أفق نيوز
الخبر بلا حدود

الطبيعة اللصوصيّة الوهابيَّة للحرب على اليمن

172

يمانيون../

للباحث الأميركي المهتم بالشأن اليمني، روبرت بوروس، أستاذ العلوم السياسية في جامعة واشنطن سابقاً، وصف دقيق اشتهر عنه للنظام السياسي الحاكم في اليمن، حين أَطلق عليه وسم الكلبتوقراطية (حكم اللصوص) الذي تتألف حكومته «من اللصوص، وباللصوص، ولأجل اللصوص»، وفقاً لتعبيره عام 2005.

ما لم يقله البروفيسور إن ذلك النظام إنما أنشئ بتدبير مدروس من الوهابية السياسية الحاكمة في الرياض ليكون وسيلتها الكابحة للمشروع الوطني في اليمن، والعاملة على تحقيق سيطرة وهابيتها العقائدية على مجتمعه، بتحالفه المبدئي مع تابعيها المحليين من أقطاب الإسلام السياسي تحالفاً أنتج ـ خلال عقود استبداده ـ تغوُّلَ الفساد والإرهاب وقاد إلى الفشل الاقتصادي والسياسي والحروب التي تبلغ ذروتها اليوم بحرب مملكتها السعودية ومواليها المحليين والعرب على اليمن.

وبنظرة متأنية في طبيعة الحرب الإقليمية الدائرة أهلياً على الأرض اليمنية منذ آذار 2015، نجد أنها ـ في جانبِ أساسي منها ـ حرب السلفية الوهابية دفاعاً عن وجودها وما حققت من نفوذ وتمكين على حساب غيرها في معظم جنوب جزيرة العرب، وخصوصاً في الجانب الشافعي من اليمن بمرجعيته السنية، بعد تلقيها ضربةً موجعةً خلال العامين الماضيين في «اليمن الزيدي».

حيث كانت هي نفسها، قد مثلت تهديداً وجودياً لزيديته ـ عقب التمدُّد في مجالها الحيوي الثقافي ـ باقتحام معقلها التاريخي الخاص البالغ الحساسية في صعدة منذ ما يقارب الـ 35 سنة.

ولا غرابة أن هذا التمدد لم يبلغ حد اقتحام ذلك المعقل إلا بعد نجاح السعودية في طي عهد الرئيس الحمدي ومشروعه الوطني النازع إلى المدنية، عبر أياديها القبلية والعسكرية المتطلعة إلى السلطة والثروة، وتأسيسهم على أنقاضه نظام الحكم اللصوصي الذي عمل بتحالفه مع رموز الوهابية والإخوان على خلخلة منظومة القيم الجمهورية «الحَمْدية»، بالتزامن مع السعي المتعمد إلى التصفية الثقافية للزيدية التي كانت قد جنحت سابقاً للسكون قبولاً بزوال كيانها السياسي ورسوخ الكيان البديل طالما توفر على ما يكفي من الحكمة لتجنُّب تهديد وجودها الثقافي العريق.

لكن ذلك الاقتحام السلفي الوهابي المُمكَّن له من قبل حلفائه السياسيين محلياً وإقليمياً، لم يكن حكيماً على الإطلاق، ولا حتى مسالماً كما قد يحتجُّ البعض بظاهره.

يكفي أن يستمع المرء

للأناشيد التي أخذت تروّج عشيّة الحرب وأثناءها

فكان أن تسبَّب ليس فقط في استنفار الزيدية العقائدية بعد تسليم، وابتعاثها حاضراً وقد كادت تندثر عنه في رواحها إلى التاريخ؛ بل استدعى كذلك بالضرورة استحضار جانب منها على الأقل مرجعيَّته الشيعية بعد اندثار فعلي. وعليه فإن الدور المحوري الذي تضطلع به السلفية الوهابية اليوم في هذه الحرب ليس إلا دفاعاً عما اكتسبته بتحالفها مع «الكلبتوقراطية» اليمنية من سيطرة وانتشار، في وجه ما جلبته هي على نفسها بتسفيه سواها وتضليله وحتى تكفيره، والعمل بالتالي على سحقه في أخَصِّ معاقله.

فالأمر مع الزيدية مختلف جداً عنه مع الصوفية في اليمن الشافعي جنوباً وغرباً، بل إنه مختلف مع الزيدية في «اليمن الزيدي» عموماً، عنه مع الزيدية نفسها في صعدة التي كان التمدد المُدَبَّر إليها «فعل» اقتحام أحمق سرعان ما بدأ بطبيعة الحال في توليد «ردِّ فعل» مساوٍ له ومعاكس عليه.

