الأجندات «الإسرائيلية» والخليجية المعدة لتقسيم المنطقة العربية…
يمانيون – متابعات :
منذ دخول الاتفاق النووي الإيراني حيز التنفيذ بدأت دول المنطقة تتحرك باتجاهات مختلفة في محاولة منها لتطويق دور إيران الإقليمي المعترف به عالمياً. والملاحظ في هذا السياق أن الأنظمة العربية مستمرة بالسير خلف النهج السعودي القائم على عنوانين رئيسيين: تضخيم الخطر ”الشيعي” والتطبيع مع الكيان الصهيوني، وباستبعادها لخيار الانفتاح والتحاور مع إيران الجديدة الذي اتخذته واشنطن وشركاؤها الغربيون لتصحيح أخطاء ”المقاطعة الدبلوماسية” وتعزيز التواصل معها من أجل ”’حل قضايا أخرى” تكون قد فوّتت على شعوبها فرصة تاريخية للتعاون الشامل وتبادل المصالح الأمنية والاقتصادية مع دولة لها تأثيرها ووزنها الإقليمي!
فالسعودية وقطر والبحرين والإمارات… شعرت بعد إنجاز الاتفاق التاريخي النووي مع الغرب، أن النتائج التي تمخض عنها هذا الاتفاق لم تكن مرضية لهم، ما دفعهم إلى الارتماء في حضن «الكيان الإسرائيلي»، حتى يوفر لهم الحماية المزعومة مما يعتبرونه تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة، مخالفين بذلك قواعد العلاقات السياسية التي تدعو للتحالف مع الدول التي تتشارك معها بأكبر عدد من القواسم المشتركة، وبالتالي تكون فرص تحقيق المصالح أكبر بكثير، فالأنظمة الخليجية رأت في الكيان الصهیوني الحليف القوي رغم عدم توافر القواسم المشتركة اللازمة معه.
إنه التغير الذي عادة تتبعه التزامات أخرى، فلم تعد «إسرائيل» عدوا، وبالتالي هنالك من يطالب من الإعلاميين العرب بفتح سفارات «إسرائيلية» في بعض دول العرب… كل اللعبة الجهنمية الدائرة في الوطن العربي من أجل وصل بين البعض العربي و«إسرائيل»، بل هنالك تسابق لهذه الغاية، التي يسميها هذا البعض أمراً واقعاً لابد من الاعتراف به، ويرى فيها أنه تأخر في مد اليد لـ«الإسرائيلي» … فالوحدة العربية تمحو وجوده، والكيان العربي الواحد يغير من شكل حكمه إذا بقي، والعروبة كلمة ممجوجة برأيه وقد غادرتنا منذ أن توفي من رفع لوائها، أما «إسرائيل» فتحمي برأيه أيضاً، تمنع سقوط أصدقائها، تمدهم بالعمر المديد، فيما هي كيان غير مستقر، يستمد قوته من الضعف العربي، من هذا الآخر العربي.
بيد أننا في تقصي الإخفاقات والنجاحات على جبهتي الصراع السجال بين خندقي الرجعية والتقدم، نتبين أنه لم ينقطع يوماً حتى في ذروة النفاق الرجعي الذي كانت السعودية تسميه ”التضامن العربي” والذي كانت سورية تعرف أنه بوابة لاستدراجها إلى الجري في الملعب الأمريكي، وتتطلع في الآن نفسه إلى صيرورته تضامناً عربياً حقيقياً كفاحياً ضد المشروع الصهيوني. والذي حدث أن فاقد الشيء لا يعطيه. اذ إن خيبات واشنطن والرياض المتتابعة طيلة ثلث القرن، في بلوغ مرحلة شيوع التطبيع في وطن العرب، استوجبت كسر ظهر سوريا، كونها رافعة الممانعة القومية المانعة للتفريط بالأرض والحقوق. والذي حدث منذ عام 2011 على غزارة الدماء التي أريقت، هو محاولة أمريكية رجعية لتقويض مصدات الهرولة إلى «اسرائيل»، وبيد الرجعيات الإسلاموية في ليبيا ومصر وسوريا، يتقدمهم الإخوان المسلمون المشهود عليهم بأنهم رجعيون بامتياز، لاسيما منذ هزيمتهم في ”بالوتاج” المالكي ـ السباعي 1954، أمام النسيج الوطني التقدمي في سوريا، أي الصرح الشامخ في مصدات الهرولة إلى التحلل من المسؤولية القومية حيال المشروع الصهيوني.
