“نصّ” المحاضرة الرمضانية الثانية والعشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1441هـ
المحاضرة الرمضانية الثانية والعشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1441هـ 15-05-2020
أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ ألا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وتقبَّل الله منَّا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.
اللهم اهدنا وتقبَّل منَّا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
وصلنا إلى قول الله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال: 24-25].
تأتي هذه الآية المباركة في سياق الحديث عن غزوة بدرٍ الكبرى، وقد سبق في بداية العرض لهذه الغزوة، كيف كان البعض من المسلمين عندما خرجوا مع النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- كارهين لخروجه، وللخروج أصلاً، وكانوا يجادلونه في الحق بعدما تبين، يعني: وقد علموا أنه الحق، فهم يعلمون أنَّ ذلك الموقف هو حق، وهم يعلمون أنَّ ذلك الخروج والتحرك هو بالحق، ومع ذلك كانوا كارهين، وكانوا مجادلين، وكانوا يسعون إلى إقناع النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- بالتوقف، وبعدم الخروج والتحرك.
مثل هذه الحالة تحصل كثيراً في واقع الأمة، وفي هذا الزمن على نحوٍ واسع، فقد تتضح الكثير من المواقف، الكثير من القضايا أنها حق، وأنها بالحق، عندما نلحظ مثلاً من أبرز القضايا التي الحق فيها واضحٌ جدًّا: مظلومية الشعب الفلسطيني، وخطر إسرائيل، وخطر أمريكا، ومع ذلك، مع كل الوضوح المتعلق بالحق في هذه القضية، أكثر أبناء الأمة هم خارج الموقف المفترض، خارج الموقف الحق، أي: لا يقفون الموقف الحق عملياً، ولا يتحركون وفق ذلك.
هذه الحالة لها أسبابها، الله -سبحانه وتعالى- جعل كثيراً من توجيهاته على النحو الذي يبني الأمة، يحيي الأمة لتكون أمةً عزيزةً وقويةً، تتحرك في مواجهة التحديات من واقعٍ قوي، يحيي فيها روح المسؤولية، يحيي فيها الإباء، يحيي فيها العزة، يحيي فيها الإيمان، يحيي فيها الثقة بالله -سبحانه وتعالى-، ينظم أمرها، يجمع كلمتها، يصلح واقعها، ويهيئها لأن تكون في مستوى مواجهة التحديات، وفي مستوى تحمل المسؤولية.
فعلى المستوى الشخصي، في القرآن الكريم في هدايته، في تربية الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- ما ينمِّي في الإنسان ويعزز فيه قيم الإسلام العظيمة: العزة، الكرامة، الإباء، الاستشعار العالي للمسؤولية، التفاعل مع القضايا المهمة، والوعي بخطورة التفريط وخطورة التقصير، والتعلق بالله -سبحانه وتعالى-، والروحية الإيمانية العالية التي يتوفر فيها الدافع الكافي، والدافع القوي لتحمل المسؤولية، وللتحرك في المواقف المهمة، وللانطلاقة في الموقف الحق.
على المستوى أيضاً العام، المستوى الجماعي للأمة، هناك الكثير من الأعمال والمسؤوليات الهامة ذات الطابع الجماعي، التي تدعى إليها الأمة، وتربَّى عليها الأمة، وتحرك فيها الأمة، والكثير من هذه المسؤوليات والتفاصيل العملية ذات أهمية كبيرة في بناء الأمة، فالأمة عندما تعيش حالة الفراغ، ولا تتحرك ضمن هذا المشروع الإلهي، ولا تستجيب لهذه التوجيهات الإلهية التي تبنيها، التي تربيها، التي تحيي فيها روح المسؤولية، التي ترفع مستوى الوعي لديها، التي تساعدها في واقعها لتبني نفسها في كل المجالات: على المستوى العسكري، على المستوى الاقتصادي… على كل المستويات، إذا لم تتجه هذا الاتجاه؛ فسيكون واقعها نفسه واقعاً سلبياً، يؤثِّر عليها في مدى الاستجابة لتوجيهات الله -سبحانه وتعالى-، وللتحرك في المواقف المهمة؛ لأنها ترى نفسها في واقعٍ ضعيفٍ، أو واقعٍ هشٍ، أو واقعٍ يسوده الكثير من الخلل، أو الإشكالات والعوائق، وترى نفسها ليست جاهزة لمواجهة التحديات، وتعتبر نفسها ليست مهيأة لتحمل المسؤوليات، فالكثير من توجيهات الله -سبحانه وتعالى-، وبالتحديد التوجيهات التي يتهرب الكثير من الناس عن الالتزام بها وعن تنفيذها، هي ذات أهمية كبيرة في معالجة هذه المشكلة، معالجة مشكلة الخلل في واقع الأمة، الضعف في واقع الأمة، الحالة التي يموت فيها الاستشعار للمسؤولية، الحالة التي يتردى فيها واقع الأمة ووضع الأمة في كل المجالات، فتتحول إلى أمةٍ ضعيفة، أمةٍ مفككة، أمةٍ عاجزة، أمةٍ تغيب عنها حالة الجهوزية لمواجهة التحديات، أمة تموت فيها المعاني والقيم ذات الأهمية الكبيرة، التي تجعل الإنسان حاضراً ومهيأً لتحمل المسؤوليات، ومواجهة التحديات.