على أن لهذا البعد الطائفي (الذي يستثمره الطرف السعودي وحلفاؤه) في طبيعة الحرب الراهنة في اليمن نتائج عرضية أو غير عرضية مثيرةً للانتباه، يتمثل أخطرها في تطبيع وجود «القاعدة» وأخواتها الصادرات عن المورد الوهابي ذاته، وتقريب ثقافتها من العامة وتأصيلها في المجتمع اليمني الجنوبي والشافعي.

يشهد على ذلك ما رأيناه من حالات إسراف في العنف لا تعكس سوى تطبيع ممارسات التوحش وإدارته في مجتمعي عدن وتعز، أكثر مجتمعات الحواضر اليمنية اتصالاً بالمدنية، وتجسيداً لها.

يكفي ان يستمع المرء للأناشيد التي أخذت تروج عشية الحرب وأثناءها ولا تزال بطابعها الجهادي ومضامينها الطائفية التي توظِّف حتى مشاعر الجنوبيين وقضيتهم السياسية توظيفاً وهابياً يجتذب كثيراً من الفتيان والعامة في عدن وغيرها، لتدرك جانباً مما ذهبنا إليه.

وأن يستقصي حالات الذبح والسحل والتمثيل في التعامل مع الأسرى والمستسلمين والمأخوذين بالظنَّة والشبهات، ما لم يتورَّع عنه وعن تشجيعه كثير من عناصر «المقاومة الجنوبية» وحاضنها الشعبي المتدّين وغير المتدين، كما لم يستنكف عن تبريره بعض المثقفين بما يشبه الانفصام، لتُلِم بجانب آخر منه.

وله أن يسترجع مظاهر ومصطلحات الشحن الطائفي المنظم وتجليات خطابه السياسي والإعلامي التي مهدت للحرب وحشدت لها ولا تزال مستمرة حتى اليوم، فتطالع معجماً يكتظ بتعابير من نوع: «الروافض الفرس المجوس الأنجاس الشيعة الصفوية أهل البدع الكفرة أبناء المتعة المد الفارسي الاثنعشري…»، إلى آخر ما انحدر إليه إعلاميون ومثقفون ومستشارون للشرعية مما تجسّد ذروةً على لسان رئيسها نفسه يوم 21 آذار، حين بدا أمام الجميع كالمُلقَّن المضطر وهو يعلن بملء الفم أن «وراء الانقلاب على شرعية مبادرته الخليجية مؤامرة وأهدافاً شيعية اثني عشرية».

ومن هنا، تثار جملة تساؤلات:

أولاً، أنحن أمام صراع سياسي هدفه بقاء شرعية اللصوصية وسيطرتها على اليمن، استُعمِلت فيه قضية السلفية ـ كما استُعمِلت قضية الجنوب ـ وسيلةً غايتها كسب الحرب؟

أم نحن أمام صراع طائفي هدفه بقاء سلفية الوهابية وسيطرتها على اليمن، استُعمِلت فيه قضية الشرعية ـ كما استعملت قضية الجنوب ـ وسيلةً لتحقيق الغاية ذاتها؟

أم «كلاهما وتمرا»، بحسب المثل العربي؟

أياً كان الأمر، فإن دلالته على إدخال اليمن في حال قد تطول من الفوضى السياسية والاحتراب الداخلي، الطائفي وغير الطائفي، أخطر من أن يُستهان بها.

كما يُستدَل منه كذلك على أن كُلَّاً من قضيتي الشرعية والسلفية يمثل في ذات الوقت وسيلة وطرفاً له استحقاقاته وإن بدرجة متفاوتة في سياق ما يجري من صراع مصالح استراتيجية في المنطقة، باستثناء قضية الجنوب المستخدمة بقوة في هذه الحرب، لكن لا يُسمح لها سوى بأن تكون وسيلة فقط، يجرى توظيفها سياسياً وطائفياً واستثمار مقاتليها في المعارك، وضرب القيم المجتمعية الأصيلة في محيطها، من دون أن تُعتَبر طرفاً حقيقياً يُؤبه لاستحقاقاته مهما كان دوره في هذا الصراع حيوياً فاعلاً أو حتى فاصلاً في حسمه جنوباً.

