العبدية .. الرهينة خارج الجغرافيا والتاريخ
أفق نيوز – تقرير – ابراهيم الوادعي
من قانية كانت وجهتنا نحو مخيم طبي أقيم في مركزها، لا يمكن لغير السيارات ذات الدفع الرباعي او الدفع الخلفي والمرتفعة عن الارض الوصول الى مركز وقرى مديرية العبدية في مأرب، كلا الطريقين من جهة قانية البيضاء او حريب مارب تتطلبان سائقا متمرسا وسيارة متينة ومرتفعة.
تحد مديرية العبدية محافظة البيضاء من الغرب وشبوة من الجنوب وحريب مارب من جهة الشرق ومثلت خلال الحرب على اليمن منطلقا لمرتزقة تحالف العدوان على اليمن في عمليات عسكرية باتجاه البيضاء .
على الطريق نحو مركز العبدية لا وجود لأي أثر للخدمات الأساسية البتة في القرى المتناثرة والمتباعدة، أبراج الكهرباء تعبر مديرية العبدية في اتجاه البيضاء، لكنها لا تحط كهربائها في قراها.
بالقرب من الطريق شاهدنا اكثر من تجمع للنساء والأطفال للحصول على المياه ، تضطر النسوة هنا الى حمل المياه لمسافات بعيدة وبعضهن يستخدمن الحمير في جلب المياه، لاوجود في العبدية لمشاريع مياه تصل الى البيوت.
ومع مضي السيارة عميقا في داخل العبدية ، لوهلة تظن انك غادرت التاريخ تماما ، وجوه الناس الكالحة هنا ليس من المعارك التي وقعت قريبا ، هم لم يعتادوا مرور الغرباء من مديريتهم رغم موقعها الاستراتيجي والرابط بين حريب مارب وقانية البيضاء ومناطق شبوة، لاوجود لأي شبكة مواصلات مسفلته تصل المديرية بما جوارها او حتى تربط أطرافها وقراها بما يفيد المسافرين وحتى أبناء المديرية من موقع منطقتهم الاستراتيجية بين 3 محافظات .
أطفال العبدية يألفون ويعرفون الدبابات أكثر من السيارات وموديلاتها، العبدية مأرب هي مسقط رأس اللواء عبدربه الشدادي قائد المنطقة العسكرية الثالثة او “مؤسس الجمهورية الثانية ” كما يحلو لنخب الإصلاح ان يطلقوه عليه، اتخذ الشدادي الذي قتل في معارك صرواح من مسقط راسه مخزنا لتجميع السلاح الخاص به من ممتلكات الجيش المنهوبة ورفد مقاتليه العقائديين والقبليين، وفر نجلاه عبدالحكيم قائد ” اللواء 159” واسامه الشدادي بعد ان احكم الجيش واللجان حصاره على العبدية الى مأرب.
على جانبي الطريق تتناثر المتارس القتالية، وعلى متن السيارة التي اقلتنا في طريقنا الى المخيم الطبي بمركز العبدية ، كنا نستمع – محمد احمد شرف مدير مكتب وزير الصحة ، والدكتور خالد الحجي مدير مكتب الصحة ذمار وسائقنا علي الدعبوش – نستمع بشغف ولهفة كبيرين تكاد تنسينا مشقة الطريق ووعرتها الشديدة – الى الزميل عبد اللاه السقاف مراسل قناة المسيرة في مأرب وهو يشرح خط سير المعارك لتحرير العبدية ، وأين دارت أشرس تلك المعارك وقصصا عن بسالة المجاهدين، ومعارك خاضها مجاهدو الجيش واللجان الشعبية من النقطة صفر مع اقترابهم من مركز العبدية، مقاتلو العبدية رجال اشداء يشهد بذلك من عرفهم وتعرف ذلك من سحنتهم فهم لا يجيدون سوى القتال ، وكان حزب الاصلاح يستغلهم لعقود في حروبه واخرها محاولة غزو عدن الأخيرة – سقط 300 قتيل جلهم من العبدية بقصف للطيران الاماراتي في نقطة العلم – في اطار صراع العملاء .
واصلنا طريقنا في اتجاه مركز العبدية راينا دبابة معطلة على الطريق وأخرى، خزن الشدادي كثيرا من المعدات الثقيلة في المديرية استعاد الجيش واللجان بعضها واخر جرى تهريبه قبل إطباق الحصار ، فيما لاتزال مخازن سلاح ثقيل ومتوسط وخفيف دفنها مرتزقة العدوان قبيل فرارهم لا يعلم عنها شيئا .
بوصول الجيش واللجان الشعبية خلال المعارك الأخيرة الى مفرق العبدية من جهة حريب مارب وقعت المديرية بين فكي كماشة حقيقي، لمديرية العبدية طريقين فقط واحد يصلها بقانية البيضاء وهو الذي اتخذناه للوصول الى مركز مديرية العبدية، واخر يصلها بحريب مارب، والطريقين ضيقين وغير معبدين والسفر عبرهما معاناة كبيرة ويتطلب سيارة قوية.
بحسب طبيب اضطر للقدوم الى العبدية املا في نيل درجة وظيفية يعمل في مركز العبدية الصحي والوحيد فإن المرأة التي تعاني عسرا في الولادة يكون حكمها الموت لعدم القدرة على ايصالها في الوقت المناسب الى مستشفى حريب العام او قانية في البيضاء، وعدم توفر ابسط الإمكانات الطبية لإنقاذها.