فالكثير من التوجيهات التي تأتي لتعلِّمنا أن نتحمل مسؤولياتنا، وتربينا على ذلك، تقدِّم لنا على المستوى التربوي ما يساعدنا على ذلك، على المستوى التوعوي ما يساعدنا على ذلك، ترفع من مستوى وعينا، ترفع من مستوى استشعارنا للمسؤولية، تعزز فينا تلك المعاني العظيمة، مثل: العزة، الكرامة، الإباء… القيم المهمة، وفي نفس الوقت تدلنا عملياً على كثيرٍ من الأعمال التي نتحرك فيها فنكون أمة يقظةً عمليةً تتحرك، ليست أمة جامدة، الموات الذي يعاكس ويناقض هذه الحياة المقصودة في الآية القرآنية هو الجمود، هو غياب روح المسؤولية، هو انعدام الوعي، هو حالة الاستسلام والخنوع، هو حالة الفتور والكسل، التي تجعل الأمة بعيدةً عن التحرك العملي، والحياة التي نراها في هذه الآية المباركة هي حياة العزة والإيمان، هي الحياة التي تجعل الأمة في موقع القوة، في موقع العمل، أمةً متحركة، أمةً جادة، أمةً لا تبقى جامدةً في الوقت الذي تتعرض فيه للخطر الكبير، والتحديات الكبيرة، وتنتظر لأعدائها ليعملوا بها ما يشاؤون ويريدون، فهذه الحياة التي تأتي إلى كل المجالات التي تبني الأمة: في المستوى العسكري، في المستوى الاقتصادي… في كل المستويات، في المواقف العملية التي تجعل من الأمة أمة حيةً، ناهضةً، قائمةً، متحركةً، عمليةً، جادةً، واعيةً، منتبهةً، يقظةً، وليس أمة جامدة، غافلة، مستسلمة، خانعة، تعاني من الكسل، تعاني من الفتور، تعاني من انعدام الرؤية، تقف مكبَّلةً عن التحرك حتى في أخطر المواقف، وفي مواجهة أخطر التحديات.
فهنا يأتي هذا النداء من الله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، فهذه التوجيهات التي تأتينا من الله -سبحانه وتعالى- وفيها حياتنا، حياة العزة، حياة الإيمان، حياة القوة، انتظام الأمر، صلاح واقع الأمة من الداخل، هي توجيهات تتصل بمجالات كثيرة، مثلاً: منها ما يتعلق بالجانب التربوي، يربينا تربيةً إيمانية، وينمِّي فينا الوعي، ومنها ما يتجه إلى الواقع العملي، من خلال مواقف عملية، تحركات عملية، ويأتي هنا أيضاً التأكيد في الاستجابة للرسول وحتى باللام: {وَلِلرَّسُولِ}؛ لأن الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- في موقعه في قيادة الأمة، يتحرك في الواقع التنفيذي لتطبيق التوجيهات، وتنفيذ التوجيهات من الله -سبحانه وتعالى-، فيدعو إلى خطوات عملية ومواقف، ويتحرك بالأمة، ويدعو الأمة، فتكون الأمة في واقعها في واقعٍ قويٍ، تتجه حينئذٍ لمواجهة التحديات والأخطار والأعداء من واقعٍ قويٍ، من واقعٍ جيد، نتيجة الاستجابة لتلك الأعمال التي تبني الأمة، تقوي الأمة، تعتز بها الأمة، يصلح بها واقع الأمة، ينتظم بها واقع الأمة، فيدخل هنا الكثير من التفصيلات العملية، هناك كثير من التفاصيل المهمة التي لها أهمية في هذا الجانب، أنَّ فيها إحياء للأمة، حركة للأمة، واقع عملي وإيجابي وبنَّاء للأمة، ويستهتر البعض من الناس بمثل هذه الأعمال، وبمثل هذه التفاصيل العملية، ويتهربون من كثير من الأعمال والأنشطة والبرامج التي تساعد على هذا، مع أنَّ فيه الحياة للأمة، الحياة الحقيقية، الحياة التي تكون فيها الأمة أمة عزيزةً، أمة قويةً، أمة منيعةً وعصيةً على أعدائها، أمة يصلح واقعها، وينتظم أمرها بفعل هذه الاهتمامات، وتحمل هذه المسؤوليات، بفعل هذه الحركة وهذا النشاط، وهنا يتهرب الكثير من الناس، وبعضهم قد يتهاون بكثيرٍ من الأعمال ذات الأهمية الكبيرة، والتفاصيل العملية التي يكون فيها أنشطة عملية، برامج عملية، اهتمامات عملية في الساحة، تساعد على أن تظهر الأمة أمةً قويةً، أمةً جاهزةً لمواجهة أعدائها، ولا تبقى في حالةٍ من الجمود الذي يشبه الموت، حالة من الركود الذي يشبه الموت، ويطمع العدو في الأمة، حالةً تعبِّر عن استسلام أو خنوع.
{إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، فيشمل هذا كل المجالات- كما قلنا- التي فيها حياة الأمة، وقوتها، وعزتها، وبناؤها، ونهضتها، وحيويتها، وخروجها من تلك الحالات السلبية.
{اسْتَجِيبُوا}، الحالة الصحيحة هي الاستجابة العملية، التنفيذ، بدلاً من التجاهل، بدلاً من التنصل عن المسؤولية، بدلاً من التهرب، وكما قلنا عادةً ما يتهرب الناس أكثر شيء من مثل هذه التوجيهات وهذه التعليمات التي لها هذا التأثير: تحيي الأمة، تقوي الأمة، تنهض بالأمة، تجعل الأمة في موقعٍ قوي، في موقع الجهوزية في مواجهة التحديات والأخطار، وليس في حالة ركود، فإذا دهمها الخطر كانت غير جاهزة، بل على العكس تكون جاهزة للاستسلام.
