أفق نيوز
الخبر بلا حدود

لماذا عيد الغدير ؟

541

أفق نيوز../

 

يوم الغدير حمل في طياته سبب بقاء الأمة وشموخها وامتداد سلطانها وانتشار مُثُلها العليا حتى تصل الى جميع الدنيا، لتملئها قِسطاً وعدلاً، ولتتواصل مسيرة النور والهدى التي بدأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي مهّد لها كل الأنبياء والرُسل.

 

يوم الغدير تجسيدٌ لكفاح هابيل الصفوة وإبراهيم الخليل وموسى الكليم وعيسى الكلمة ومحمد الرحمة صلوات الله عليهم، تجسيدٌ لكفاح العظماء والمصلحين الذين ساهموا في وضع أسس الفكر الإنساني ومقومات الحضارة الاجتماعية، تجسيدٌ لمسؤولية صيانة واستمرارية الدعوة الإسلامية الخالدة، وإتمامٌ لمسيرة من قادوا الإنسانية نحو أهدافها وآمالها.

 

يوم الغدير سيفٌ صارمٌ للقضاء على كل وسائل الهدم والانحراف والظلم والجور والفساد على مّر العصور والأزمان.

 

والاحتفال بهذا اليوم العظيم، تعظيمٌ لشعائر الله: “ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب”، وإحياءٌ لشعيرة دينية أحياها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الصحابة والخلفاء الراشدين، ومن يرى غير ذلك فعليه مراجعة الرسول والصحابة، ‏ومن يرى أن إحيائه يشكل قدحاً في الصحابة رضي الله عنهم فهو القادح فيهم، لأنه ينكر عليهم مشاركتهم رسول الله في إحيائه وتعظيمه، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وإحيائه لا ينتقص من أي صحابي، وليس موجهاً ضد أي صحابي، بل هو تكريمٌ لأحدهم بأمر العلي القدير.

عيد الغدير لم يأتي مع أنصار الله كما يدعي أعدائهم، بل اعتاد اليمنيون على إحيائه منذ المائة الأولى للهجرة، ويتم الاستعداد له من يوم عيد الأضحى، وهو عندهم من الأعياد المقدسة الى يوم الناس، ولا غرابة منهم حبهم لأهل البيت، فنحن في بلدٍ تكاد أحجاره تتشيع، وكان على الدوام في طليعة المنافحين عن بيضة الإسلام ومناصرة أئمة الحق عليهم السلام.

عيد الغدير خُطبٌ ومواعظ، وتذكيرٌ بالله وبعظمة الإسلام، وغرسٌ لمكارم الأخلاق ومحامد الأعمال، وتذكيرٌ بما اختص الله به أهل البيت عليهم السلام من فضل ومكانة، وما قدمه أهل هذا البيت من تضحيات في سبيل الدين وحماية رسالة السماء من التحريف، ناهيك عن تعلم الرماية والنصع، وكلها لا تخالف شرع الله في شيئ كما يدعى المدعون، بل هي من لب وجوهر الدين.

حدث الغدير:

في السنة العاشرة من الهجرة، الموافق 632 ميلادي، قرر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أداء فريضة الحج، والتي سُميت بحجة الوداع، وحجة الكمال، وحجة التمام، فاجتمع المسلمون من كل حدبٍ وصوب ليشهدوا مع نبيهم أخر أركان الدين، وبعد فراغه من مناسك الحج نزل جبريل عليه السلام بالآية الشريفة: “يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ”، وفيها أمرٌ إلهيٌ واضحٌ وحازم بتبليغ أمرٍ خطير طالما تردد النبي عن الإفصاح به خشية التكذيب واتهامه بمحاباة الإمام علي، لكن التوجيه واضح وصارم، وعدم تبليغه يعني أن كل ما قام به في الـ 23 سنة من عمر الدعوة الى الإسلام لا قيمة له.

روى الحاكم الحسكاني عن عبدالله بن عباس وجابر بن عبدالله الأنصاري: أمر الله محمداً بتنصيب علياً للناس ليُخبرهم بولايته، فتخوّف رسول الله أن يقولوا حابى ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله إليه: “يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ”، فقال رسول الله بولايته يوم غدير خم.

لم يكن الموضوع الذي أمر الله نبيه بتبليغه بلهجة شديدة: “وإن لم تفعل فما بلغت رسالته” سوى الإعلان الرسمي لخلافة علي بن أبي طالب، وكان رسول الله يحاذر من ذكر ذلك، لأنه كان يخشى أن يكون ذلك سبباً في وقوع الخلاف والفرقة الشديدة بين المسلمين، فكان لا بد من انتظار المناخ الملائم، وبعد نزول آية التبليغ، تبيّن أن المناخ مُهيأ، فجمع صلى الله عليه وآله وسلم، المسلمين في صحراء الحجاز القاحلة، وفي مكانٍ منها يُدعى “غدير خم” في الجحفة، على مفترق الطرق بين مكة والمدينة ومصر والشام والعراق، وأمر أن يلحق به من تأخر عنه، ويرجع من تقدم عليه، حتى يُبين لهم روح الإسلام وقوامُه المتمثلة في خلافة المسلمين بعد وفاته.

