بالوثائق. علي صالح للإسرائيليين: لا مانع من التطبيع مع إسرائيل.. لكن كُلّ شيء بثمنه!
|| متابعات|| صحيفة المسيرة: إبراهيم السراجي
كان الموقفُ اليمنيُّ الرسمي المعلَن والموقف الشعبي تجاه الكيان الصهيوني واضحاً وصريحاً في رفض الاعتراف بالكيان والتأكيد على حق الشعب الفلسطيني وواجب الأُمَّـة العربية والإسْلَامية في تحرير الأراضي العربية الفلسطينية بما فيها القدس المحتلة من الاحتلال الإسرائيلي وإنهاء وجود الكيان الغاصب، لكن الأمر بالنسبة لعلي عبدالله صالح كان مختلفاً تحت الطاولة، وفق ما كشفت عنه الوثائق التي عُرضت في الفيلم الوثائقي الذي عرضته المسيرة “خلف الستار” والذي بُنِيَ على وثائقَ عُثِرَ عليها في منزل صالح عقب فتنة ديسمبر وهي عبارة عن محاضر لقاء جمعه في أمريكا مع رؤساء الجاليات اليهودية المرتبطة باللوبي الإسرائيلي المعروف اختصاراً “أيباك”.
فوضى أمريكية تقودُ العربَ نحو إسرائيل
يُديرُ الأمريكيون منذ عقود الفوضى في المنطقة بأشكالٍ متعددة هدفُها الرئيسي الهيمنة الأمريكية وتعزيز مكانة الكيان الصهيوني، وعلى هذا الأساس تعاملت واشنطن مع المنطقة وزعمائها. في عام 95 انقلب أمير قطر السابق حمد بن خليفة على والده وحاولت بعض الدول الخليجية تنفيذ انقلاب مضاد، استطاع الأمير الجديد حينها إفشالَه. وفي أكتوبر الماضي كشف حمد بن جاسم رئيس وزراء قطر في تلك المرحلة أنهم طلبوا من أمريكا المساعدة على استقرار الأمور للأمير الجديد، فكان الشرط الأمريكي أن تكون لقطر علاقاتٌ مع إسرائيل. وأضاف بن جاسم بصراحةٍ في مقابلة مع تلفزيون قطر الرسمي أنه تمّت الموافقة على ذلك بفتح مكتب تنسيق إسرائيلي في الدوحة.
على ذلك الأساس وجد الزعماءُ العربُ وبينهم علي عبدالله صالح، أن السبيلَ الوحيدَ لاستقرار حكمهم في ظل فوضى المنطقة، هو الهرولة نحو الولايات المتحدة التي تدير الفوضى، والتي بدورها تقود أولئك الزعماء نحو التطبيع مع إسرائيل، لكن الأمر في اليمن نظراً لصلابة الموقف الشعبي كان صعباً ويحتاجُ لخطوات تدريجية وفقَ كلام صالح نفسه الذي ورد في محضر لقائه برؤساء الجاليات اليهودية في أمريكا عام 2000 ومعه رئيس وزرائه حينها عبدالكريم الإرياني الذي كان يوصفُ بأنه الذراعُ اليُمنى لصالح.
صالح والجاليةُ اليهودية
وفقاً للوثائق الخَاصَّـةِ بمحضر اللقاء الذي جمع بين صالح الإرياني ورؤساء الجاليات اليهودي التي عُثر عليها في منزل صالح، يؤكّد رؤساء الجاليات بشكل مباشر أنهم ممتنون لقبول صالح اللقاء بهم وأنهم يسعَون لتأسيس علاقات بين اليمن وإسرائيل؛ ولأن اليهود كان يعلمون بطموح صالح في إقامة علاقات مباشرة مع أمريكا بمعزلٍ عن السعودية التي كانت تتولى ملف علاقة اليمن بأمريكا، فقد أكّدوا له خلال اللقاء أنهم من يتحكّمون بقرار الكونجرس الأمريكي.
