“أرواحهم كانت تناديني ” القاعة الكبرى و الجريمة السعودية المروعة
يمانيون – متابعات
وصلت إلى هناك مع الواصلين.. دخلت بسرعة و هرعت إلى حيث مكان الدخول ليس شوقاً بل فضول..!
لكنني مُنِعت كما غيري.. يجب علينا أولاً أن نحضر الوقفة بالخارج.. نعم كانت وقفة رائعة و معبرة كروعة أصحابها و كل من حضرها بإخلاصهم و تفانيهم لأجل تلك الأم الثكلى الجريحة على أبناءها..
انتهت الوقفة و تسارعت خطواتي مع آخرين إلى ذلك المكان الحزين الذي تأِنُّ لجراحه الأرض..و تبكي السماء من هول ِ ذلكَ الأنين..!
فور وصولي أَخذَت عيناي تُسافرُ في المكان و تحتضنُ الأرجاء في لوعةِ الحيران.. و تتساءل..؟
هنا كانوا.. هنا جلسوا.. هنا وقفوا.. قبل أن يتوقف الزمان.. و يتلاشى المكان..! و قبل أن يضيع من قاموس البشرية شيءٌ اسمهُ إنسان..!
توجهنا للكراسي المخصصة و جلسنا و بدأ المؤتمر يتحدث عن الكارثة فاستمعنا.. كُنّا من هول ما رأينا و سمعنا في شبه وعي و شبه غيبوبة.. فتارةً يأخذنا الكلام.. و تارة يكاد يغشى علينا مما حلَّ بالمكان.. أو بالأحرى مما حلَّ بمن كانوا في المكان..!
تحدث الحقوقيون و الإعلاميون و الناشطون بالتفصيل.. و من كثرة حرقتهم تُهنا في الأحداث و التفاصيل.. و أثناء استغراقنا في سماع ذلك الشرح الطويل.. رأينا فلاشاً يصور المكان قبل الواقعة و هو مكتظ بذلك العدد الكبير الكثير.. و رأينا بعدها الحريق و العويل و الأشلاء و ما حلَّ بهم من قتلٍ و تنكيل..!
فالتفت إلى يساري لأرى تلك الفجوة الكبيرة في السقف من الأعلى فقد كنّا في الدور الأرضي و كأنّها فوهة بركان انبثقت منها ألسنة اللهب و النيران.. لكنها كانت الفجوة الهائلة التي صنعها ذلك الصاروخ اللعين الذي عصف بالمكان و الزمان في تلك الفعلة التي تبرأ منها حتى الشيطان..!
و لم تكن واحدة بل اثنتان..!
للحظة تخيلت أنَّ الطائرة تُحلِّق فوق رأسي و تدور و أنها ستُلقي جحيمها و حقدها المسعور.. الآن علي أنا و كل الحضور.. و أنَّ الجميع من حولي سيصاب بالرعب و الذهول..! أم أنه سيجري تائهاً و خائفاً مذعور..
هذا إن تمكن من النجاة ممن أعلن نفسه وصياً لِوأدِّ الحياة.. و لنشر الموت و أن يرتكب كل يوم مجزرةً و مأساة..!
كل هذا و أنا أتخيل أم أتذكر ما حصل قريباً بمئات من الأبرياء كانوا هنا ذات يومٍ و كيف تم حرقهُم أحياء..!
نعم..كأنني آراهم يصرخون و يستغيثون و من العذابِ و الآهاتِ يولولون.. يا إلهي هل سيصل إليهم المسعفون..؟
كيف يصلوا؟ و قد كانوا أيضا هم مستهدفون.!
أيّها الأحرار.. ألقوا الخطب و أصدرِوا البيان و أعلِّنوا الجهاد لا الحداد.. ففي صدري نارٌ و بركان.. و كأنّهُ سيتفجّرُ الآن..! ليجتث كلّ خائنٍ لله و الأديان و منسلخ عن كلِّ شرائعِ الإنسان..
تعالتِ الأصوات بوقف العدوان فوراً دون قيدٍ ولا هذيان و بخروج الغزاة من أرض الإيمان و برفع الحصار الظالم الآن و بوقف قتل الأبرياء قصفاً و جوعا و حرمان..!
انتهى المؤتمر و أُصدِرَ البيان.. ولا زلت أنتظر زميلاتي.. لقد انتهى كل شيء هيا لنرحل الآن فلم يتبقَ غيرنا و القليل.. لكن ثمة شيءٌ في نفسي.. كأنَّ هناك من يناديني و يمنعني عن الرحيل..
و نحنُ خارجات توقفن.! و أشرن لي إلى هناك.. انظري هناك حصلت المأساة.! ما رأيكن أن نجرب مع رجال الأمن ليسمحوا لنا برؤية المكان و نقول لهم:نحن إعلاميات.!
لكن قلبي كان يقول لي :توقفي فلن تقوي على ذلك.. و روحي تقول :لا تترددي و امضي فأرواح تناديك لا زالت تحوم جريحةً هناك و لا زلت أستمع صوت صداها يصرخ في المكان و يخترقُ الزمان لتنظري بعينيك يوم مات ضمير الإنسان.. و أصبح سلعة تباع و تشترى و أصبحت المادة هي السلطان و لم يعدِ العالم يعترف بشيء اسمه إنسان.!
