حفظ الله العيني .. بائع خضروات وأسرته وجيرانه في مرمى طيران العدوان .. “ملفات “
193
Share
رند الأديمي
باب اليمن عبق رائحة الفول المحمص والزبيب وشموخ البيوت التي تقف متقابلة وكأنها تتبارز بسيوفها في رقصة تراثية بديعة. تدلف فيحدثك الباعةُ والأهالي عن فاجعة سبتمبر الماضي.. البعض يحلل والبعض يشير إلى الحي ببنانه قائلاً: هنا استهدف الطيران الغاشم بائع خضروات وأسرته وجيرانه معاً….
تحملك خطاك إلى أزقة الأزقة وتجد نفسك وجهاً لوجه مع فصول الفاجعة.. هناك في حي الفليحي، حيث الملامح متوجسة وتثير تساؤلاتك.. ذلك النبض الذي تتسم به صنعاء يبدو غائباً في هذه المساحة الخضراء من المدينة تحديداً إثر المأساة التي حصدت أرواحاً وقوَّضت عُمراناً تاريخياً أخّاذاً بديع الهندسة نابض التفاصيل لاتزال تلقي بظلالها على المكان الذي يستعيد مشهد أشلاء وإحدى عشرة جنازة مرت أمام ناظريه..
يحدثك الجميع كيف تحولت ضحكات ماري وعلي وأحمد وقائمة شهداء آخرين صمتاً مغلفاً في توابيت تتزاحم مشيَّعةً بالدموع. خلف مدرسة “جابر بن حيان” بيوتٌ تتشح السواد هجرها أصحابها. على يمينك حطام منازل كانت منتصبة ومفعمة بالحياة ليلة الثامن عشر من سبتمبر الماضي قبل أن تتحول إلى ركام تلوح فيه بقايا ملابس ونصف دولاب ومصحف..
هنا أوغل الطيران في بشاعته.. هنا استقرت صواريخه لتستهدف بائع خضروات ومتعهد “مقشامة الفليحي – حفظ الله العيني”.. 18 _9_2015 كان “العيني 38 عاماً” في بيته بعد أن ذهبت زوجته “حورية محمد سعد الحديد 36 عاماً” إلى جمعتها في بيتهم الكائن في شارع المطار. خاف “حفظ الله” عليها فطلب اليها أن تعود إلى البيت لأن الطائرات كانت تحلق بكثافة في شارع المطار.. اتصل ليقول لها ” الطيران سوف يقصف..” فحملت الزوجة حقيبتها ولملمت حاجياتها وعادت لبيتها لتحتمي من الطائرات التي تحلق هناك في سماء مطار صنعاء. في الساعة العاشرة مساءً حضرت الزوجة العشاء كالعادة واجتمع أهل المنزل البنات “ماري.. مرام توأم 13 عاماً؛ ملاك 7 أعوام؛ نسيم 12 عاماً؛ والأولاد محمد 8 أعوام؛ أحمد18 عاماً، وكان هذا الأخير سيتزوج في عيد الأضحى من بنت جارهم.
علي 7أعوام يحيى 5أعوام.. “. اجتمعوا كالعادة على سفرة العشاء إلى أن تحولوا على يد طائرات العدوان إلى وجبة عشاء لوسائل الإعلام ويرد الخبر على لسان مذيعة “قناة العربية” في قالب متشفٍّ تؤازره ملامح لم يجملها الماكياج “عاجل.. وردنا الآن أن طائرات التحالف استهدفت بغارة موفقة منزل قيادي بارز في أنصار الله يدعى حفظ الله العيني العميد في الحرس الجمهوري …. “! نعم عميد الجيش كان يسوق عربة خضروات يتجول بها ليحصد الخمسمائة ريال فيبتسم قائلاً “اليوم أنا في نعمة أملك الخمسمائة ريال لأذهب لأسرتي بتونة بدل علبة الزبادي “.
نعم هذا القيادي هو من كان يقف لينادي على المارة بالإيقاع اليومي ذاته: “لدي أطزج البطاط والخضروات”. لم يتضرر “حفظ الله العيني” فقط بل قضت أسرته وأولاده الثمانية وثلاثة من جيرانه معه عصام عصبة يحي عصبة.. وأحد أقارب جيرانهم. كان يبيع البيض ويدرس. هكذا تحدث عنه سكان “حارة الفليحي”. العدوان يستهدفهم، أتى على أحلامهم البيضاء وأعدم سكون أهالي الحي وأمانهم ونحر تراث صنعاء الذي لا تقيم له طائرات النفط والصحراء وزناً وتكن له الحقد.
يقول “مجاهد العيني شقيق حفظ الله”: “أخي مابش مثله محترم بعد حاله وجهاله، وكان كلما نجتمع بالمقيل نذكر السياسة يقوم يفز ويقول: عتسكتوا؟ خلونا نعيش ونأكل جهالنا”. وكانت الشهيدة حورية دائماً ما تردد عندما تسمع الطيران: “ما حالية الموتة إلا احنا وجهالنا مش نموت ويجلسوا جهالنا مشردين”. و”حفظ الله العيني” أيضا ًكان يكرر في المقايل: “ما حالية إلا موتة واحدي أنت وأهل بيتك”. “أم هاني” جارتها قبل أن تسرد قصتها كانت تنتحب بوجع قائلة: “لا تنبشوا علينا المواجع؛ من مثل حورية ولا مثل حفظ الله بعد حالهم ولا معاهم شيء غير سيارة الخضروات وحورية طول الوقت بتشقى في بيوت الناس على شان تأمن لجهالها قوت يومهم.. والفترة الأخيرة بطلت من الخدمة وجلست في بيتها.. وكانت قبل ما تموت بأسبوع تقول للنسوان: قالوا الطائرة بتبيد صنعاء وين نسير بجهالنا؟ قالت جاراتها: عند أرحم الراحمين. ردت وقالت: قدو قدر وين نسير منه”؟! وأجهشت “أم هاني” بالبكاء مسترسلة ” كانت تحلف على النسوان يجن شكمة بنت أخو زوجها – والشكمة إحدى طقوس الزفاف في صنعاء – وأنها عتشكمها وكانت بتنفض البيت وتغير بالديكور من كثر فرحتها بالشكمة ولكن…… “!
لكن هذا ولايزال شبح الموت يحلق فوق الرؤوس ويتصيد أينعها؛ لكنه لم ينل من معنويات شعبٍ يصر على الحياة رغم نفاق وتواطؤ العالم على دمه.. العالم الحر الذي يعزي في وفاة قطة بباريس ويصفق لقتل شعب بأسره في اليمن. “مجزرة حي الفليحي” عنوان يتصدَّر قائمة مئات المجازر ويلخِّص بشاعة العدوان وهمجيته ويجلد ضمائر العالم التي خَدَّرها البترودولار.. على وعد أن تفيق، ولن تفيق إلا تحت ضربات أقدام أبطالنا في الجيش واللجان الشعبية التي باتت قيد نملة من تتويج ملحمة الصمود اليمني بالنصر.