البعض من الناس للأسف الشديد ممن لم يفهموا الدين الإسلامي بشكلٍ صحيح، أسلوبهم حتى وهم يتحركون باسم الدين، هو على النحو الذي يجهِّزون فيه الأمة للاستسلام، أن تكون جاهزة للاستسلام إذا دهمها العدو، إذا أتاها الخطر، ويعارضون أي تحرك فيه حالة من تجهيز الأمة لمواجهة الأخطار، أو تحريك الأمة لمواجهة الأخطار التي قد أتت وهي حتمية لا بدَّ منها، كثير من الأعمال التي فيها حياة الأمة، وقوة الأمة، وعزة الأمة، وفتوة الإيمان، وحركية الإيمان، التي تجعل من الأمة أمةً عملية، أمةً ناهضة، أمةً متحركةً تمتلك مشروعاً من الأساس، ولا تبقى في حالةٍ من الغفلة، ثم تواجه التحديات بكثيرٍ من التهرب عن المسؤولية، والضعف، والتعللات، والإشكالات، والعقد، والكراهة للخروج، والكراهة للعمل، لا، هنا يؤكِّد على أهمية هذه الاستجابة العملية، والطاعة العملية، والتحرك العملي.
ثم يقدِّم تحذيرات شديدة وخطيرة للغاية:
أول هذه التحذيرات قوله -جلَّ شأنه-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}، واعلموا أنكم إن لم تستجيبوا لله ولرسوله تجاه هذه التوجيهات والتعليمات التي تتهربون منها، تتهربون من تنفيذها، مع أنَّ فيها حياتكم، حياة الإنسان، يحيى حياة العزة والإيمان، وحياة الأمة، تقوى بها الأمة، تعتز بها الأمة، تنهض بها الأمة، تبنى بها الأمة، يصلح بها واقع الأمة، ينتظم بها أمر الأمة، تجتمع بها كلمة الأمة، تصحح الخلل في واقع الأمة، تعالج مشاكل الأمة، مسؤوليات مهمة، وأعمال ذات نتيجة إيجابية للناس في الحياة، إن لم تستجيبوا فأنتم معرَّضون لهذه المخاطر الكبيرة: أولاً على المستوى الشخصي: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}، هذا تحذير على المستوى الشخصي لكل إنسان، لكل شخص، تحذيرٌ لك أنت على مستوى واقعك الشخصي، إن لم تستجب فقد تتعرض لهذه الخطورة.
لاحظوا البعض من الناس يعتمدون على التسويف والإحالة، فلا يتحركون في كثيرٍ من الأعمال المهمة، والتفاصيل التي لها نتيجة جيدة: تجعل الأمة في حالة من الحركة والاستعداد والعمل، ويقول: [إذا حصل كذا، أو وقع كذا، أو حدث كذا، أو وصل الخطر إلى عند رأسه، فإنه فيما بعد سيتحرك]! إذا وقع أمرٌ ما من الأمور الكبيرة جدًّا، مثلاً: [إذا تمكَّن الأعداء من أعداء الأمة، إذا أتى الأمريكيون ووصلوا عند باب كل منزل، ودخلوا كل مسجد، ووصلوا إلى كل بقعة، فإنه حينئذٍ سيتحرك فيما بعد]! هكذا يحيل الموضوع، [إذا أصبحت إسرائيل مسيطرةً بشكلٍ فعليٍ وملموسٍ وواضح، وأصبح الصهيوني هو الذي يدير منطقته، فهو فيما بعد سيتحرك]! من هذه الإحالات، وهذه التعللات التي يتهرب بها الإنسان عن مسؤوليته، [إذا انطمست كل معالم الإسلام، وأصبح في نهاية المطاف في آخر رمق، فإنه حينئذٍ سيتحرك]… وهكذا، وقد يمنِّي البعض نفسه بأنه سيتحرك فيما بعد، [أنا أريد هذه الفرصة، وهذه المرحلة، وهذه الفترة لاهتمامات شخصية بحتة، ولا أريد أن أنشغل بأي شيء، ولا أريد أن أحمّل نفسي أي دور، ولا أقوم بأي عمل]، مثل هذه الإحالات غير المسؤولة، التي هي في واقع الحال تنصلٌ عن المسؤولية، وعصيانٌ وخروجٌ عن حد الاستجابة العملية لله -سبحانه وتعالى-.
الله -سبحانه وتعالى- يأمرنا بالمسارعة: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[آل عمران: من الآية133]، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}[الحديد: من الآية21]، روحية المسارعة، المبادرة، الحركة، العمل، يقدِّم لنا مشروعاً عملياً لا ننتظر فيه أن نمكِّن أعداءنا إلى النقطة الأخيرة، إلى آخر مستوى، وأن نبقى إلى آخر رمق، ثم نقول: [أننا سنتحرك فيما بعد]، يعلِّمنا كيف نتحرك ابتداءً، كيف نتحرك في كل المجالات، كيف نبني واقعنا لنكون أمةً كبيرةً قوةً تدفع الكثير من الأخطار قبل أن تصل، وتواجه التحديات قبل أن تستفحل تلك التحديات وتسحقها، بل كيف تكون في موقع القوة التي تتصدر منها لمواجهة الأحداث والأعداء والأخطار في موقع القوة والانتصار.