اجتمع المسلمون حول نبيهم، وأدركتهم صلاة الظهر، وكانت الشمس ملتهبة، وبعد فراغه من الصلاة قام بتبليغ ما أمره الله به، من ولاية أمير المؤمنين، وأمرهم بأن يُبلغ الشاهد منهم الغائب، وأمر الحاضرين ببناء خيمتين، واحدة له والثانية للإمام علي عليه السلام، وتقديم التهاني للإمام علي بإمرة أمير المؤمنين، واستمرت المبايعة ثلاثة أيامٍ متوالية، وكلما بايع فوج، قال رسول الله: “الحمد لله الذي فضلنا على جميع العالمين”.

وقبل أن يتفرق المسلمون نزل جبريل عليه السلام بآية إكمال الدين: “اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا”، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، والولاية لعلي بعدي” كما رواه الحسكاني في شواهد التنزيل عن أبي سعيد الخدري وأبو هريرة، وابن كثير في تاريخه.

وأخرج الإمام المؤيد عليه السلام في “آماليه”، عن الإمام الكامل عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم غدير خم: أليس الله عز وجل يقول “النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض”.

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: فأخذ بيد علي عليه السلام فرفعها حتى رُئِي بياض إبطيهما.

فقال: من كنت مولاه فعليٌ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه.

فأتاه الناس يهنئونه، فقالوا: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أمسيت مولى كل مؤمن.

وأخرج الإمام المؤيد عليه السلام بإسناده حديث “المناشدة”، ومما جاء فيه أن الإمام علي عليه السلام، قال: فأنشدكم بالله وبحق نبيكم هل فيكم من أحدٍ نصّبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للناس ولكم يوم غدير خم، فقال: “من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه”، غيري.

 

قالوا: اللهم لا.

وأورد الإمام علي بن موسى الرضى عليه السلام في صحيفته بإسناده عن أبائه، أن رسول الله صلى الله عليه آله وسلم قال يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، واخذل من خذله، وانصر من نصره.

قال السيد العلامة بدر الدين بن أمير الدين الحوثي: لا إشكال أن ولاية أمير المؤمنين على كل مؤمن، كولاية رسول الله على كل مؤمن إلا ما خصّهُ دليل معلوم للسامعين، كثبوت ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على علي عليه السلام، وكون ولاية علي عليه السلام لا تُعارض ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل ولاية علي عليه السلام تحت ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحالةُ حضور رسول الله مخصوصةٌ، لقول الله تعالى: “النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم”، ومن جملة المؤمنين علي عليه السلام، وقول الله تعالى: “يا أيها الذين أمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله”، ومن جملة المخاطبين علي عليه السلام، فلم يبقى إلا حال مغيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو غيبوبة ذهنه، لشدة المرض في حادثة تضيقت، وإلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومحل المسألة هذه علم الكلام.

 

وما نفهمه من كلام السيد “بدر الدين” رحمة الله عليه أن ولاية أمير المؤمنين ليست بديلاً عن نبوة رسول الله كما يدعي غلاة الوهابية، بل هي امتداد لرسالة رسول الله، وتبليغ الولاية يعادل تبليغ الرسالة، وعدم تبليغ الولاية يساوي عدم تبليغ الرسالة، وبتبليغ الولاية تم كمال الدين.

أهمية ودلالة واقعة الغدير:

واجهة الأنبياء خلال مسيرتهم الدعوية معضلتين كبيرتين حول رسالتهم:
1 – قبول رسالتهم والإيمان بها في حياتهم.

2- مشكلة بيان الشريعة والأحكام الإلهية والمحافظة على بقائها وإجرائها بعد وفاتهم.

 

من هنا تأتي أهمية دور أوصياء الأنبياء في بيان شرائع السماء، وصيانتها من التحريف، والمحافظة على بقائها واستمراريتها وإجرائها بعد رحيلهم.

وفي هذا تأكيدٌ واضحٌ بأن قيمة المُفسر لرسالة السماء والمُطبق لها عملياً بأمر الله تعادل قيمة الرسالة نفسها، وقيمة وجود الرسول تعادل قيمة الإسلام، وقيمة من يُفسره من بعده ويُطبقه تعادل تنزيل الإسلام وتبليغه.

وهذا هو السر من وراء ربط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين القرآن والعترة في حديث الثقلين.
فقد أراد التأكيد لأمته عبر التاريخ بأن الولاية أخت النبوة، ولا عجب أن تكون الإمامة أصلٌ من أصول الدين، التي لا يجوز التهاون فيها، لأنها امتدادٌ للنبوة، وسياجها المنيع ضد الأعاصير الأهوائية.

وأراد من تتويج الإمام علي في غدير خم التوضيح لأمته أن الولاية مرتبطةٌ بالقيم الإسلامية الأصيلة، والتمسك بها يعني التمسك الصادق بالقيم الإسلامية الأصيلة التي دعى اليها، والتنكر للولاية يعني التنكر لما دعى إليه طيلة 23 عاماً.

وأراد من واقعة الغدير حفظ رسالة السماء وديمومتها واستمراريتها، والنأي بالأمة عن مزلات القدم، ومنع الاختلاف بعد رحيله.