الحوار السري الخليجي مستمر مع «إسرائيل» وعلاقاتهم باتت واقعاً عملياً لا يمكن إنكاره، وفضيحة إقامة العلاقات مع العدو الصهيوني لم تعد تثير خجل الأنظمة الخليجية التي تسعى جاهدة لتخفيف الضغط الدولي عن «إسرائيل» ، لقاءات متكررة بين مسؤولين خليجيين و«إسرائيليين» في تل أبيب وأوروبا ونيويورك… ففي عام 2005 أعلنت قطر والبحرين رفع الحظر الاقتصادي عن «إسرائيل» ، وفي عام 2006 قام حمد مالك البحرين بتعيين اليهودية البحرينية هودا نونو سفيرة للبحرين في الولايات المتحدة، وهناك عشر شركات «إسرائيلية» تملك استثمارات في دبي جميعها مسجلة في قبرص، وشركة تسحام التابعة لمستوطنة (أبكيم) فازت بمناقصة باسم فرعها في بريطانيا لإقامة مزرعة جمال ومركزاً لحلب النوق وتصديره في دبي.
لقد أصبحت العلاقات الخليجية ـ «الإسرائيلية» تأخذ طابعاً أكثر حميمية، وخيوط التطبيع السري والعلني بين دولة الإمارات و«إسرائيل» تتكشف يوماً بعد يوم واستعداد أبناء زايد بن سلطان آل نهيان الارتماء في أحضان «إسرائيل» وقيامهم بافتتاح ممثليه دبلوماسية «إسرائيلية» في العاصمة أبوظبي، وهناك سلسلة من العلاقات التجارية والمعاملات المتسلسلة الطويلة والمعقدة التي تصب في النهاية في خدمة الكيان الصهيوني. والتطبيع الإماراتي مع «إسرائيل» تخطى الجانب الاقتصادي إلى التعاون العسكري والأمني بذريعة مكافحة الإرهاب. وفي مطلع آذار 2016 تلقت قوات مكافحة الإرهاب الإماراتية تدريبات خاصة على أيدي الضباط «الإسرائيليين» ، حيث حضر عدد من ضباط القوات الخاصة «الإسرائيلية» إلى أبو ظبي لتنفيذ دورة تدريبية استمرت شهراً كاملاً للمساعدة في تحسين ورفع أداء القوات الخاصة الإماراتية لمواجهة احتمالات كبيرة في فقدان الأمن وكبح جماح التدفق الإرهابي والتعامل معه ومواجهة تهديدات داعش .
أما المملكة الوهابية فانها تقوم بتمويل بناء المستوطنات في الضفة الغربية وفي وقت سابق تمّ ضخ مبلغ 16 مليار دولار و تحويلها على دفعات إلى حساب «تنمية إسرائيل» في البنوك الأوروبية مقابل قيام اللوبي الصهيوني في أمريكا بتصعيد العداء لإيران وتخريب الاتفاق النووي وإحباط النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة، وفي لقاء سابق بين ضابط المخابرات السعودي أنور عشقي ومدير عام وزارة الخارجية «الإسرائيلية» دوري غولد والذي جاء تحت عنوان (حوار حول المصلحة المشتركة في الحرب على البرنامج النووي الإيراني) تم الاتفاق على استخدام «إسرائيل» للمطارات والأراضي السعودية كمنصة للعدوان في حال توجيه ضربة عسكرية محتملة للمواقع النووية الإيرانية.
