في حضرة الحسين “رضوان الله عليه”
محمد القعمي
أيها الحسين لقد وقفتُ على شاطئ عالمك؛ فإذا هو فضاء ممتد بالنور والضياء، تفترشه سحائب الرحمة البيضاء، وأنت تطل عليها كشمس تربعت منازل العلياء، فأردتُ أن أصف بعضًا من تفاصيل ما رأيت؛ فكنتُ كمن وقع على بحر من الكنوز، وشاهد من البهاء ما أدهشه وأذهل، فصرتُ كلما أخذت من جانب وقلتُ هذا أجمل؛ بدا لي من جوانب ما هو أفضل وأجمل، وأسطع شروقًا وأسنى وأكمل..
أيها الآتي من عالم النور؛ لقد توهجتَ في زمن الظلمات، وأيقظتَ الفجر بعد طول سبات، ومنحتْ روحُك الشفافةُ الطاهرةُ الأرواحَ حياتها بعد أن كانت على شفير الممات؛ حين نفختَ فيها من روح الآيات، وعرّفتها حقائق التلاوات.
أيها المتألقُ نجمًا في السماء، والساطعُ في مدار العظماء، والمشرقُ اسمُك في ملكوت الأسماء، أنت كنت بحق صفوةَ العلماء، ووارثَ الأنبياء، والدليلَ إلى صراط الأولياء، وسبيلِ الأزكياء والأصفياء، حيث لا مكان فيه للأدعياء، ولا تطَؤُه أقدام أهل النفاق والرياء.
أيها السابح في فلك القرآن، لقد جعلتَه أمامك فاتجه بك إلى معارج السمو، وأعطيته زمامك فقادك إلى سدرة القرب والدنو.. وحين دنوتَ منه تركته ليصبغك هو بصبغته، ويغمسك في محيط معرفته، ويغمرك بأنوار هدايته، ويغشاك بجلال هيبته، ولطف رحمته وجمال محبته، ويسير بك في واضح محجته، فدرتَ معه حيث دار، وصممت على أن توري قبسًا في كل دار، من غير اكتراث بالأخطار؛ لأنك أيقنت بأن أفظع الأخطار هو التعرض لغضب الجبار، والخلود يوم القيامة في النار.. وبعد أن تحدد لديك المسار، وتبينتَ صراط الأخيار وطريق الأشرار، ووضحتْ لك الرؤية كوضوح ضوء النهار؛ سلكت مسالك الأطهار، ومضيتَ تثير دفائن العقول والأفكار، وتنير بصائر القلوب والأبصار، وأرويتَ بسلسبيل الذكرِ الغليلَ، وشفيتَ ببلسم القرآنِ العليلَ، وحرَّضت المؤمنين ليكونوا لدين الله دعاة وأنصارًا.
فما عسانا أن نقول في من ولدته الذُّرَا، واحتضنته الذُّرَا، وألِفَ الذُّرَا، وألفته الذُّرَا، ومنها طلع نجمه علينا وسرى؟! ما عسانا أن نقول في من باع النفس لباريه ومنه اشترى؛ فربح التجارة، وصار عَلَمًا للمؤمنين ومنارة؟!
أيها الذائب في الله حتى جاد له بالدماء، أنت نذرتَ له المحيا والممات فمنحك الخلود بدل الفناء، وأعطاك الرفعة والسنا، وقرّبك إليه فصرت عنده من أكارم الأحياء، وجعلك لعصرنا سيد الشهداء، فأنت من جهر بالبراءة من الأعداء، وأنت من أعلن لخالقه الولاء، وأنت من جعل الله على يديه فتحَ أبواب الجهاد، ودلّ عليها خاصة العباد، وواجه في سبيل الحق؛ الباطلَ والفساد، فلم تصمت لوعيدهم، ولم تفزع ولم تخنع، ولم توهن عزائمَك وعودُهم ولم تخشع ولم تخضع؛ لأنك عرفت مولى الولاية فواليته، ومستحق العداوة فعاديته، ولم تأبه لهول العواقب؛ لعلمك بأن العاقبة للمتقين، ولم تبالِ بشدة النوائب؛ مادام الله وعد بالنصرِ المستضعفين..
عرفتَ الله من خلال كتابه ثم عرَّفتنا به، وأرشدتنا إلى سبيل الفوز والفلاح وكيف نكون من أصحابه، وبينتَ طريق الحسرات من واقع أسبابه، وتساءلت كيف نكون من المؤمنين بالله العارفين بالخلود في عذابه، ثم نخاف من عقاب المخلوقين ولا نخاف من عقابه؟!
حقًّا لقد كان لعقلك الرجحان، والثقل في الميزان، والصلابة في الميدان، فجرى نَفَسُ الرحمن على أنفاسك الشذية من خلال ثقافة القرآن، فنفّست عن أهل الإيمان، بعد أن كادت تخنقهم أنفاس الشيطان..
أنت كنت أمة، فصنعت أمة، وأحييتها، وبقدر ما نهلت من النور استفاض منك النور، فأزحت ظلمة، وكشفت غمة، وعلّمت حكمة، ونشرت رحمة، وتحدثت بنعمة..
ذلك هو الحسين “من شرف العنصر الكريم، ومعدن الشرف الصميم، أصل راسخ، وفرع شامخ، ومجد باذخ، قد ركّب الله دوحته في قرارة المجد، وغرس نبعته في منبت الفضل، المجد لسان أوصافه، والشرف نسب أسلافه، دوحة رسب عرقها وبسق فرعها وطاب عودها واعتدل عمودها وفيأت ظلالها وتهدلت ثمارها وتفرعت أغصانها وبرد مقيلها..
عبقت من شمائله نسمات الند، وقطرت من سلسبيل أوصافه مياه المجد، جامع ما تفرق من شمل الفضائل، ناظم ما انتثر من عقد المآثر، أنارت به نجوم المعالي وشموسها..
بدر العلوم اللائح، وقطرها الغادي والرائح، وثبيرها الذي لا يزحم، ومنيرها الذي ينجلي به ليلها الأسحم.. له همة علا جناحها إلى عنان النجم وامتد صباحها من شرق إلى غرب، همته أبعد من مناط الفرقد وأعلى من منكب الجوزاء، موضعه من أهل الفضل موضع الواسطة من العقد.. أرج الزمان بفضله، وعقم النساء عن الإتيان بمثله..”