ويجيب صالح على مقدمة رؤساء الجاليات اليهودية بالتأكيد بأنه يرحّب بلقائهم وأنه لا يوجد أيُّ تعصُّب ضد اليهود ويمكن التعايش معهم. وفي الوقت الذي كان موقفُ اليمن المعلَن رفض الاعتراف بالكيان الإسرائيلي وأنه لا حقَّ له بالوجود في أرض فلسطين، إلا أن صالح أخبر رؤساءَ الجاليات اليهودية قائلاً “نحن نتطلع لسلام شامل وعادل وليس هناك صعوبات أن يكون بيننا وبينكم منافع سواء معكم كجاليات أَوْ يمكن أن تتطور مع الحكومة الإسرائيلية”. هنا كان صالح قد قضى على موقف اليمن وأعلنها صراحةً بإمْكَانية الاعتراف مع إسرائيل والتطبيع معها.
يواصل صالح توضيحَ الصعوبات التي يواجهها في تحَـرّكه نحو الإسرائيليين وهي الصعوباتُ التي لا تتعلّقُ بموقفه بل بموقف الآخرين، فهو يقول إنه منفتح على إسرائيل لكن هناك صعوبات تتعلق بموقف الإسْلَاميين في اليمن والهجوم الإعلامي الذي قد يتعرّضُ له في حال خطا هذه الخطوة الكبيرة؛ ولذلك طرح فكرة أن يتم المضي بالأمر بخطوات تصاعدية، حيث يقول “كلما أردنا التقارُبَ يتم عمل فقاقيعَ إعلامية”.
وكشف صالح خطوةً خطيرةً قام بها، في لقائه برؤساء الجاليات اليهودية مبرراً مخاوفَه من الإعلام قائلاً “في مرة كنتُ في باريس والتقيت الرئيس فايتسمان ولم تمضِ 10 دقائق إلا وراديو إسرائيل يعلن المقابلة”. عيزر فايتسمان هو رئيس إسرائيل للفترة من عام 93 إلى عام 2000.
في ذلك اللقاء تم تكليفُ صالح بأول مهمة لصالح إسرائيل. أخبره رؤساءُ الجاليات اليهودية أن لديهم مشكلةً أن إيران ألقت القبضَ على 13 يهودياً بتهمة التجسّس لصالح إسرائيل، فرد صالح على الفور أنه في تلك الفترة سيزور إيران بعد 15 يوماً وسيتحدث مع الحكومة الإيرانية بشكل وُدي ويقنعهم بأنه ليس مصلحة إيران احتجازهم وأنه لا فائدةَ من ذلك.
التطبيعُ مع إسرائيل بثمنه!
في ذلك اللقاء -وفقاً لما ورد في المحضر- طرح رؤساء الجاليات سؤالاً على صالح حول إمْكَانية أن يقيمَ علاقةً مع إسرائيل، خصوصاً أن الدولَ العربيةَ المجاورة للكيان الصهيوني فعلت ذلك، وهنا يحرك صالح غريزتَه للحصول على المنافع المالية مقابل الموقف، فرد قائلاً “نحن لسنا من الدول المجاورة لإسرائيل ولكن لنا علاقاتٌ مع سوريا ومصر والأردن ونحن نشجّع إقامة مثل هذه العلاقات والتعايش في المنطقة”. ثم يتضح أن القضية ليست في مجاورة إسرائيل من عدمها بالنسبة لصالح الذي قال “مصر استطاعت أن تحصُلَ على فوائد من أمريكا بعد اتّفاقية كامب ديفيد (اتّفاقية سلام بين مصر وإسرائيل) والأردن دعمتموها، اليمن حتى الآن لم تحصل على دعم للديمقراطية أَوْ حتى التحَـرّك باتجاه الحكومة الإسرائيلية فكل شيء بثمنه”.
استمر صالح في توضيح التضحيات التي يقدِّمُها في سبيل الحفاظ على التواصل مع الإسرائيليين، وقال لرؤساء الجاليات إن “الإرياني وحكومته يتعرّض لهجمة إعلامية من قبل الإسْلَاميين نتيجةَ تواصلهم مع الإسرائيليين وينظمون حملات إعلامية ضد الرئيس ورئيس الحكومة”، كما يرى أن السعوديةَ صديقةُ إسرائيل لكنها تعترض توجّهاته وتشارك في الهجوم عليه؛ ولذلك يقول لرؤساء الجاليات “أبلغوا السعودية أن تهدأ فالسعوديون أصدقاؤكم”.
المصافحة لها ثمن أيضاً
لم يكن صالح يعلَمُ أن محضرَ لقائه برؤساء الجاليات اليهودية سيخرُجُ للعلن في يوم ما؛ ولذلك تحدَّثَ دون حرج، معبراً عن ذاته وتطلعاته، مجدّداً التأكيدَ على شرطين للتطبيع مع إسرائيل، ومحدداً أن ما يخشاه فقط هو رد فعل الآخرين في اليمن، لكنه مستعدُّ دائماً لمواجهة أية عراقيل طالما حصل على الدعم الأمريكي والمال.