يتحدث الدكتور عبد الله السماوي مدير المخيم الطبي الذي رعته وزارة الصحة عن وجود أسماء كثير من المنظمات في العبدية لكن اثرها على الأرض يكاد يكون صفرا، وبعبارة أخرى شكلت العبدية فجوة سوداء لا يمكن لاحد التحقق من المشاريع المسجلة على التي يدفع لقائها أموال ويمكن لقادة الإصلاح نهب الأموال باسمها دون ان يتمكن احد من كشف امرهم اذ لايمكن السفر الى المديرية .
وزير الصحة الدكتور طه المتوكل ربما يكون اعلى مسئول حكومي يصل الى المديرية، للوقوف عل وضع مركز العبدية الصحي والاطلاع على سير المخيم الطبي الذي استقبل في يومين فقط 700 حالة ند وصولنا.
يتحدث وزير الصحة عن تركة ثقيلة في العبدية يضاعف من صعوبتها عزلة المديرية ، لايوجد في المركز سوى طبيبين عموميين حديثي التخرج ، تلقيا وعدا بتحمل وزارة الصحة نفقات دراستهما العليا مجانا لقاء بقائهما في المديرية وعدم مغادرتها ولو الى حين ترتيب الوضع وتلتقط الدولة أنفاسها .
لأول مرة تحضر طبيبة نساء وولادة الى مركز مديرية العبدية ضمن فريق المخيم الطبي ، وصولها شكل حدثا فارقا لدى الناس هنا ، اصبحوا ياتون بنسائهم واطفالهم للعلاج املا في الاستفادة من أيام المخيم الطبي المحدودة ، وللمرة الاولى ربما ترفع عنهم المعاناة وتقترب منهم الخدمة الطبية الكفؤة .
كنا نتوقع ان نجد تجمعا سكانيا بقدر مسمى مركز لمديرية، فقط وجدنا مركز صحيا ، ويبعد عنه بمسافة مبنى مديرية الامن المدمر ، وبعيدا عنهما بمسافة أخرى مدرسة حولها المرتزقة لمخازن سلاح وتصنيع عبوات من مخلفات الذخيرة وبين تلك المباني الحكومية الوحيدة تتناثر بضعة منازل للمواطنين ، لاوجود بالمعنى الحقيقي لاي تجمع سكاني يجوز أن يطلق عليه مركزا سكانيا.
ليس بعيدا عن مركز المديرية شاهدنا منزلا عليه اثار قصف بالدبابات، استفسرنا عن الامر ان كانت احدى الدبابات المتناثرة أخطأت التصويب، فأٌجبنا بان احد اطراف الثأر استعان بدبابات ” الجيش الوطني ” لقصف منازل خصومة ، وهكذا كان يتم تسعير الثارات بأسلحة “الدولة” بدل ان تقوم تلك الدولة المزعومة على حلها وتهدئة الخواطر.
المجاهدون عقب العملية العسكرية لتحرير العبدية انسحبوا الى أطرافها وتركوا للسلطة المحلية إرساء الامن بعد أن عقد صلح امان لمدة عامين في لقاء السيد عبد الملك بمشائخ العبدية الذين استضافتهم صنعاء لعدة أيام، وهناك تلقوا مكرمة بإطلاق جميع اسراهم ال 52 عادوا وهم معهم، في مكرمة أراد منها السيد عبد الملك ان تكون فاتحة خير لمديرية عانت الكثير من الظلم والعزلة.
عل امتداد طريقنا تلحظ خصوبة الأراضي لكنها غير مزروعة، الأهالي هنا يعتمدون عل ما يقدم إليهم من مساعدات غذائية من المنظمات، وسابقا عاشوا على مؤونة تأتيهم من انتسابهم الى الجيش.
في طريق عودتنا قابلنا احدى سيارات الجيش واللجان تحمل على متنها كمية من مادة الديزل في طريقها لوحدة شق استقدمها المرتزقة لصنع السواتر وتمرير الدبابات واليوم سخرها مجاهدو الجيش واللجان لصالح اهل المديرية تعبد الطريق وتعمل على توسيعها.
الدخان لايزال يتصاعد من البيوت حيث تصنع النساء الطعام في المنازل، ومن الصعوبة بمكان احضار مادة الغاز الى العبدية ، التي لاتبعد الكثير جغرافيا عن منبع الغاز الاكبر في الجمهورية اليمنية.
حاول الأهالي استبقائنا للغداء .. كرماء رغم فاقتهم ، لكن مجرد التفكير في وعورة طريق العودة جعل من الصعب قبولها .
الأطفال هنا يرددون الصرخة بفرح عارم، يستقبلون كل عابر بترديدها، وصول المجاهدين اليهم ربما كان الحدث الأول والجديد الذي يرونه منذ فتحت اعينهم على هذه الحياة، هم حقا يعيشون في قطعة معزولة من الأرض، او اريد لها ان تكون معزولة إن اردنا الدقة ، وأريد لأهلها كذلك ان يظلوا ذخيرة في يد قادة ارتهنوا انفسهم للباطل وحزب يسوق أبناء بلده لمحارق الأجنبي ويقبض الثمن.
سوء حظ العبدية ان احد أبنائها كان عاقا لأهله ومسقط رأسه قبل ان يكن عاقا لوطنه، ساق قرابته للشيطان وسفك بهم دماء شعبه ، متناسيا أن منهم اويس القرني الصحابي الذي قاتل وثبت في صف الامام علي والإسلام المحمدي ، ولايزال ضريحه قائما.