رِجالُ النَّصر! .. شاهد الصورة
————
تخيلوا لو أنَّ هُناك كاميرات، نقلت لنا الصورة الحيَّة لمعركةِ بدر، وأحدٍ وحنين، والأحزاب(الخندق)، وخيبر… وما جرى فيها من كر وفر، ولو تواصَلَ الإرسال، ورأينا ما جرى في صِفين، وكربلاء ..
لن أبالِغْ إذا قُلتُ؛ بأننا لسنا بِحاجة إلى رؤيةِ ذلك، فما نراهُ اليومَ مِن حاملي الراية المُحمدية؛ يتجسَّدُ واقِعًا حيًا لرجالٍ تجدُ في أحدهم ياسر، وفي آخرٍ عمار، وفي ثالثٍ المِقداد، وفي رابعٍ علي ، وفي خامسٍ الحسن، وفي سادسٍ الحسين، وفي سابعٍ العبَّاس؛ سلام الله عليهِم أجمعين..
لعلَّكُم شاهَدْتُم المشهَدْ الذي أخذ القلوب، وجميعُ مشاهِدِ الرِّجال الأبطال تهز الأبدان..ونقلتِ الكاميرا الحَدَثْ بالصوتِ والصورة، في مشهَدٍ لم يحدُثْ في الحروبِ الحديثةِ كلها..فماذا يخطُّ البيان، وماذا يزِفُّ القَلَمْ:
لقدْ مشَّطَ المُجاهِدون جميع التبابِ الصغيرة، في الصحراءِ الشاسِعة في الجوف، وهرَبَ المُرتزقة إلى السلسلةِ المُقابِلة.. وفي واحدةٍ من التباب؛ جاءت رصاصةُ مرتزق؛ لتستقرَّ في جسدِ أحدِ المجاهِدين اليمنيين الوطنيين الأبطال؛ يقفزُ زميله ويربِطُ له، ولكنَّ الجريحَ يدخُل في غيبوبة..
يتلفَّتُ نحوَ بقيِّةِ المُجاهِدين ويقول:
-هل عندنا أي إسعافاتٍ أوليه.. يرُدُّ عليهِ أحدَهم وهو يغيِّرُ خزنة الرصاصِ في رشاشهِ قائلاً:
-طبيبينا والإسعافات كُلها في التبةِ تلكْ.. ويُشيرُ بيده نحوَها .. كانت التبَّةُ تبعُدُ حوالي كيلومتر..
نظرَ البطلُ إلى البطلِ الجريح.. يناديه باسمه ويحركه يمنة ويسره، ويقومُ بالضغطِ على صدره بكلتا يديه، ضغطاتٍ مُتتالية.. خرجَتْ عطسةٌ خفيفة.. صاحَ البطَلُ لرُفقائهِ قائلاً:
-الحمد لِله.. إنَّهُ بِخير.. وفجأةً يعودُ الجريحُ إلى غيبوبته..
قرَّرَ البطلُ حملَ الجريح على ظهرِه.. وحينَ أدركتهُ عيونُ زملائه صاحوا به:
-مادامَ النزيفُ قد توقَّفْ..فانتظِرْ حتى يحِلُّ الظلام .. أما الآنَ فهو مُخاطرةٌ كبيرة..
لوَّح بيده إليهم وقال:
-استودعكم الله، فإنْ نجوتُ فسأنقِذُ زميلي، وسأعودُ إليكم عندَ الغُروب، وإن استُشهِدتْ؛ فخذوا بالثأرِ كما يجِبْ، فإنَّا والله نُدافِعُ عن أرضِنا وعِرضنا، ونُقاتِلُ عملاء ومُرتزقة من كل دولة..