 

عن صفوان بن يحيى عن الإمام جعفر بن محمد عليه السلام: “الثامن عشر من ذي الحجة عيد الله الأكبر، ما طلعت عليه شمسٌ في يومٍ أفضل عند الله منه، وهو الذي أكمل الله فيه دينه لخلقه، وأتم نعمه، ورضي لهم الإسلام ديناً، وما بعث الله نبياً إلا أقام وصيه في مثل هذا اليوم، ونصّبه علماً لأمته”.

وما نفهمه مما سبق أن يوم الغدير ليس يوم علي بن أبي طالب فحسب، بل هو يوم الله، ويوم نبيه، ويوم الإنسانية جمعاء.

يوم الله، لأن الله أمر نبيه بتبليغ ما أُنزل إليه من جانبه، فامتثل رسول الله لأمر ربه، وبلّغ ما أُمِر بتبليغه.

ويوم رسول الله وهو الرحمة المُهداة، لأن رحمته اقتضت تأمين سعادة البشرية، وجعلِها خالدة، مادام البشر يمشي على وجه الأرض، وذلك بالتوجه الى حكومة العدل، وقلع الظلم، واستقرار العدل في العالمين بمختلف مسمياته: الفردي والجماعي والعدل في الحكم، والعدل في القضاء، وجعل المسلمين كافة تحت ظِلاله المباركة في صعيدٍ واحد، وجعل يوم الغدير رمزاً لوحدة المسلمين، ووجه أمته الى تحقيق الغاية التي بعث الله أنبيائه لأجلها، وهي قيام الناس بالقسط بصريح القرآن.

ويوم الإنسانية، لأن الإنسانية لم ترى يومها قبل ذلك اليوم، ولن تراه بعد ذلك، كانت أمنيتها قيام العدل في العالم، وفي يوم الغدير بُشِّرت بالوصول اليها، وتحققها، كي لا تقنط من رحمة الله، فكان صوت رسول الله، صوت الإنسانية، وندائها في طلب العدل، وهي الأمنية الحاصلة لكل فرد من البشر.

وتحقق أمنية العدل متوقفٌ على التمسك بالثقلين “كتاب الله وأهل البيت”، كما قال الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم: “إني تاركٌ فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تظلوا بعدي أبدا”، ما يعني أن عدل الضلال ليس إلا قيام الناس بالقسط، قال الإمام الحسن بن علي عليه السلام: وأقسم بالله لو تمسكت الأمة بالثقلين، لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها، ولأكلوا نعمتها، خضراء من فوقهم، ومن تحت أرجلهم، من غير اختلاف بينهم الى يوم القيامة، قال الله عز وجل: “ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل اليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم”، وقال عز وجل: “ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذَّبوا فأخذناهم بما كسبوا”.

إذن فنحن أمام أهم حدث في تاريخ الإسلام، به تم الدين واكتمل من الناحية النظرية والعملية، وبه صار الإسلام مِنهاجاً كاملاً، مَرضياً عند الله.

الولاية أخت النبوة:

لم تكن واقعة الغدير بالحدث العابر، بل أراد رسول الله من خلالها التأكيد لأمته عبر التاريخ أن الولاية أخت النبوة، وسياجها المنيع ضد الأعاصير الأهوائية، والتوضيح بأن الولاية مرتبطة بالقيم الإسلامية الأصيلة من الحزم والقوة ورباطة الجأش ومناصرة المظلومين .. الخ، وأن الاعتراف بالولاية يعني التمسك الصادق بالقيم الإسلامية الأصيلة التي دعى اليها صلى الله عليه وآله وسلم طِيلة 23 عاماً، والتنكر للولاية يعني التنكر لما دعى اليه جملة وتفصيلاً.

إذن فالهدف الأسمى من الولاية هو حفظ الدين الإسلامي وضمان ديمومته وعالميته، والنأي بالأمة عن مزلّات القدم، ومنع الاختلاف بعد رسول الله.

وما نريد التأكيد عليه في هذه العجالة هو أن الله لا يقبل التوحيد إلا بالاعتراف لنبيه بنبوته، ولا يقبل الدين إلا بولاية من أمر الله بولايته، بهذا يزول اللبس ويفهم سبب أهمية واقعة الغدير، وسبب أهمية أمر الله بتبليغ الولاية، وسبب رضا الله بذلك، واعتبار التبليغ أخر مهمة لرسول الله قبل رحيله، والتي بها اكتمل الدين وتمت النعمة.

والشاهد على الولاية قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “من كنت مولاه فعلي مولاه”، والمولى في اللغة تعني المالك للتصرف في أمور القوم، وهو أول ما يتبادر للأفهام، وما عدا ذلك فإدعاءات فارغة القصد منها إفراغ الغدير من محتواه الحقيقي.

قال العلامة الشهيد حُميد بن أحمد المحلي الهمداني الوادعي: لو لم يكن السابق إلى الأفهام من لفظة “مولى” المالك للتصرف، وكانت منسوبة إلى المعاني كلها على سواء حملناها عليها أجمع، إلا ما يتعذر في حق علي عَلَيْه السَّلام من المُعتِق والمُعتَق، فيدخل في ذلك ملك التصرف، والأولى المفيد ملك التصرف، فيفيد الإمامة؛ لأنه عَلَيْه السَّلام إذا ملك التصرف على الأمة، أو كان أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كان إماماً.