لا يقبل القرآن مثل هذه الحالات من التسويف، والإرجاء، والتنصل عن المسؤولية، والكسل، والفتور، والجمود، لا يقبلها القرآن الكريم، فإذا قرر الإنسان من واقع الاستهتار والرأي الشخصي أن يتصرف على هذا النحو: من التنصل والتهرب، قد يتهرب من أبسط الأعمال، أعمال بسيطة لكنها مهمة، لكنها مفيدة، لكنها نافعة، قد يتهرب من الحضور لاستماع محاضرة تنمِّي وعيه، وتساعد على ارتفاع مستوى الوعي لديه، قد يتهرب من الحضور في وقفة تعبِّر عن حضور، عن انتباه، عن استجابة، عن استعداد، قد يتهرب من إنفاق شيءٍ بسيطٍ في سبيل الله يدعم به الأمة في موقفها لمواجهة الأخطار والتحديات، قد يتهرب من كثيرٍ من الأعمال والتفاصيل التي هي أعمال حتى بسيطة في كثيرٍ منها، ولكنها ذات قيمة، وأهمية، وحيوية، وتجعل الناس في موقع الفعل والعمل والحركة، وليس في واقع الجمود، والركود، والخنوع، والاستسلام، والموت، فقد يتهرب من كل ذلك، وقد يتخذ هذا القرار، وكثيرٌ من الناس يتخذون مثل هذا القرار بغباء شديد، كأنهم أحكم من الله، وأرحم من الله، وأعلم من الله، فيتجهون لاتخاذ مثل هذه القرارات ويعتبرون أنها هي الحكمة، وأنهم بذلك نظروا لأنفسهم فيما هو خيرٌ لها، وأنهم أعلم بمصلحة أنفسهم، وبناءً على ذلك اتخذوا مثل هذه القرارات، وأرجأوا وسوفوا وأهملوا، هنا الإنسان يعاقب بهذه العقوبة الخطيرة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}؛ لأن الإنسان إمَّا أن يتجه الاتجاه الإيجابي، ما هو الاتجاه الإيجابي؟ الاستجابة العملية لله -سبحانه وتعالى-، فيسارع في الخيرات، والأعمال الصالحات، والمواقف المهمة، والأعمال التي فيها حياة، فيها عزة، فيها كرامة، فيها قوة، فيها تحمل للمسؤولية، واستجابة عملية بالتحرك في إطار المسؤولية، إمَّا أن يكون على هذا النحو، ويتحرك أيضاً، ويلتفت، ويهتم بما ينمِّي من وعيه، بما يربيه التربية الإيمانية، ويحيي فيه قيم الإيمان، يعزز فيه الثقة بالله، وهنا يزداد وعيه، يزداد إيمانه، يرتقي ويرشد وينضج في تفكيره، في نظرته الصائبة للأمور، في تفاعله مع الأمور المهمة، تزكو نفسه أكثر فأكثر، ويزداد وعيه أكثر فأكثر، ويتروَّض على تحمل المسؤولية وعلى القيام بالأعمال المهمة، ويتعود على ذلك، ويكسر حاجز الخوف، وينمو فيه الشعور بالعزة والكرامة والقوة، وينمو فيه الإباء، فيتأهل أكثر وأكثر لمواجهة التحديات، ويمنحه الله -سبحانه وتعالى- المزيد من الهداية والتوفيق، ويحظى برعاية من الله -سبحانه وتعالى-، فيتحول في واقعه العملي إلى محبٍ وعاشقٍ وراغبٍ للتحرك في العمل في رضا الله -سبحانه وتعالى-، والاستجابة العملية في كل تلك المسؤوليات المهمة التي يتهرب الناس منها، ومن التنفيذ للأعمال فيها، يتحول إلى إنسان امتلك- بهداية الله، بتوفيق الله -سبحانه وتعالى– الدافع الإيماني القوي، فإذا به ينطلق ويسارع بكل رغبة، يلتمس الأجر من الله، يلتمس القربة إلى الله -سبحانه وتعالى- بتلك الأعمال، يمتلئ قلبه بالإيمان، ويتحرك بكل اندفاعٍ، بكل شوقٍ، بكل تلهفٍ، بكل اهتمام.
