حروف تبحث عن نقاط :السؤال الذي لم يجب عليه البردوني .. بقلم/ عباس الديلمي
أفق نيوز | كتابات
في هذه الوقفة أمام شاعرنا العظيم عبدالله البردوني لن أخاطبه بما خاطب به الشاعر الكبير نزار قباني، عميد الأدب العربي طه حسين عندما قال له:
“ضوء عينيك، أم هما نجمتان كلهم لا يرى وأنت تراني”
ولكني اتوجه بالحديث إليكم لأقول شيئاً ممَّا اصطاده خاطري في هذه المناسبة الهامة- باكتمال العام العشرين على اختيار البردوني حياة الخلود الأبدي- وهو: لم يكمل الطفل عبدالله البردوني سنوات طفولته الأولى.. حتى تعرض لهجوم شرس من فيروس مرض الجدري اللعين، ليذهب بعينيه اللتين لم يكتمل اكتحالهما بجمال الريف اليمني.. وعن هذه المأساة قال لي صديق والدي وأستاذي عبدالله البردوني: صرت كفيفاً لا أرى فرأت أسرتي ووالدي في المقدمة، أني سأكون عالة عليهم، لا أنفع لزراعة الأرض ولا لحراستها وجني ثمارها، ولا استطيع حمل السلاح والقتال دفاعاً عن القبيلة.. فذهبوا بي الى ذمار وأودعوني في مركزها العلمي -المدرسة الشمسية- كي التحق بحفظة القرآن والفقهاء.. وأسلك مسلكهم في طلب العيش..
لن اسرد بقية الحكاية حتى اختصر وأقول: لقد ذهبوا به الى المدرسة الشمسية بذمار كفيفاً أو ضرير العينين، ولأنه البردوني الذي وضع الله فيه سره، فقد استعاض في هذه المدرسة عينه الأولى- وهي عين لا كبقية العيون- انها العين التي مكنته من اختراق الحجب وتأمل ما في القلوب والأفئدة وقراءة كل ما حوله والنظر فيما لا يزال مختبئاً خلف ستار الزمان وستكشفه الايام القادمة في حينه..
بعدها انتقل من ذمار ومدرستها الشمسية الى صنعاء العاصمة ومدرستها العلمية، وهنا استعاض عينه الثانية- المميزة عن سواها- وهي العين التي مكنته من أن يرى العالم من مكانه الصغير المتواضع- في بستان السلطان- نعم كان يرى العالم وبصورة تجعله يتأمل ويلاحظ في هذه الدولة أو تلك ما لا يراه زوارها وبعض… أبنائها.. فجسد مقولة الحكيم القائل: ان العاقل يرى من مكانه مالا يراه الاحمق وان طاف العالم.
لم يستعض عن عينيه بنجمتين تضيء له أو تمكنه من رؤية ما يختفي عن بعض العيون.. بل استعاض عنهما بما يمكن ان أصفه بالتجليات والمكاشفات والاشراقات الكاشفة للمستور، ومن يخالفني ذلك ما عليه إلاّ الابحار في مجموعته الشعرية والنثرية ليتأكد مما أقول..
قد يقول قائل عني، أني لا اتحدث عن البردوني العظيم الا بلسان المحب المبالغ، فأقول نعم المحب وليس المبالغ، فأنا لا استطيع ان ابالغ الا في قصائدي وغنائياتي العاطفية.. واحياناً وليس دائماً.
على كلٍّ ما دامت كنوز البردوني- شعراً ونثراً- في متناول ايادينا فالأمر متروك لما تشهد به العقول والبصائر، وليس “ما شهدت به الاعداء” لن أزيد على ذلك، وكما اشرت الى اجابة البردوني العظيم على سؤالي له عن انتقاله من قرية البردُّون الى ذمار لطلب العلم.. ها قد خطر بخاطري السؤال الذي لم يجبني عليه، فقد زرته كعادتي الى منزله وقد اشتد به المرض، فوجدت انه بدأ يعزف عن تناول الادوية التي وصفها له الاطباء، فسألته عن سبب ذلك -بما يشبه العتاب- فلم يرد عليَّ وظل صامتاً، فلم ألح عليه في طلب الاجابة، لأني كنت اعرف ماذا يعني صمته، كما اعرف ماذا يعني ميله للمرح والنكتة، أو السخرية، وعرفت ان في ذلك الصمت ما يذكرنا بقول “سيرتوماس براون” “نحن جميعاً نعمل ضد شفائنا، لأن الموت هو الشفاء الوحيد من كل الأمراض”.
ختاماً: كما انتصر البردوني على فيروس الجدري الذي ذهب بعينيه فإنه قد فضل الرحيل إلى حياة الخلود ترفعاً عن مقارعة فيروسات الحسد والحقد والبغضاء والنفاق. كل الرحمة لعبدالله البردوني عظيم اليمن والعرب جمعا.