ولو لم يرد في مناقب أمير المؤمنين عَلَيْه السَّلام إلا خبر الغدير لكفى في رفع منزلته، وعلو درجته، وقضى له بالفضل على سائر الصحابة.

وما ذكره حسان بن ثابت – كما عرفنا آنفاً: “رضيتك من بعدي إماماً وهادياً”، دليل على أنه عَقَل من كلام النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّمَ: “من كنت مولاه فعلي مولاه” المالك للتصرف، لأنه عقل منه الإمامة، التي هي مفيدة لملك التصرف، فدل على أن لفظة المولى تفيد ما ذكرناه، وقول حسان حجة في ذلك لأنه لا يشكل حاله في معرفة اللغة.

وقد انطوى أيضاً على فضائل عدة سوى الإمامة، ومتى اقتضت فضله على غيره، كان أولى بالإمامة أيضاً، لكونه أفضل، إذ الأفضل أولى بالإمامة من المفضول عند من يمعن النظر.
وقال المقبلي في الإتحاف: أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والنسائي، عن بريدة .. إلى قوله: فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “يا بريدة ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟، قلت: بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه”، وبهذا الحديث، وما في معناه تحتج الشيعة على أن “مولى” بمعنى: أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دل مساق كلامه أنه سَوّاه بنفسه، وإلا لما كان لمُقَدِّمة قوله: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم معنى.

رُواة حديث الغدير وتخريجاته

أجمع كل فقهاء وعلماء المسلمين بمختلف مذاهبهم، والمؤرخين بمختلف توجهاتهم، ورواة الحديث النبوي بمختلف طبقاتهم على واقعة الغدير وخطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع، وذكروها بالإجماع، واتفقوا على أن الإمام علي عليه السلام هو المقصود بتلك الخطبة دون غيره من البشر، واختلف البعض في تفسير الخطبة هل جاءت بالوصية نصاً على خلافة علي عليه السلام لرسول الله وإدارة شؤون المسلمين من بعده أم هي وصية للحفاظ على موقعه السيادي في الإسلام ومنزلته العظيمة لدى رسول الله؟.

ورغم ذلك شذ البعض وأطلق للسانه وقلمه العنان للتشكيك في حديث الغدير وتضعيفه، بغية التشويش فيما أجمعت عليه الأمة، مُتذرعين بكثرة رواته وتعدُد طُرق تخريجه، وهم قلة قليلة تكاد تكون منحصرة في الخوارج والمُشَبِّهة والمُجَسِّمة والمُرجِّئة، منهم ابن حزم الظاهري وابن تيمية الحراني، ومن بعدهم غُلاة علماء الوهابية، ومن قبلهم وظّف بني أمية كل مقومات وطاقات دولتهم لطمس ومحاربة مناقب أهل البيت عليهم السلام، وشراء ضِعاف النفوس من الرواة وعلماء الدين، ولم يدّخر هؤلاء تحت بريق المال والجاه والسلطان، وسيلة لاختلاق الأحاديث التي تنتقص من أهل البيت، وتحريف نصوص الكثير من الأحاديث الواردة عن النبي مما لا يتوافق مع هوى سلاطين بني أمية، ونسب بعضها الى غير ما قيلت فيه، وتأويل بعضها على غير ما قصده رسول الله، وهناك الكثير من العلماء الأحرار المعاصرين من غير الشيعة تحدثوا عن جِناية بني أمية ومن تلاهم من علماء الوهابية على التعاليم الإسلامية والأحاديث النبوية، أمثال العلامة والمفكر السعودي حسن بن فرحان المالكي فك الله أسره، والمفكر المصري محمود أبو ريه، .. ألخ، وكُتُبُهم منشورة لمن أراد البحث عن الحقيقة.

وما يعنينا هنا التأكيد على أن كثرة رواة حديث الغدير وتعدد طرقه وأسانيده، تُمثِّل إدانة وحجة دامغة لعلماء السلاطين، وتكشف حقيقتهم السوداء، وتُعرّي متاجرتهم بكل المقدسات من أجل إشباع هوى النفس ورغباتها، وتغذية نوازع العصبيات الجاهلية التي لا زالت محركهم لمحاربة الفضائل وأربابها، ويكفي للتأكيد على صحة الغدير ودحض حجج المرجفين أن أكثرية علماء السنة في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي ومن مختلف المشارب تحدثوا عنه، وألّفوا المؤلفات المطولة في أسانيده، ورواته، ووضعوه في أعلى درجات الصحة، حتى المخالف منهم لأهل البيت، إلا ما نَدر.

إذن فنحن أمام حديث متواتر بإجماع علماء السنة والشيعة، وأكثرية أئمة الحديث، وسلسلة رواته ذهبية لا يرقَ اليها الشك.

بالعودة الى واقعة الغدير يتحدث العلامة عبدالحسين أحمد الأميني في موسوعته الغديرية عن انضمام نحو 120 – 124 ألفاً الى الموكب النبوي بالمدينة في حجة الوداع، والتحقت بهم جموع أخرى من اليمن مع الامام علي عليه السلام وأبو موسى الأشعري.