وإمَّا أن يتجه الإنسان الاتجاه الآخر: اتجاه التنصل عن المسؤولية، التهرب من الأعمال المهمة، عدم الاستجابة العملية عن مثل كل هذه التوجيهات والأعمال والتفاصيل المهمة، ويحاول كلما دُعِي إلى ما فيه حياته: حياته المعنوية، حياته الإيمانية، حياة العزة والقوة والكرامة، على أي مستوى، إلى ما يساعد على تنمية وعيه وتربيته تربيةً إيمانية؛ يتهرب، إلى أعمال ومواقف مهمة؛ يتهرب، يتنصل… وهكذا، في هذه الحالة تلقائياً يتربى ويتعود على التنصل عن المسؤولية، والتهرب، والجمود، والفتور، والكسل، وفي نهاية المطاف تتحول هذه إلى حالةٍ نفسية تترسخ في قلبه، وتعظم المخاوف، وتكبر المخاوف، ويضمحل ويتلاشى منه الإيمان والدافع الإيماني، ويطبع الله على قلبه، فحينها لا تستطيع فيما بعد أنت يا أيها المسوِّف، يا أيها الإنسان الذي يحيل استجابته العملية إلى ما بعد، لا تستطيع أن تمتلك في قلبك هذا الدافع، لا تستطيع أن تمتلك في قلبك وفي مشاعرك وفي وجدانك ما يساعدك على الاستجابة العملية فيما بعد، يأتي فيما بعد ظروف معينة يكون التفريط فيها والتقصير فيها أعظم خطورةً عليك وأكبر في الإثم والجرم عند الله -سبحانه وتعالى-، فتجد نفسك غير مهيَّأ نفسياً للتحرك والاستجابة العملية، نفسيتك غير مهيأة، أنت كنت تتهرب من أعمال بسيطة، من أمور بسيطة، فكبرت عليك الأمور الكبيرة جدًّا، لو كنت تستجيب؛ لكنت قد تأهلت، قد تهيأت وصرت في مستوى الاستجابة العملية أمام تلك الأمور الكبيرة والمهمة، فهذا إنذارٌ شديدٌ، وهو- في نفس الوقت- أمرٌ حقيقيٌ ومؤكد، هي نتيجةٌ حتميةٌ يصل إليها الإنسان الذي يتجه في اتجاه التنصل عن الاستجابة العملية لله -سبحانه وتعالى-، في التحرك العملي فيما يحييه ويحيي الأمة، هي نتيجةٌ حتمية أنه سيتأثر نفسياً إلى هذا المستوى الذي يفقد فيه كل الدوافع الإيجابية والإيمانية والإنسانية فيما بعد، فيطبع الله على قلبه، ويمتلئ قلبه أكثر بالعوامل السلبية والمشاعر السلبية التي كانت تقعده فيما قبل، قد كبرت في قلبه فأقعدته أكثر، وتعاظمت في مشاعره ووجدانه فكبلته، وحالت بينه وبين التحرك والاستجابة العملية فيما بعد.
ولذلك تجد النذير في القرآن الكريم في آياتٍ أخرى للمتخاذلين عن العمل في سبيل الله بالطبع على قلوبهم، تكرر هذا في سورة التوبة بأكثر من آية، ويحذرهم، بل يؤكد أن الله يطبع على قلوبهم، يطبع عليها، وهذه الحالة خطيرة جدًّا على الإنسان؛ لأنها حالةٌ لا يوفق فيها الإنسان إذا حصلت له، يسلب التوفيق، فلا يتوفق أبداً، حالة خطيرة جدًّا، هذا الإنذار الأول.
الإنذار الثاني: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، عندما تتنصل عن الاستجابة العملية لله -سبحانه وتعالى- في هذه الأعمال المهمة، التي فيها حياة الأمة، وعزتها، وكرامتها، وقوتها، وبناؤها، وصلاح أمرها، وانتظام أمرها، ومعالجة مشاكلها، عندما تتنصل عن هذه المسؤوليات التي أمرك الله بها، وهي تدخل في إطار العنوان المهم: عنوان الجهاد في سبيل الله، العمل لإعلاء كلمه الله، العمل لدفع الأخطار عن الأمة، عندما تتنصل عن هذه المسؤولية أنت تعصي الله -سبحانه وتعالى، أنت ترد تلك الآيات المهمة، المئات من الآيات القرآنية أنت تردها، في واقعك العملي أنت لا تلتزم بها، أنت رفضتها، أو أنت تجاهلتها كلياً، وكأنه لا وجود لها، وكأن الله لم يأمرك، كأنه لم يوجهك، كأنه لم يخاطبك، أو كأنك لست واحداً من الذين آمنوا المقصودين في تلك الآيات المباركة وفي تلك النداءات والخطابات والتوجيهات، تقرأ الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ}[الصف: من الآية14]، كأنك لست من الذين آمنوا المعنيين في هذه الآية، فلا تتحرك في أي موقف، في أي عمل يحقق استجابتك العملية لهذه الآية المباركة، لهذا التوجيه من الله -سبحانه وتعالى-، تقرأ الآيات عن الانفاق في سبيل الله، عن الجهاد في سبيل الله، أو تسمعها وهي تتلى عليك، وتأتي الكثير من التفاصيل العملية التي تدخل تحت هذا العنوان فلا تستجيب، في هذه الحالة التي اتخذت فيها قرارك الخاطئ (قرار العصيان)، وتنصلت فيها عن الاستجابة العملية، أنت تورط نفسك أن توقع نفسك في الوعيد الإلهي، في وعيد الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنه توعد، توعد بالعذاب، توعد بالعذاب المؤكد، في سورة التوبة كم فيها من وعيد، كم فيها من وعيد بنار جهنم، بالعذاب في الدنيا والآخرة، {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[التوبة: من الآية39]، أليس هذا من الوعيد الإلهي؟ {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}[التوبة: من الآية81]، أليس هذا من الوعيد؟ وكم في القرآن الكريم.
ثم في هذه الحالة اعلم أنك ستحشر إلى الله، وأنه سيحاسبك وسيجازيك، فإذا أنت كنت قررت لنفسك قراراً خاطئاً بالتنصل عن المسؤولية وعدم الاستجابة العملية أنت تحمل نفسك هذا الوزر الكبير، والإثم العظيم الذي سيحاسبك الله عليه، ومرجعك إلى الله، أنت راجعٌ إلى الله وسيحشرك ويحاسبك ويجازيك.