في أواخر حزيران 2005 عقد في «إسرائيل» مؤتمر دولي لدراسة سبل التجسس والاستخبار شارك فيه عشرات الضباط والخبراء الأمنيين الذين قدموا من خمسين دولة أوروبية واسلامية وعربية… حاضر فيه كبار ضباط الموساد «الاسرائيلي» السابقين والحاليين، وقد اشترط المشاركون من الدول العربية عدم السماح للإعلام بالتصوير شريطة لحضورهم المؤتمر… فما بالك عندما يسرح الموساد ويمرح على الأرض العربية بحرية دون رقيب أو حسيب…!؟ ويبدو أن التماهي الموصوف بـ”المعتدل” لأطراف عربية وإقليمية مع متطلبات كيان الاحتلال الصهیوني حيال القضايا الجوهرية، أخذ يشق طريقه نحو التنفيذ الفعلي لـ”اللاءات” النتنياهوية الخاصة بالقدس والمشردين والأسرى والمستعمرات الكبرى، بالتزامن مع الترويض المطلوب لفصائل المقاومة في قطاع غزة من جهة رمي الطعم لبعضها وإغرائها بشيء تراه هذه الفصائل جوهريًّا، تسعى من أجله وبخاصة رفع الحصار عن القطاع، حتى لو أدى ذلك إلى استخدام القوة مع الفصائل الرافضة للترويض والقبول بهذا الطعم/الإغراء؛ فوصفات الاتهامات والفبركات الباطلة والزائفة جاهزة لتبرير استخدام القوة.
ووفق هذا التقدير، فإن الحديث عن تجميد القضايا الجوهرية أو الاعتراف بها مثلما لم يعد موجوداً في قاموس الاحتلال «الإسرائيلي» ، لم يعد أيضاً في قواميس الأنظمة المتماهية ”المعتدلة”، ولا في قواميس دعاة السلام والحلول وعرَّابي التفاوض، ولا في قواميس المنظمات الدولية. فقد اختفى مرة واحدة ـ ويبدو إلى الأبد ـ الحديث عن القدس الشرقية وعودة اللاجئين الفلسطينيين وحدود عام 1967، وفي المشهد ذاته يبدو هناك أكثر من سيناريو يبيت للقضية الفلسطينية.
بالأمس كانت أعين ”المطبِّعين والمعتدلين” مفتوحة على آخرها تشاهد التقسيم المكاني للمسجد الأقصى مع استمرار حملة نخر أساساته لتدميره وإقامة ما يسمى ”الهيكل” على أنقاضه، ولم تهمس ببنت شفة اعتراضاً ولو على استحياء، واليوم الأعين ذاتها تغمض أمام التحرك «الإسرائيلي» الآخر بتقسيم المسجد زمانياً بالتزامن مع حملات محمومة يقوم بها كيان الاحتلال لتهويد القدس (شرقيها وغربيها)، حيث فرضت الشرطة الصهیونیة للمرة الأولى وقتاً محدداً لدخول المصلين المسلمين وخروجهم من المسجد الأقصى، وأغلقت عدداً من بوابات المسجد للسماح لعصابات المتطرفين باقتحام المسجد بأريحية.
يأتي كل ذلك، في الوقت الذي تُشحذ فيه سواطير الإرهاب، وتقام فيه حفلات الموت المجاني، وتُوظف ماكينة الإعلام في بث الدعاية والترويج عن الإرهاب وبخاصة إرهاب تنظيم ”داعش”، من زاوية الزعم بمحاربته بهدف ترسيخ هذا الفكر الداعشي وأساليبه الإجرامية والإرهابية في الذاكرة الجمعية للشعوب العربية، وإشغالها به مع ما يستوجبه ذلك من أهمية توفير الوقود اللازم لاستمرار عملية الإشغال وحصد النتائج المطلوبة، وذلك بتأجيج الفتن الطائفية والمذهبية من جهة، ومن جهة أخرى دعم التنظيمات الإرهابية بما تحتاجه من سلاح ومال وتدريب، وعناصر تكفيرية إرهابية، وفي مقدمتها تنظيم ”داعش” الإرهابي، مع الزعم (الممجوج والمفضوح) بمحاربته، وتقسيم الإرهاب إلى ”معتدل” و”غير معتدل”.