وتحدث محمد فريد وجدي في الجزء الثالث من “دائرة المعارف” عن 90 ألفاً ممن شهدوا حجة الوداع، وفي رواية 180 ألفاً، وفي رواية 114 ألفاً، وفي رواية 100 ألف، وفي رواية 80 ألفاً، وفي رواية 70 ألفاً، وأياً كان الرقم الصحيح فالمؤكد أن من شهد الحج مع الرسول كان معه في غدير خم، والمؤكد أيضاً أننا أمام حدث غير عادي حضره عشرات الآلاف من المسلمين والمسلمات، وأمر فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن: “يبلغ الشاهد الغائب”، ومن الطبيعي أن يكثُر نقل وقائع وأحداث الغدير والتحدث بها، ولأهميتها كانت تُثار بين الحين والأخر، أي أنها لم تكن كسائر الحوادث العادية، يدور حولها الكلام لمدة ثم يطويها النسيان.

ويذكر الرواة أنه بعد مرور 25 سنة، طلب الإمام علي عليه السلام في مسجد الكوفة ممن سمع حديث الغدير عن النبي أن يُذكِّره، فنهض من بين الجالسين 30 صحابياً ونقلوا الحديث.

روى حديث الغدير ونقله أكثر من 120 صحابي وصحابية، و84 من التابعين، و360 من أئمة الحديث وحُفاظه، و57 من علماء وحُفاظ القرن الهجري الثاني، و90 من علماء القرن الهجري الثالث، و43 من علماء القرن الهجري الرابع، و24 من علماء القرن الهجري الخامس، و19 من علماء القرن الهجري السادس، و21 من علماء القرن الهجري السابع، و18 من علماء القرن الهجري الثامن، و16 من علماء القرن الهجري التاسع، و13 من علماء القرن الهجري العاشر، و25 من علماء القرون الهجرية الأخيرة، طبعاً من غير علماء وأئمة الزيدية والإمامية.

وأخرجه ورواه محمد بن جرير الطبري من 75 طريقاً، وأفرد له كتاباً من جزئين أسماه “الولاية في طرق حديث الغدير” وسبب تأليفه الكتاب تكذيب بعض شيوخ الحرقوصية ببغداد واقعة الغدير، منهم إبن أبي داوود، وادعائهم بأن الإمام علي عليه السلام لم يكن مع النبي في حجة الوداع وغدير خم بل كان في اليمن، فألف الطبري رحمه الله كتابه للتأكيد على صحة حديث الغدير، وأن المقصود به هو الإمام علي، وأنه كان حاضراً مع النبي في حجة الوداع وغدير خم، وأفرد كتاباً للحديث عن فضائل الوصي سلام الله عليه.

وأخرجه أحمد بن حنبل من 40 طريقاً، وأحمد بن محمد بن حجر الهيثمي من 72 طريقاً، ومحمد بن محمد الجزري الدمشقي المقري الشافعي من 80 طريقاً، وإمام المُحدِّثين الحافظ الكبير أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة الهمداني الكوفي من 105 طرق، وأفرد له كتاباً أسماه “جمع طرق حديث الغدير”.

وأخرجه مسعود السجستاني من 120 طريقاً، وأبو بكر محمد بن عمر التميمي البغدادي الجعابي الحصابي من 125 طريقاً، وأحمد بن علي بن محمد بن حجر الكناني العسقلاني الشافعي عن 27 صحابياً، ومحمد بن إبراهيم الوزير من 153 طريقاً، والحسن بن أحمد أبو العلاء العطار الهمداني من 250 طريقاً، وعلي بن محمد بن محمد بن الطيب الجُلّابي المغازلي الواسطي الشافعي من 20 طريقاً، وعلماء الزيدية من 114 طريقاً، بغير المقدمة، التي هي: “ألست أولى بكم من أنفسكم”، وبها من 100 طريق، والامام عبدالله بن حمزة عليه السلام في “الشافي” بأكثر من 105 طرق برواية المؤالف والمخالف… الخ.

وممن حضر واقعة الغدير من الصحابة: الإمام علي بن أبي طالب، الإمام الحسن بن علي، الإمام الحسين بن علي، أبو بكر الصديق، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، الزبير بن العوام، طلحة بن عبيدالله، العباس بن عبدالمطلب، عبدالله بن عباس، الفضل بن العباس، عبدالرحمن بن عوف، معاوية بن أبي سفيان، سعد بن أبي وقاص، سعد بن عبادة، قيس بن سعد بن عبادة، عمار بن ياسر، أبو ذر الغفاري، سعيد بن زيد بن نفيل، سلمان الفارسي، جابر بن عبدالله الأنصاري، البراء بن عازب الأنصاري، أبو الحمراء مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أبو عبيدة بن الجراح، المقداد بن الأسود، عمرو بن العاص، عبدالله بن مسعود، سمرة بن جندب الفزاري، حذيفة بن اليمان العبسي الغطفاني القيسي، زيد بن ثابت بن الضحّاك الأنصاري، زيد بن الأرقم، عبد الله بن عمر بن الخطاب، قيس بن ثابت بن شماس، أنس بن مالك، عمرو بن مرة الجهني، عمر وحبشي بن جنادة السلولي الكوفي، جرير بن عبدالله البجلي، حذيفة بن أسيد الغفاري، أبو أيوب الأنصاري، عبدالله بن أسعد بن زراره الأنصاري، أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني، حسان بن ثابت، مالك بن الحويرث الليثي الكناني، حبيب بن بديل بن ورقاء الخزاعي، أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، ..، وعامة قريش ووجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عقبي، ومهاجري، وأنصاري، وغيرهم من بدوي، وحضري.