ثم أيضاً يقدم تحذيراً آخر: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}، ثم يقدم أيضاً تحذيراً آخر: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال: الآية25]، {وَاتَّقُوا فِتْنَةً} أنت مهددٌ بالفتنة، المتنصل عن الاستجابة العملية، المتخاذل، المهمل، المفرط، هو مهددٌ بالفتنة؛ لأن الفتن لا تختص بالمجرمين، يعني: تتصور أن الذين يفتنون مثلاً هم من يتجهون في صف الباطل بشكلٍ مباشر، فيقاتلون في سبيل الباطل، ويتحركون في جبهات الباطل، الفتنة أيضاً هي تأتي إلى من؟ هي تأتي إلى المتخاذلين، إلى المفرطين، إلى العصاة المتنصلين عن المسؤولية تأتي إليهم أيضاً، وهم في ذلك الحال تأتي إليهم الفتنة فتضربهم، تؤثر عليهم؛ فيخسرون ويفشلون أمام الاختبار، وهذه من الأمور العجيبة والملموسة جدًّا في واقع الأمة.
البعض من الناس مثلاً قد يتنصل عن المسؤولية إما ابتداءً، منذ اليوم الأول وهو متنصل، لم ينطلق أصلاً، أو فيما بعد ينطلق لمرحلة معينة، يهتم لمرحلة معينة وقد يجاهد حتى إلى مرحلة معينة، ثم يقعد، ثم يقعد ويتخاذل ويتنصل عن المسؤولية ويجمد، في مثل هذه الحالة هو يظن نفسه أنه سيبقى في وضع عادي، وفي واقع الحال لن يبقى كذلك، ستأتيه الفتنة، والفتنة لها أشكال متعددة ومتنوعة، مثلاً: في الوقت الذي فكر فيه أن يجلس، وأن يقعد، وأن يتنصل عن المسؤولية، وألَّا يهتم ولا يتدخل ولا يتحرك، قد تأتي له مشكلة معينة، أو قضية معينة تثيره، فإذا هو يتحرك سلباً، يتحرك في الاتجاه الخاطئ، هو لم يتحرك في الموقف الصحيح، في الموقف الحق، في القضايا المهمة، واختار أن يقعد وأن يجمد، وأن يتنصل عن المسؤولية، فإذا به وقد استثارته قضية معينة، أو حساسيات شخصية، أو مواقف شخصية، أو اعتبارات شخصية، أو تأثيرات معينة، أو استقطابات معينة، كم يا عوامل وكم يا أسباب، فإذا به يتحرك، كان ساكتاً، لم ينطق تجاه القضايا المهمة والكبيرة، لم يتحرك من أجل الأمور المهمة والكبيرة، فإذا به يتحرك، إذا به ينطق، إذا به يتكلم، أو قد يكتب إذا كان ممن يكتبون، قد يكتب مقالات، قد يتحرك، كان أبكم يوم كان المطلوب منه أن ينطق بكلمة الحق، تجاه القضايا الكبيرة والمهمة والواضحة كان أبكم، فإذا به ينطق، وإذا به أصبح جريئاً يوم جبن، يوم صمت، يوم سكت، يوم لم يتحرك تجاه القضايا المهمة والكبيرة والباقية في واقع الأمة، فإذا به يتكلم أو يكتب، وإذا به يتحرك، وإذا به ينشط وكان كسلاناً، كان كسولاً، كان جامداً، وكان يعاني من الفتور، وإذا به يتحرك وينشط، هذا من الخذلان، وهذه من الفتنة، هذه من الفتنة.
قد يكون أيضاً من الفتنة أن تأتي مرحلة فيها خطورة أكبر، ومسؤولية أعظم، والتفريط فيها يعتبر جرماً أكبر، فيفرط ولا يتحرك، فيعظم وزره ويكبر جرمه، ويعظم إثمه، وتكون المسألة خطيرة جدًّا.
أشكال الفتن كثيرة جدًّا، قد يتحرك أيضاً في الاتجاه الخاطئ، ليثبط الأمة عن التحرك في الاتجاه الصحيح والعمل الصحيح، أو لإثارة مشاكل هامشية في داخل الأمة على حساب تلك القضايا المهمة والكبيرة، وهذا ملموس في واقع الأمة، البعض من الناس ممن لا يتحركون أصلاً في مرحلة معينة إذا به يتحرك في القَلَبْ والخطأ، في الاتجاه السلبي، لو كان يمتلك الدافع الإيماني لتحرك في القضايا الأكبر والأهم، ولكن دافعه في تلك القضايا مهما برر، ولو حلف فهو فاجر وكاذب، دافعه ليس إيمانياً، دافعه في تلك القضايا الأخرى حساسيات شخصية، عقد شخصية، اعتبارات نفسية، أشياء أخرى؛ أما لو كان الدافع هو الدافع الإيماني لتوفر ذلك الدافع الإيماني تجاه ما هو أكبر وأخطر وأهم، فانعدامه في ذلك دليلٌ على أنه لم يكن هو المتوفر والدافع في تلك القضايا الأخرى، التي بدأ يتحرك فيها ويركز عليها، وهو لا يزال في حالة تنصل تام عن القضايا المهمة والقضايا الكبيرة.
فالفتنة أيضاً هي من الوعيد الإلهي للمتخاذلين، للمتنصلين عن المسؤولية، ممن كانوا من البداية متخاذلين، أو ممن يتخاذلون فيما بعد، ممن قد استجابوا في مراحل معينة، وانطلقوا في مراحل معينة، وتحركوا في مراحل معينة، ثم اتجهوا إلى التنصل عن المسؤولية والتخاذل؛ فهم معرضون لهذه الفتنة، ويقعون فيها بذلك.