في هذا السياق، عرض رؤساء الجاليات اليهودية على صالح مسألة مصافحة السفير الإسرائيلي، فالكيانُ الصهيوني في ذلك الوقت كان يعتبر أن نجاحَه بمصافحة رئيس عربي يمثّلُ خطوةً كبيرةً لتعزيز وجود إسرائيل.
كعادته أجاب صالح قائلاً “نحن نعمل بالمكشوف، المطلوبُ منكم مساعدتنا لدى الإدارَة الأمريكية لنحصل على الدعم؛ لأنّنا مجرد أن نصافح أي يهودي يقوم علينا الإسْلَاميون”، ويضيف صالح “أنا التقيت الرئيسَ الأمريكي كلينتون في المغرب وكان جواره مستشار الأمن القومي الإسرائيلي وطلب مني مصافحتَه، فقلت له ليس لديّ مشكلة في ذلك بمجرد تحقيق السلام.. خلّونا نبدأ علاقات جيدة معكم وهذه الخطوة تليها خطوات”. كما جدّد صالح طلبَه للدعم قائلاً “أنتم ساعدونا لدى الإدارَة الأمريكية ويمكن أن نصل لنتائج إيجابية”.
كان صالح يحاوِلُ الخروجَ مما وصفها “العباءة السعودية” ويريد إقامة علاقات مع واشنطن بشكل مباشر، فشكا لرؤساء الجاليات اليهودية أن السعوديةَ تعمَلُ ضده إذَا حاول التقارب مع إسرائيل وتدفع الأموال للإدارَة الأمريكي لمنعها من تقديم دعم سخي لليمن؛ حفاظاً على رغبة السعوديين.
إسرائيليون في اليمن بجواز أمريكي
بعد ذلك وجّه صالح دعوةً لرؤساء الجاليات اليهودية في أمريكا لزيارة اليمن، وأن يكون دخولهم كسيّاح ورجال أعمال، لكنه -وفقاً لحديثه- يرى أنه لن يكونَ قادراً على مواجهة رد الفعل الداخلي إذَا استقبل رؤساء الجاليات على أنهم إسرائيليون ما لم يكن قد نجح في الحصول على الدعم الأمريكي؛ ولذلك قال لرؤساء الجاليات “نتطلع أن تلعبوا دوراً مع الإدارَة الأمريكية لتشجيع اليمن ومساندته وبعدها سنأتي لكم بشكل أفضل”. ثم يحدّد صالح المعادَلةَ التي يريدُها بالقول “أولاً نحن وأنتم كأمريكيين وبعد ذلك نأتي إليكم كإسرائيليين، أنتم حجر الأساس نتفاهم معكم وبعد ذلكم نتواصل مع الآخرين، أنتم أولاد العم”.
استثمارات إسرائيلية في اليمن
المحضرُ الآخرُ يضُـمُّ ما دار خلال لقاء بين صالح مع رولاند لاود رئيس مجلس رؤساء الجاليات اليهودية في أمريكا الذي قال في بداية اللقاء بأنه يعمل على إقناع الجالية اليهودية للاستثمار في اليمن، ويضيف موضحاً الهدف قائلاً “طالما وجد المزيد من المستثمرين اليهود كلما تعززت العلاقات”.
هنا يجيب صالح قائلاً “نحن نرحّب باستثمارات اليهود”، مستثنياً اليهودَ المتواجدين في إسرائيل حتى يتم ما وصفه “إحلال السلام” وهذا ليس بسبب موقف صالح من إسرائيل بل بسبب مخاوفه وليس رفضاً قاطعاً، بل يشترط أن تأتيَ الشركاتُ الإسرائيلية ولكن يتم تسجيلها على أنها شركات أمريكية فهو يؤكد “ليس لدينا أي تحفظ على أي استثمارات يهودية لكن لمصلحتي ومصلحتك حتى يطبع العلاقات تأتي الشركات وتقول إنها شركات أمريكية وهذا لأسباب أمنية”. ويجيب رئيسُ مجلس الجاليات متفهماً مخاوفَ صالح قائلاً إن ذلك مفهومٌ حتى بالتعامل مع يهود إسرائيل ذوي الأصول اليمنية.