ومن النساء: فاطمة الزهراء، أم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومية، أم هاني بنت أبي طالب، أسماء بنت عميس، فاطمة بنت حمزة بن عبدالمطلب، عائشة بنت أبي بكر ..ألخ.
اجتمع في خبر الغدير بالأسانيد الطريقان مع تفرقهما في غيره، ورواه بالأسانيد الكثيرة المتصفة بالصحة الجمع الكثير، مع الاختلاف في تأويله.

قال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام: حديث مشهور أخرجه كثير من المحدثين، ورواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثون صحابياً، فكيف يُسوّغ الاعتذار لمن خالف بعد هذا النص علياً، وبِمَ يلقى الله من لم يكن له موالياً وولياً!!.

وقال أبو القاسم الفضل بن محمد بن عبدالله الأصفهاني: روى حديث غدير خم عن رسول الله نحو مائة نفس، منهم العشرة، وهو حديث حسن صحيح ثابت لا أعرف له عِلة، تفرَّد علي عَلَيْه السَّلام بهذه الفضيلة ليس يشركه فيها أحد.

وقال الإمام عبدالله بن حمزة عليه السلام: هذا الخبر قد بلغ حد التواتر، وليس لخبر من الأخبار ما له من كثرة الطرق.

وقال جمال الدين الهادي بن إبراهيم الوزير: من أنكر خبر الغدير فقد أنكر ما علم من الدين ضرورة، لأن العلم به كالعلم بمكة.

وقال محمد بن إسماعيل الأمير في “الروضة الندية شرح التحفة العلوية”: حديث الغدير متواتر عند أكثر أهل الحديث.

وقال ابن حجر الهيثمي المكي في “الصواعق المحرقة”: حديث الغدير صحيح لا مِرية فيه، ولا التفات لمن قدح في صحته ورده، وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي وأحمد، وطرقه كثيرة جداً.

وقال أبو عبدالله الزرقاني المالكي: حديث متواتر رواه ستة عشر صحابياً، وفي رواية لأحمد بن حنبل أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثون صحابياً، وشهدوا به لعلي لمّا نُوزِّع أيام خلافته، فلا التفات إلى من قدح في صحته.

وقال الشيخ محمد بن علي الصبَّان في “إسعاف الراغبين”: رواه عن النبي 30 صحابياً، وكثيرٌ من طرقه صحيح أو حسن.

حتى ابن تيمية الحراني الحنبلي مع شدة معارضته للشيعة قال في كتابه “من حقوق آل محمد”: وثبت في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أنه قال: خطبنا رسول الله بغديرٍ يُدعى خم بين مكة والمدينة.

وعدَّه جلال الدين السيوطي من الأحاديث المتواترة.

وقال الحافظ الذهبي في “تذكرة الحُفّاظ”: وقفت على حديث الغدير فاندهشت لكثرة طُرقه، فقطعت بوقوعه.

وأضاف في “سير أعلام النبلاء”: حديث الغدير ثابت بلا ريب، متنه متواتر، وهو في أعلى درجات الصحة.

وقال صالح بن مهدي المقبلي في “الأبحاث المسددة في فنون متعددة”: “من كنت مولاه” حديثٌ متواترٌ، فإن كان مثل هذا معلوماً، وإلا فما في الدنيا معلوم.

وألف أبو سعيد مسعود بن ناصر السجستاني كتاباً من 17 مجلداً أسماه “الدراية في حديث الولاية”، وهو من العلماء المخالفين لأهل البيت، روى فيه حديث الغدير عن 120 صحابياً و1300 إسناد.

وما نفهم مما سبق أن حديث الغدير في أعلى مراتب الصحة، ووضوحه كالشمس في رابعة النهار، لمن تجرد من داء العصبية، وأهواء النفس الشيطانية، وإنصاع لسلطان العقل والحقيقة.

المغالطات المُثارة حول حديث الغدير

رغم وضوح حديث الغدير وظروفه وتعدد رُواته لدى فقهاء ومؤرخي المدرستين، وصراحة ألفاظه في تثبيت فكرة “الإمامة” ذات الولاية العامة والمسؤولية المُطلقة، وفي تعيين “الإمام” المسؤول بعد وفاة رسول الله، يأتي من يدعي بأن كلمة “المولى” في حديث الغدير، اسمٌ يقع على جماعةٍ كثيرة، ولفظٌ ينصرف في اللغة العربية الى معانٍ كثيرة، كالرب، والمالك، والسيد، والمنعم، والناصر، والمُحب، والتابع، والجار، وابن العم، والحليف، والصاحب، والعقيد، والصهر، والعبد، والمُعْتِقْ، والمُعْتَق‌، والمُنعّم عليه، والمتصرف في الأمر، والمتولي في الأمر، والولي، والأولى بالشيئ، والشريك، والقريب، والنزيل، ..، كما يذكر ابن الأثير في النهاية، والأميني في الغدير.

وبسبب كثرة معاني “المولى”، لم يعد من طبع الله على قلوبهم من المتنطعين والمتفلسفين يعلمون أيها كان رسول الله يقصد.