أيضاً يأتي التحذير في ختام هذه التحذيرات: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، فأنت معرض للعقوبة الإلهية، أنت في واقع التنصل عن المسؤولية أنت معرض للعقوبة الإلهية الشديدة، والله شديد العقاب -جلَّ شأنه-، عقوبته عقوبة شديدة، وقد يخذل الإنسان، ويدخل في مواقف خطيرة؛ بسبب هذه الفتنة، وهو قد تنصل عن المسؤولية، وقد تؤدي حتى إما إلى أن يقتُل أو يُقتل، أو يدخل في مشاكل كبيرة جدًّا، ومشاكل خطيرة جدًّا يصل إليها وهو في إطار تنصله عن المسؤولية، كان الأولى به أن يكون جهده، اهتمامه، موقفه، تضحيته، شدته، جرأته، عمله… في الاتجاه الصحيح، اتجاه الاستجابة العملية لله -سبحانه وتعالى-، وفيه الخير له.
ثم يقول الله -سبحانه وتعالى-: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[الأنفال: الآية26]، وهذه الآية لا تزال في نفس السياق: في الحث على الاستجابة؛ لأن ثمرة الاستجابة لله -سبحانه وتعالى- تلمس في الواقع، وإذا تحرك المؤمنون بناءً على هذه التوجيهات والتعليمات من الله -سبحانه وتعالى-، يمنحهم الله -سبحانه وتعالى- الخير، والعزة والنصر والتأييد، وينقلهم من وضعية وظروف صعبة إلى وضعية وظروف أكثر بكثير.
في هذه الآية المباركة يذكِّر المسلمين تاريخياً بما كانوا فيه قبل الهجرة إلى المدينة من استضعاف، وقلة، وخوف، ولا يمتلكون قوةً عسكرية، وتهديد، وظروف صعبة على المستوى الاقتصادي، ثم بعد ذلك كيف مكنهم الله -سبحانه وتعالى- في المدينة، آواهم فجعل لهم منطقة مهيأة يأوون إليها فيسكنون فيها ويقطنون فيها، وهيأ لهم أيضاً أرزاقاً طيبة، وسع لهم في أرزاقهم بعد الظروف الصعبة، هيأ لهم أيضاً أن يصبحوا أمة؛ بدلاً مما كانوا قلائل جدًّا، أن يصبحوا أمة تتكون وتجتمع وتقوى، ويصلح حالها، وتتحرك؛ ثم أيدهم بنصره مثلما حصل في معركة بدر.
هذا درس مهم لهم، ثم هو درس للأمة في كل زمن، في كل عصر، وللمؤمنين الذين يعيشون هذه التجربة في تحركهم؛ فيتحركون في بداية الأمر من واقع قلةٍ، استضعافٍ، خوفٍ، تهديد، ثم يمنحهم الله -سبحانه وتعالى- التأييد والنصر، ويؤويهم، ويمكنهم، فتتغير أحوالهم إلى الأفضل، وهذه الآية لها فوائد مهمة جدًّا في أحوال متعددة، هي في البداية تعطي أملاً للمؤمنين أنهم إذا تحركوا، إذا استجابوا فإن الله -سبحانه وتعالى- مهما كانت ظروفهم صعبة، مهما كانوا يعانون من القلة والاستضعاف وقلة الإمكانيات، فإن الله -سبحانه وتعالى- يمدهم، فهي ما قبل ذلك هي أمل، هي تعزز الرجاء في الله -سبحانه وتعالى-، هي وعد صادق من الله -سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين أن ينقلهم إلى هذه الوضعية المتقدمة.
ثم ما بعد ذلك، ما بعد أن ينتقلوا إلى هذه الوضعية هي تذكيرٌ لهم كيف كانت ثمرة الاستجابة العملية لله -سبحانه وتعالى- في واقع حياتهم، كانت نصراً، وكانت عزاً، وكانت قوةً، وكانت تمكيناً، وكانت سعةً في الرزق والحال، فهي ثمرة مهمة جدًّا، المفترض أن يزدادوا استجابةً، أن يكونوا أكثر تفاعلاً، وأكثر استجابةً، وأكثر اندفاعاً وطاعةً والتزاماً عملياً؛ لأن البعض من الذين آمنوا قد يتحرك وينطلق حتى في المراحل الصعبة، ولكن بعد أن تتغير الأحوال إلى هذا المستوى المريح والإيجابي من التمكين الإلهي، والتأييد بالنصر، والسعة في الرزق، والإيواء، ويصبح الإنسان ضمن واقعٍ فيه استجابة واسعة، يبرد تفاعله، تتغير نفسيته، يتجه بعيداً عن الاهتمام العملي، إلى التركيز على الراحة والدعة، ويخلد إلى الأرض، وإلى متاعها، وإلى الراحة فيها، وتقل عنده الاستجابة؛ فيصاب بالفتور، والكسل والإهمال، ويضعف اهتمامه، ويستهين بتنصله عن المسؤولية، يستبسط ذلك، ثم تراه وقد بدأ يهمل في كثير من الأعمال والمسؤوليات، يتنصل عن كثيرٍ من الأعمال المهمة، يغيب عن كثيرٍ من الأعمال المهمة، ويرى نفسه وكأنه قد أكمل ما عليه، وعلى حسب التعبير المحلي [ودا] خلاص ما عاد عليه منقود، وهذه حالة تحصل لدى البعض، أنهم قد ينطلقون لمراحل معينة وحتى في الظروف الصعبة، وبروحية إيجابية، بدافعٍ جيد، ولكن عندما تتغير الأحوال نحو الواقع الأفضل والتمكين الإلهي تتغير نفسياتهم، وقد تتغير الاهتمامات، عند التمكين تتجه النفس للتركيز على المناصب، للتركيز على الأطماع المادية، للتركيز على المكاسب الشخصية، للتركيز على السمعة والبروز الشخصي، وهذه تمثل حالة من الانحراف الخطير جدًّا على الإنسان، فالتذكر للمراحل الماضية مهمٌ في كل الأحوال، ويساعد على الاستجابة العملية لله -سبحانه وتعالى-.