كنت معهن و وصل بعض الأشخاص و كانوا يتحدثون معهم ليسمحوا لهم و هم يرفضون و بعد العديد من المحاولات و إخراج البطاقات :انظروا نحن إعلاميون نريد معاينة ما حلَّ هناك.. سمحوا لنا أخيراً على أن ننظر من الباب و نعود أدراجنا..
التفت نحوهم و نظرت إليهم نظرة عتب لم يفهموها و قلت لهم بها :لماذا سمحتم لنا؟
تقدمت خطواتي ببطء و تثاقل و قبل أن نصعد بضع تلك الدرجات رأيت أحذية للمغدور بهم.. وصلنا إلى ما كان يفترض أنه باب لنلقي نظرتنا و نعود.. لكنني توقفت و أصيبت أطرافي بالجمود و أنا في حالة من الذهول و الشرود..!
لقد قرأت و سمعت و رأيت الكثير لكنها لم تكن أبداً بهول ما رأيت.! و قلت في نفسي لكل من أتى و لم يزُر هنا.. أنت ماذا رأيت.!
أول ما وقعت عيناي على بقايا جنبية محترقة على الأرض.. و فوق الركام مضيت.. قلت في نفسي :هيا تعالوا أخرجوني و قولوا هذا يكفي و امنعوني.. لكن و آسفاه.. أنهم لم يسمعوني.!
في المدخل على اليمين و الشمال دمارٌ كبير و حذاءٌ هناك لطفل.. أين أصبحت يا صغير؟
مشيتُ نحو المكان الرئيس الذي تلقى تلك الضربات.. احتبستُ الدموع مع الكلمات شعرتُ أني لو أطلقتها لربما روحي عانقت تلك الأرواح التي شعرت أنها تعرج بين السماء و هذا المكان و لها بكاء تنفطر منه القلوب و لو سمع الناس صراخها لصمّتِ الآذان.. و هي تتوسلِ الأحرار أن يأخذوا بثأرها ممن غدر بها من أولياء الشيطان.!
قالت لي الكلمات اعذريني فلم أجد مفردات أساعدك ِ بها لتصفي هول المأساة.. فقلت ُ لها:لا تثريب عليك..
لم يعد هناك سقف..فقط دمار رهيب و خراب من هوله الوالدان تشيب.!
هناك أحجار كبيرة.. هناك أعمدة.. هناك فرش مركومة على بعض.. هناك.. و هناك…. و هناك من تناثرت أشلاءه و في تلك الزاوية من شبت النيران في جسده لتتركه جثة متفحمة و هناك من كان يهرول مذعوراً علّهُ ينجوا و الدماء تسيلُ منه بغزارة.. و المكان قد لفه الظلام و أحاطه الدخان و اشتعلت فيه النيران.. و تحت ذلك العمود كان شهيداً أو جريحاً في حالةٍ يبكي منها الحجر ُ و يذوب.!
و هنا قريباً مني مجموعة من الغتُر.. أحذية.. و بقايا جنبية أخرى متفحمة.!
أعرف أنها لم تكن الجريمة و المجزرة الوحيدة بهذه الوحشية و البشاعة.. فهناك العشرات و العشرات منها في مختلف المحافظات و في كل بقعة من وطني الحبيب لكن هذه التي تم توثيقها بهذا الشكل المهيب أكثر من غيرها مما سيظل وصمة عار يندى له جبين الإنسانية مهما تعاقبت الأجيال البشرية .!
و وسط هذه الفوضى و الركام كأنني كنت أراهم و هم يصرخون و يبكون و يحترقون و البعض منهم بدماءهم يهرولون.. إلى أين؟فلا تزال هناك غارة ثانية، و من بطش هذا العالم المتجبر أين ستهربون؟
كانت أرواحهم تناديني هنا و هناك و تقول :انظري أي إجرام و ظلم لحق بنا..ماذا ارتكبنا و ما هي جريرتنا؟ فلم أدرِ ما أقول..!
كانوا يقولون لكل الموجودين :أوصلوا مظلوميتنا و خذوا بثأرنا..
إلى جواري كانت صديقتي بيدها الكاميرا، فقلتُ لها :صوري هنا و هناك و هناك.. و هنا.. و لا تنسي هناك..!
كانت تقول لي :نعم صورت.. نعم صورت..
لكنها أرادت أن تصور تلك الفجوة الكبيرة الواسعة التي أحدثها ذلك السلاح المتطور الخطير شديد الإنفجار.. فقد جربوا علينا كل أنواع أسلحة الدمار المتطورة منها و الفتاكة و كأنَّهم يلقونها على جرذان..! و نحن أكرم بني الإنسان.. لكن من تحالف مع الشيطان، كيف له أن يعرف حرمة الإنسان..!
سمعتُ أحدهم يقول من خلفنا أن آخر جثة تم استخراجها بالأمس من تحت الركام.. لكنني كنت أشتم رائحة لم أعد أحتمل البقاء.. و كنت أقول لها هل تشمين فتقول لي :لا.. و عندما دسنا على أحد الفرش انبثقت رائحة قوية فمضيت و لم أعقِّب.. لكنها تبعتني و أمسكت بيدي.. انظري هناك، أين؟ هناك..
قالت :الرائحة من هناك.! كانت بقايا سجاد محترق عليها بقايا أشلاء صغيرة جداً و دقيقة محترقة و قد بدأت الديدان تخرج منها.!
نعم هكذا صنع الأشقياء بالأبرياء.. ويّلهُم من ثأرنا و من بطش ربُّ السماء.
- د. أسماء الشهاري