وكلها مزاعم وادعاءات متهافتة حاول علماء السلاطين في العهدين الأموي والعباسي، ومن بعدهم غُلاة الوهابية، ومن سار على نهجهم من المُجبرة والمُرجئة والجهمية والخوارج، ترويجها في أوساط العامة بعد أن أدركوا صحة حديث الغدير، بقصد التشويش، خصوصاً وأن تنصيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام كان في مواطن عديده منذ بدء رسول الله بالدعوة الى الإسلام، ولهذا لم يكن أمامهم سوى استمراء التشويش، والتحريف، والتزييف، لمنطوق الأحاديث النبوية الخاصة بفضل ومناقب أهل البيت ومكانتهم، وما يجب على المسلمين تجاههم، وطمس وحذف ما أمكنهم من ألفاظها، واستبدال ذلك بألفاظٍ تبث الشك والريبة في أوساط الناس، من قبيل: “مُبهمة”، وقال رسول الله “كذا وكذا” .. ألخ.

ويكفي للوقوف على صحة هذه الحقيقة الصادمة العودة الى طبعات “الإستانة” القديمة لأمهات كتب الحديث النبوي، ومقارنة نصوصها بما هو موجودٌ في الطبعات الحديثة الممولة من وهابية السعودية، وستجدون حقائق صادمة، ورحم الله شيخنا العلامة علي بن أحمد أبو هادي الشرفي، فقد كانت له سلسلة أبحاث في كشف هذه الحقيقة المؤلمة، نرجو أن يأتي اليوم الذي ترى فيه النور.

ومعلومٌ أن حديث الغدير من الأحاديث الصحيحة المتواترة بإجماع المؤالف والمخالف، وإنما وقع الخلاف في دلالة الحديث، وتحديداً في تفسير وتأويل لفظَي “المولى” و”الولي”، وهما وصفان من “الوِلاية”، و”الوِلاية” اسم لما توليته، ومن يلي أمراً أو يقوم به يكون أولى به من غيره، وما عداها من المعاني له، فإنما هي مصاديق حقيقتها.

فأُطلق لفظ “المولى” على “الرب” لأنه القائم بأمر العبد، وعلى “العبد” لأنه يقوم بحاجة سيده، وعلى الجار، وابن العم، والصهر، والعقيد، والحليف لأنهم يقومون بأمر صاحبهم فيما يحتاجون إليه.

وهكذا، فاللفظ مشترك معنوي، والقدر المشترك التوليّ والتصرف، وهما مساوق للأولى بالتصرف، ثم استُعمِل فيما يلازمه من المعاني.

وتدعي مدرسة الغُلاة أن كلمة “مولى” تعني “الصاحب” أو “النصير”، بينما فسرتها مدرسة أهل البيت عليهم السلام بـ”الأولى” بكم، وفي كل شؤونكم، وهو الأصح كما سنعرف في قراءتنا هذه، وإن كان الأولى بكم، وجب على المسلمين الإقرار بولايته والطاعة له، على حد طاعة رسول الله.

وما أراده المرجفون من وراء فلسفة معاني “المولى”، هو إفراغ واقعة الغدير من مقاصدها الربانية، والترويج بين العوام بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يقصد التنصيص على خلافة الإمام علي عليه السلام من بعده بل تذكير الأمة بأنه صهرٌ ومُحب، ويا للعجب من هكذا تقولات، وسنكتفي هنا بالوقوف على عدة حقائق تنسف ما ذهبوا إليه:

1 – نزول آية التبليغ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خارِجٌ من مكة بعد الفراغ من أداء مناسك فريضة الحج: “يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ”، وفيها أمرٌ إلهيٌ واضح بتبليغ ولاية الإمام علي عليه السلام، وعدم الالتفات الى أقاويل المرجفين، لأن من يُنكر ما سيقوله من ولاية علي لن يرى نور الهداية، والشاهد على أن هناك من سيُنكِر ذلك من الحاضرين وفي القرون التالية للواقعة، قوله سبحانه: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ”، والكفر يعني التكذيب والنُكران والجحود بنص القرآن.

والسؤال هنا: هل يليق برسول الله إيقاف عشرات الآلاف من المسلمين في وسط الصحراء الملتهبة، ليُخبرهم بأن علي بن أبي طالب مُحب وصاحب، وغيرها من الألفاظ العامة المشترك فيها كل الصحابة، أم ليُبلِّغ عن الله أمراً مُهماً وخطيراً وغير قابل للتأجيل إلى حين الوصول الى المدينة، فأيُ أمرٍ يستوجب توقفه صلى الله عليه وآله وسلم وإغتمامه إن لم يبلغه للمسلمين غير تنصيب وصيه خليفة للمسلمين.

2 – تحدث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غدير خم عن 3 ولايات: “الله مولاي”، “أنا مولى المؤمنين”، “من كنت مولاه فهذا علي مولاه”، ووجه الدلالة هنا أخذه صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين الاعتراف والإقرار بأنه أولى بهم من أنفسهم، وهذا يدل بوضوح على أن الولاية التي جعلها النبي لعلي هي عين الولاية التي هي للنبي، وهذه الولاية ليست صداقة أو محبة، بل هي ولاية عامة وقيادة مُطلق، وإن كانت تتضمن المحبة والعطف فهو صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين بالمؤمنين رؤوف رحيم.