بيد أن قضية الجنوب ليست وحدها الخاسر في الحرب الراهنة، فالغائب عن اهتمام الجميع فيها والخاسر الأكبر منها هو الوطنية اليمنية وقضيتها الكبرى (دولة المدنية والمواطنة) التي غُدِر بمشروعها من قبل التحالف الكلبتوقراطي الوهابي المكفول سعودياً في شمال اليمن قبل الوحدة، ثم أُجهِز عليه في جنوبه عقب انتقالية 1990 ـ 1994، ومن قبل التحالف نفسه، بعدما انضمت إليه أطراف جنوبية بقيادة ضابط مقتدرٍ عسكرياً فقط، سرعان ما أصبح نائباً مُستلَباً للرئيس طوال أكثر من عقدٍ ونصف العقد قُدِّر له بعدها أن يضطلع بأخطر الأدوار وأكثرها كارثية في تاريخ اليمن المعاصر بعد أن غدا ـ رغم عجزه السياسي (وربما بسببه) ـ رئيساً شرعياً مُستَلباً أيضاً لقوى الخارج الإقليمي، مستمداً من مبادرته الخليجية شرعيته المنتهية في شباط الماضي والخارج الدولي، مُستمِداً من تأويل قرار مجلس أمنه 2140 تمديد شرعيته المنتهية ذاتها. شرعية بلغ بها الاستلاب حدّ إلغائها عبارة «لن ترى الدنيا على أرضي وصيَّا» من النشيد الوطني للجمهورية اليمنية ما أن أطلقت في الرياض قناة فضائية تحمل وسم «الشرعية» أثناء بثها التجريبي في نيسان الفائت!

كان رجلُ الوطنية اليمنية وحامل قضيتها ومشروعها المقدم إبراهيم الحمدي ـ وهو العسكري القدير سياسياً والبعيد تماماً عن قيم الكلبتوقراط ـ قد أبى إلا أن يكون رئيساً حُرَّاً مرتبطاً بيمنه الجمهوري المدني وحده، لا وصاية عليه من أحد غيره، ولا ولاء عنده لأحد سواه. فانحاز بذلك إلى مطلب عامة اليمنيين الذين رأوا معه مشروعهم الوطني وقد بدأ يتحقق ملموساً خلال عاميّ رئاسته القصيرة التي أضعفت مراكز القوى التقليدية المحلية لصالح دولة السيادة والقانون والمواطنة التي ينشدون.

وهنا التقت مصالح تلك القوى المحلية مع الرياض، حيث استشعرت الوهابية السياسية خطر أن تحقق ثورة الجمهورية في اليمن ذاتها وغايتها الجوهرية بذلك المشروع الذي نجحت في منعه منذ 1962 بصفته محظوراً مطلقا. فهيأت ذراعيها المحليين: السياسي (الكلبتوقراطي العسكري الطامح إلى السيطرة الاقتصادية السياسية على الدولة) والعقائدي (الوهابي القبلي الطامح إلى السيطرة التربوية الثقافية على المجتمع) وحرَّكتهما للقيام في اليمن بأمرٍ عظيم، تتخلص به من مشروعه الوطني بتصفية رجله القائد ومن معه جسدياً أولَ الأمر، وهو ما أُنجز يوم 11 أكتوبر 1977 الأسود؛ ثم بتمكين أدواتها الطموحة الفاعلة بينهم من إقامة نظام حكم قادر على البقاء وأداء تلك المهمة، وهو ما أُخرج للناس يوم 17 يوليو/ تموز 1978 بعد توافقٍ ما على أن يرأس دولته عملياً رجلاها العسكريان ظاهراً وباطناً، بكفالة وكيلها القبلي شيخ الرئيسين. فكان أن أُنشئ في اليمن يومئذ النظام السياسي الذي غدا التوصيف الأكاديمي الدقيق له بحسب البروفيسور بوروس حكم اللصوص، برئاسة ترويكا زيدية الشكل فقط متحالفةٍ في جوهرها -وفق عهود خفية على الأرجح- مع الوهابية السياسية على قمع مشروع اليمن الوطني في الشمال واليساري في الجنوب من ناحية، ومع الوهابية العقائدية والإخوان على تصفية زيديته الثقافية في معقلها شمالاً إلى جانب بقايا صوفيته التي نجحت في إضعافها إلى حد بالغ جنوباً وغرباً، من ناحية أخرى.