ويكشف صالح لرئيس مجلس الجاليات اليهودية أن رؤساء الجاليات جاءوا بالسفير الإسرائيلي وصافحه، ويجهّز الذريعة التي سيسوقها وهي أنه لم يكن يعرف أنه السفيرُ الإسرائيلي. ويقول عن ذلك “أنا لا أعرفه وهو لا يشكّل مشكلةً، فسوريا ولبنان يتصافحوا مع إسرائيل، أنا الآن أبحث عن قنوات مع اليهود الأمريكان كي نمشيَ خطوةً خطوةً حتى نصلَ لما نريد”، ويضيف معبراً عن مخاوفه بعد مصافحة السفير الإسرائيلي “غداً الصحافة تقول أنّه سلّم على السفير الإسرائيلي، سأقول نعم صافحته لكني لا أعلم أنه سفيرُ إسرائيل”.
وبعد نقاش حول مواقف رؤساء دول عربية من العلاقات مع إسرائيل يتطرّقُ صالح مجدّداً إلى أن الرئيسَ الأمريكي آنذاك بيل كلينتون “يبذل جهوداً جادة ونحن كمجتمع دولي وشخصيات مؤثرة وأنتم كزعامات يهودية لا بد أن تؤثروا على الحكومة الإسرائيلية من أجل عملية السلام”، ويعتبر صالح أن لقاءَه مع الجاليات اليهودية “تذويب للجليد” الذي يفصل بينه وبين إسرائيل.
وقدّم صالح نفسَه كوسيط لإسرائيل مع الرئيس العراقي صدام حسين، فسأله رئيسُ مجلس الجاليات عمّا إذَا كان يعتقد أن الرئيس العراقي يمكن أن يقتنعَ بالسلام مع إسرائيل، فيجيب صالح “قبل 91 كان من الصعب”، مضيفاً أن رجالَ الأعمال الإسرائيليين أصحاب الأموال يمكن أن يحركوا الأمور نحو السلام مع العراق، بمعنى أن صالح يرى أنه بعد حصار وتدمير العراق عقب غزو الكويت سيستسلم صدام حسين لليهود واستثماراتهم والسلام مع إسرائيل، وهو هنا يوضح أَهْدَاف أمريكا من تدمير ومحاصرة الدول العربية الرافضة لإسرائيل؛ بهدف كسر إرادتها وجعلها تفتح أبوابَها لليهود والإسرائيليين.
بعد ذلك اتّفق صالح مع رئيس الجاليات اليهودية على إرسال 20 شخصاً من رؤساء الجاليات اليهودية إلى اليمن، ولكن بعد احتفال 22 مايو 2000 ويشترط صالح أن يكون الوفدُ ممن يجيدون اللغة الإنجليزية كي يبدو أنهم أمريكيون وليس إسرائيليين.
ويشدّد صالح على ضرورة أن يتوسّط رؤساءُ الجاليات لدى الإدارَة الأمريكية لدعمه، ويقول لرئيس مجلس الجاليات إنه سيلتقي كلينتون في واشنطن ويريد أن يقول له الأخير بأنّ رؤساء الجاليات تحدثوا إليه وطلبوا منه دعم اليمن. كان صالح يريد أن يطمأن أن رؤساءَ الجاليات سيفون بوعدهم له بالتوسّط لدى الإدارَة الأمريكية.
أمّا رئيسُ مجلس الجاليات اليهودية فينصح صالح قائلاً “زيارتكم لواشنطن مهمة جداً ويجب أن تعملوا على مسارَين؛ لأنّ كلينتون شخص واحد وسيغادر منصبه في يوم ما فعليكم التحدث لأعضاء الكونجرس”. صالح فهم أن رئيسَ الجاليات ينصحُه بإنشاء لوبي يمني يقيمُ علاقاتٍ مع أعضاء الكونجرس، لكن صالح وجد في رؤساء الجاليات الجهة المناسبة لذلك، فرد قائلاً “نريدكم أنتم تكونوا اللوبي لنا”، فرد رئيسُ الجاليات “أنتم تحتاجون لشخص واحد مختص في أعمال اللوبي وليس فريق لوبي”، واللوبي يُطلَقُ على جماعات الضغط التي تؤثر على قرارات الدول وتحتضن أمريكا الكثيرَ منها.