عندما يتذكر الذين آمنوا ما كانوا فيه من الاستضعاف، ويمكن في عملية التذكر هذه أن يتذاكروا فيما بينهم الكثير من التفاصيل عن تلك المراحل الصعبة والظروف تلك، الكثير من القصص الحقيقية والواقعية التي عاشوها في واقعهم، كيف كانوا، كيف كانت ظروفهم، أحوالهم في تلك المرحلة، في قضايا معينة، في أحداث معينة؛ أما في هذا الزمن فيمكن الإنتاج الإعلامي الذي يوثق لمراحل معينة، ثم يبين الفارق والنقلة التي تحققت من ذلك الظرف إلى ظرف مختلف تماماً، من ذلك الواقع العصيب إلى واقع متمكن ومريح، وحينها يستحي الإنسان من الله -سبحانه وتعالى- الذي منَّ بالنصر، منَّ بالسعة في الحال، منَّ بالتأييد، مكَّن في الأرض… أن يتنكر له بعد هذه النعمة، بعد هذه الرعاية، أن تتغير نفسيتك بعد كل الذي قد عشته أنت من تجربةٍ وواقع، وعشت هذه النقلة من ذلك الواقع الصعب، من واقع الاستضعاف، في مراحل معينة قد لا يمثلون أي قوة في الواقع، المستضعفون مستضعفين بكل ما تعنيه الكلمة ومطاردين ومهددين ومعانين، ولا يستطيعون أن يدفعوا العدو، ثم تأتي مراحل تتغير فيها الأحوال.
نحن في مسيرتنا القرآنية عشنا هذه التجربة، ولربما البعض ممن عاش هذه التجربة وعاش هذه المراحل ينسى، ينسى إلى حدٍ كبير، ينسى تلك المراحل وتلك الظروف، والنسيان هذا يصيبه بالغرور، يصيبه بالكفران لنعمة الله، يتنكر للنعمة، فتفسد نفسيته، تتغير نفسيته، وتتغير اهتماماته وتوجهاته، كما قلنا يتحول في اهتماماته وتركيزه على المنصب أو على المال والأطماع المادية، أو الأمور الشخصية والمكاسب الشخصية، وقد يطغى، قد يطغى عندما يرى نفسه في موقع القوة وفي موقع المسؤولية، قد يطغى فيظلم أو يتجبر، أو يتكبر على عباد الله -سبحانه وتعالى-، أو يفرط في المسؤولية، يقسو قلبه، يفقد التركيز على المسؤولية، على الاهتمامات المهمة، ينسى المستضعفين، ينسى أشياء كثيرة، فهذه الآية المباركة هي آية مهمة جدًّا، ونرى أن الله -سبحانه وتعالى- قدَّم الوعيد والتحذير في: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً}، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً} إلى قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وأيضاً ذكَّر بالنعمة، ذكر بالنعمة، إما أن ينفع فيك ذلك التحذير، أو أن تتذكر هذه النعمة إذا كنت ممن قد انطلق وتحرك، وهذا يحصل للبعض، نحن في مسيرتنا القرآنية نرى البعض يتجه للتنصل عن المسؤولية، نرى البعض يجمد، نرى البعض تتغير نفسياتهم، تتغير اهتماماتهم، تتغير توجهاتهم، يفترون، أو ينشطون في اتجاه سلبي، هذا فيه تذكيرٌ مهمٌ لكل الذين آمنوا عندما يعيشون هذه المراحل وهذه النقلات.
والخلاصة هي: أهمية أن يبقى الإنسان بشكلٍ مستمر في موقع الاستجابة العملية لله -سبحانه وتعالى-، ويرى الفضل لله، لا يصيبه الغرور؛ لأن الغرور أيضاً يؤثر عليك في الاستجابة العملية لله -سبحانه وتعالى-، فلا يصيبه الفتور وكأنه قد أكمل وقد أدى ما عليه، الإنسان عليه مسؤولية كبيرة حتى يلقى الله -سبحانه وتعالى-، ولا تؤثر عليه الدوافع الأخرى، أيضاً من الدروس المهمة في: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ}، ما يستجد من تحديات، قد تضغط على البعض وتؤثر على البعض، فالإنسان إذا واجه تحديات جديدة تذكر التحديات السابقة، والمخاطر السابقة، والتي قد عبرها وتجاوزها بمعونة الله -سبحانه وتعالى-، بألطاف الله، بنصر الله، بتأييد الله، بفضل الله، فيحافظ على ثقته بالله، أمله بالله، رجائه فيه الله، لا يتصور أن هذه التحديات الجديدة لا يمكن أن يدفعها الله، الله على كل شيءٍ قدير، {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}[آل عمران: من الآية 150]، {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}[الأنفال: من الآية 40].
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، وأن يوزعنا شكره، ويلهمنا ذكره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