قفزَ أحدُهم من مترسِهِ وقال:
-مادُمتَ مصممًا على إسعافه الآن، فأنا أقوى منكَ بُنية، وأعرضُ منك جِسمًا، وسأقومُ أنا بالمُهِمة…
ردَّ عليهِ وهوَ يمسِكُ بالجريح وقال:
-واللهِ لا يحملهُ غيري، فقد كانَ رفيقي في مترسي..
أخذه على ظهره، ثم حملَ سلاحه، ودعواتُ الجميع تترددُ بأصواتٍ مسموعة، لا تقطعُها إلا زخاتِ الرصاص:
-قوَّاكَ الله..حفظكما الله.. حماكما الله..
تحركَ البطلُ وكأنَّهُ جبلٌ ينزِلُ من جبل، وفوقَ كتفه جريحٌ بطل.. بدأتْ أولى خطواتِه، في الأرضِ المكشوفةِ للعدو، وهو يُردِّدْ “ربنا أفرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا”، ثم يُكَرِّر” اللهم صل على مُحمدٍ وآل محمد، واعمِ أبصارُهم، وأبطل كيدَهُم”
تقاطرتْ نحوَهُ الرصاص وكأنها مطرٌ غزير، واحدةٌ تقعُ أمامه فلا يلتفت، وتمرُّ إحداها بجوارِ أذنه، فيحمد اللهَ أنها لم تُصِب الجريح، وتقعُ أخرى بين رجليه؛ فيُردِّدُ قائلاً: “وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدَّا، فأغشيناهُم فهُم لا يُبصرون”.. تسارعَتْ خطواتُهُ، وتكاثرُ عدد الرصاص حوله.. الطريقُ طويل، والرمالُ رخوة، والأرضُ مكشوفة، ولا توجدُ بينها شجرةٌ، أو صخرة.. واصلَ خطواته كمن ينظُرُ إلى الهدف، لا يفكر في شيءٍ غيره.. لم يشعُر بثقلِ الجريح فوقَ كتفه، ولم يلتفت يمنةً ويسره، ولم يُحَدِّث نفسه إلا بحديثِ النَّصرْ، ولم يشُكْ للحظةٍ واحدة بأنَّ هُناكَ قوةً فوقَ الأرضِ تستطيعُ إيقافه.. واصَل الجريَ بثقةِ المؤمن، وعزيمةِ المجاهد، وسُرعةِ الفارِسْ…
في التِّباب المُقابِلة، كانت أصواتُ المرتزقة تتوالى:
-لا يهرب يا جماعة.
-لعن الله ابتكم ولا أحد قدَرْ يصيبه.
-يا خوات نورة وين تدريبكم.
-يا خوات شمَّة وين قنصَكُم.
-رشوا عليه بالمعدل 7/12، وب 7/14
وصَلَ البطلُ المجاهِدْ إلى التبَّةِ المُقابلة، وتمَّ معالجة البطلِ الجريح..
وصلَ البطلُ الجبَلِ إلى الجبلِ وقدْ انزلَ بالعدوِّ من الرعبِ ما أنزل، وصل بعدَ أن أرعبَ قلوبهم المرتجفة، وأبكى أعينهم الخائنة، وأدمى أجسادهم المُستأجرة، وأصعَقَ أفئدتهم المُنهارة..
وصلَ البطلُ تارِكًا للأجيال صورة لن تُنسى، وموقِفٌ لا يُمحى، ودرسٌ لن يبلى..
وصلَ البطل؛ بعدَ أن سجَّلَ اسمهُ في قائمةِ الأوائل العظماء، من أصحابِ بدرٍ وأحدٍ وكربلاء..
ومنْ يشُك لحظة في النصرِ على أيدي هذا وأمثاله فأنصحه، بمسح وجهه ورأسه من الترابِ الذي مشى عليه هذا البطل، وحينها سيجِدُ وسيلمسُ؛
في كل ذرة رملٍ من تلكَ الرمال؛ ثقةٌ بالنصر، وفرحةٌ برجالِ الرِّجال، وشكرٌ لله!
#مصباح_الهمداني