ما لم يدُر بخلد جناحَيِّ النظام ومرجعيتهما في الرياض أن يؤدي مسعى الوهابية للقضاء على الزيدية ثقافياً في معقلها اليمني إلى النقيض مما أرادته تماماً من يقظة الزيدية ونهوضها بعد استجماعها كل ما من شأنه تأييدها وتعزيز قوتها بحيث انبعثت عائدةً من أفولها التاريخي عودة تصاعدية بالغة القوة عقائدياً وثقافياً معاً في صورة الحركة الحوثية وتجلياتها وولاء حاضنها الشعبي. فكانت تلك العودة القوية هي «ردُّ الفعل» المساوي والمعاكس لـ«الفعل» الأساس الذي استدعاه؛ وهي التي مكنتها من الصمود في وجه القوة العسكرية الضاربة للنظام وحروبه العاصفة الست خلال 2004-2010.

ولا شاهد على ما أسسنا عليه هذه المقاربة أبلغ من حقيقة أن السعودية قد أقحمت جيشها في الحرب السادسة على الحوثيين (أغسطس/ آب 2009 – فبراير/ شباط 2010) إلى جانب جيش النظام اليمني في مشاركة عسكرية مباشرة تعكس عمق قلقها ومدى إصرارها على سحق الحركة واستئصالها، بقدر ما تعكس سابق تورطها في تدبير فعل الاقتحام الطائفي المذكور آنفاً، ورعايته.

على أن تلك الحروب جميعها لم تجْدِ نفعاً سوى في زيادة عود الحركة صلابة أظهرتها في هيئة خصمِ لا يُقهر، تمكَّن هو لاحقاً من ضرب المقتحمين ومعظم حلفائهم المحليين وإخراجهم من معقله الزيدي، مستفيداً -ولا يزال- من انشقاق 2011 بين أركان أولئك الحلفاء انشقاقاً توَّج اختلاف الترويكا المذكورة بسبب جيل الأبناء والتوريث غالباً، بحيث خاضوا صداماً مسلحاً ترك بينهم صدعاً لم تتمكن السعودية من رأبه رغم كل محاولاتها الحثيثة لذلك حتى ما قبل تمكُّن اللجان الشعبية لحركة أنصار الله في خريف 2014 من دخول صنعاء بعد كسر الشوكة الجهادية والقبلية والعسكرية لخصومهم في كل من دمَّاج 2013 وعمران 2014.

تأسيساً على كل ما سبق، يمكننا فهم تأجيل التحالف الكلبتو-وهابي معركته الفاصلة الكبرى مع خصومه من 21 سبتمبر/ أيلول 2014 إلى 26 مارس/ آذار 2015 عند اكتمال التهيئة للتدخل السعودي المباشر الذي دُبِّر في ليل بذريعة حماية الشرعية، وعقب الترتيب الدقيق لنقل المعركة من صنعاء إلى عدن تحديداً بتهريب الشرعية إليها وافتعال معركة الأمن المركزي بخورمكسر يوم 19 مارس/ آذار تحريكاً للحرب ليس إلا، واستقداماً للطرف الآخر.

فقد كان لا بد من استدراج «رد الفعل» الزيدي القوي ذاك من يمنه الأعلى بمختلف الوسائل وأعجلها إلى نطاق اليمن الشافعي عامة والجنوبي على وجه التحديد؛ بحيث يبدو هو الآخر في هيئة «فعل» اقتحامٍ طائفي عصبوي جهوي، يخيف الشمال الشافعي بإسلامييه ويسارييه مستثيراً عقده التاريخية، من قحطانية وحميرية وجمهورية ومدنية، في مواجهة الشمال الزيدي، بعدنانيته وكهلانيته وملكيته وقبليته من جهة؛ ويستفز الجنوب وقضيته الشعبية، وجماهيرها المحتقنة على الشمال المُشيطَن عموماً عندها، استفزازاً مُركَّباً سياسياً ومذهبياً في الوقت ذاته، من جهة أخرى.

فبذلك فقط تضمن الوهابية السياسية وشرعيتها في اليمن أن يستدعي هذا «الفعل» الأحمق بصورته المقدمة للناس ما أرادته ودبَّرت له من «رد الفعل» المعاكس القوي الذي يمكِّن تحالفها من الانتصار التام برفع وكلائها «علم الجمهورية على مران»؛ أو يتيح لها على أقل تقدير تحقيق شبه انتصار بتسوية سياسية غير مهينة تحتفظ لها بسيطرتها على اليمن الشافعي وبعض الزيدي بحيث يستطيع رموزها أن يصرخوا بخصومهم من عدن ومن تعز ومن صنعاء قائلين: «يومٌ، بيوم» دماج، وعمران، وصنعاء.

كريم الحنكي ا الأخبار اللبنانية

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com