحراز تقدم ميداني لصالح فصل من فصول الجريمة يتم الإعلانُ عن فشل جولة المفاوضات وهكذا.

ولذلك فمن السذاجة الاعتقاد بأن الإدارة الأمريكية يمكن أن توقف الجريمة، إذَا كانت المعطيات لصالح استمرار اقتراف أفعالها؛ فالإدارَةُ الأمريكية مجرم، والمجرم معنيٌّ بتحقيق النتيجة الجُرمية لفعله الإجرامي، وما لم يتم قمعُ المجرم لمنعه من الاستمرار في اقتراف جريمته فلن يتوقَّــفَ من تلقاء نفسه إلَّا بعد تحقُّقِ نتيجة فعل الإجرامي، ومن السذاجة الاعتقاد أن الإدارة الأمريكية تقيِّمُ أي اعتبار للجوانب الإنسانية، فهذه الإدارة مجرم والمجرم متحلل من كُـلّ القيم الإنسانية والأخلاقية، والواجب إدراك حقيقة تأثير الفعل المقاوِم على تحَرّك الإدارة الأمريكية نحو إعلان التراجع تكتيكيًّا عن أفعالها الإجرامية أَو التذرع بالاعتبارات الإنسانية، لعقد جولات تفاوضية وهمية؛ فدافعها لذلك هو حمايةُ كيانها الصهيوني الوظيفي الإجرامي المسمى دولة “إسرائيل” من تصاعُدِ تأثيرات الفعل المقاوِم المزلزل لوجود هذا الكيان المجرم في المنطقة العربية.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com