وأمام تضافر جميع العوامل السالفة الذكر، وقوة الضخ الدعائي لماكينة الإعلام الصهيو ـ غربي ومعه الإعلام التابع والعميل، أخذت الذاكرة الجمعية للشعوب العربية تتعرض لحالة مسح ممنهج لقضية إسمها فلسطين، بداية من القصائد الملهبة للمشاعر والحماس، والموقدة للذاكرة من نحو ”فلسطين داري ودرب انتصاري…”، ومروراً بالمعاهدات واتفاقيات التطبيع، واللقاءات السرية وغير السرية، وصولا إلى نعم: لا للقدس عاصمة للدولة الفلسطينية، لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين، لا لحدود عام 1967، لا للإفراج عن الأسرى. فالذاكرة الجمعية العربية متقدة الآن بـ”داعش”، وأن الفوضى الإرهابية في الدول العربية كسوريا والعراق وليبيا واليمن وتونس ومصر وغيرها هي ”ثورة” من أجل ”الديمقراطية والدولة المدنية والعدالة والمساواة والحريات”، وأن إرهاب تنظيم القاعدة هو ”المعارضة المعتدلة”، دون أدنى انتباه إلى أن المراد هو أن تخبو القدس وفلسطين من الذاكرة، وكذلك دمشق وبغداد والقاهرة وطرابلس وغيرها من عواصم التاريخ والحضارة العربية.
ويبدو أن استعجال «إسرائيل» لفرض نوع من تطبيع العلاقات بين دول عربية وبينها يحمل أهدافاً كثيرة من بينها تعزيز علاقات التطبيع القائمة بينها… ومن الواضح أن «إسرائيل» تسعى من خلال خطتها هذه إلى الالتفاف على المبادرة العربية للسلام وتجاوز شروطها الداعية إلى تنفيذ «إسرائيل» للانسحاب من جميع الأراضي العربية المحتلة منذ عام (1967) وحل المسائل الجوهرية للقضية الفلسطينية مع السلطة الفلسطينية ويبدو أن نتنياهو يريد استغلال التطورات العربية التي يظهر فيها انقسام بين اتجاهين عربيين لتجاوز الحقوق الفلسطينية وتعميق شق الصف العربي بطريقة تترك فلسطين وسورية وأراضيهما المحتلة وحدهما دون أوراق ضغط عربية أمام «إسرائيل» .
لذا لا غرو أن تسعى إدارة الرئيس باراك أوباما إلى إقناع جامعة الدول العربية المختطفة من قبل السعودية، بالإعلان عن اعترافها بيهودية ”كيان الاحتلال الصهيوني”، وحسب الإعلام الصهيوني، يعتبر الأميركيون أنه في حال تحقق ذلك، فإن مظلة الجامعة ستمنح ”عمقاً استراتيجياً” و”ستعزز” الموقفين الفلسطيني والصهيوني، وتوفر قناعة لدى الجانبين بضرورة استئناف المفاوضات على أساس حدود 1967 وتبادل الأراضي والاعتراف بـ«الدولة اليهودية» . ومن المؤكد أن الثوابت الأخرى في هذا الإطار تعد ساقطة حكماً مثل عودة المشردين الفلسطينيين ووضع القدس.
وفي تقديري أن الولايات المتحدة، من الواضح وهي تستشعر بداية أفول نجمها في سماء التفرد وقيادة العالم كقوة عظمى أوحد فيه، وسطوع أنجم أخرى، تسعى إلى استغلال هذه الظروف التدميرية الذاتية الاستثنائية للمنطقة العربية في توطيد أسس كيان الاحتلال الصهيوني في المنطقة توطيداً تاماً ومطمئناً، ويضمن لها الانحسار التدريجي غير المكلف، ولذلك فهي تحاول جاهدة التعجيل بترتيب الأوضاع، تارة بإعطاء الضوء الأخضر لكيان الإرهاب الصهيوني بأخذ المنطقة ومن فيها إلى حافة الحرب الشاملة، والتلويح بتسليح العصابات المسلحة والتكفيرية والإرهابية داخل سوريا واليمن وغيرها، وتارة بإجراء المناورات العسكرية الضخمة، وإثارة الحروب النفسية والإعلامية.
بقلم: مصطفى قطبي
- موقع الوقت