وهذا التفصيل للتوضيح على أن التبليغ بأمر من الله، وأن ولاية أمير المؤمنين ليست بديلاً عن النبوة بل مكملةً ومتممةً لها، وبتبليغ ولاية علي عليه السلام اكتمل الدين.
وقبل أن يتفرق المسلمون نزل جبريل عليه السلام بآية إكمال الدين: “اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا”، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، والولاية لعلي بعدي”.

وفي هذا دلالة واضحة على حدوث أمر خطير أكمل الله به الدين وأتم النعمة، قطعاً ليس المحبة والصداقة بل الولاية.

3 – انهاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطبة الغدير بالدعاء للإمام علي: “اللهم والِ من والاه .. ألخ”، وهذا الدعاء لا ينسجم مُطلقاً مع غير الولاية العامة وإمرة المؤمنين.

4 – بعد انتهاء النبي من خطبة الغدير، توّج الإمام علي بعمامته “السحاب”، وهي سوداء اللون كما يذكر ابن القيم في “زاد المعاد”، لبسها الرسول في أيام خاصة كفتح مكة، وقال الإمام علي كما يذكر البيهقي في سننه والطيالسي في مسنده: “عمّمني رسول الله يوم غدير خم بعمامة سدلها خلفي”، ثم قال: “إن الله عز وجل أمدّني يوم بدر وحنين بملائكة يعتمون هذه العمة”، ..، وقال: “إن العمامة حاجزةٌ بين المسلمين والمشركين”.

وأمر رسول الله بنصب خيمتين واحدة له والثانية للإمام علي عليه السلام، ومبايعة الحاضرين الإمام علي وتقديم التهاني له بإمرة أمير المؤمنين، واستمرت المبايعة وتقديم التهاني من الرجال والنساء 3 أيامٍ متوالية، وكلما بايع فوجٌ، قال رسول الله: “الحمد لله الذي فضّلنا على جميع العالمين”.

وقال صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله: “هنئوني .. هنئوني، ..”، ولم يقول “هنئوني” في كل أفراحه إلا في هذا اليوم الأغر، والسبب لمن تجرد من دعاء التعصب، إدراكه عظمة هذا اليوم، وجلالة هذه الذكرى، وأفضلية هذا العيد على ما عداه من الأعياد الإسلامية.

ومن البديهي أن هذه المراسم لا تنسجم إلا مع الولاية والخلافة.

وكان في مقدمة المهنئين أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب رحمة الله عليهما، وقال عمر للإمام علي: “بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمنٍ ومؤمنة”، كما يذكر الحسكاني في “شواهد التنزيل”.

وفي مسند أحمد بن حنبل، وتاريخ ابن كثير، وسنن ابن ماجه: “هنيئاً لك يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة”.

وهذا يعني أن المسلمين فهموا ما أمر الله نبيه بتبليغه في غدير خم، ونتيجة لهذا الفهم بادروا إلى تهنئة الإمام علي عليه السلام، والبخبخة له بهذه المناسبة الغراء.
5 – إنشاد حسان بن ثابت بعد فراغ النبي من خطبة الغدير مباشرة، قصيدة تحدثت عن تفاصيل الواقعة، وانتشرت وذاعت بين الناس برضى رسول الله وعلمه، وفيها تصريح بالخلافة والإمامة، ومع ذلك لم يعترض من ذلك الجمع أحد، بل استحسنوا شعره، ومدحوه، مما يدل على أن الجميع قد فهموا نفس ما فهمه حسان بن ثابت، وما نفهمه نحن اليوم:
يُناديهمُ يوم الغدير نبيّهم .. بخمٍّ فأسمِع بالرسول المناديا
وقد جاءه جبريلُ عن أمر ربه .. بأنك معصومٌ فلا تكُ وانيا
وبلغهم ما أنزل اللهُ رُبُهم .. اليك ولا تخشى هناك الأعاديا
فقام بهم إذ ذاك رافعُ كفِّهِ .. بِكفِّ عليٍ مُعلن الصوت عاليا
وقال: فمن مولاكم ووليكم؟ .. فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا!
إلهك مولانا وأنت وليُّنا .. ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا
فقال له: قم يا عليُ فإنّني .. رضيتك من بعدي “إماماً” و”هاديا”!
فمن كنتُ مولاه فهذا وليُّهُ .. فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا: اللهمّ والِ وليَّهُ .. وكن للذي عادى علياً معاديا
وبعد انتهائه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: “لا تزال يا حسان مُؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك”.

هذه الأمور مجتمعة تجعلنا على يقين أن ما أراده رسول الله في غدير خم ليس تذكير المسلمين بأن الإمام علي مُحبه وناصره وأخيه وصديقه وابن عمه وزوج ابنته، ولو أن النبي أراد التحدث عن هذه الأمور لما كان بحاجة لإيقاف المسلمين في تلك الصحراء الملتهبة وفي وسط الظهيرة، ولا الى ما أنزل الله من آيات بينات في تلك الواقعة، ولا الى تلك الصيغة في تهنئة الإمام علي.
وما نفهمه مما سبق أن الله لا يقبل التوحيد إلا بالاعتراف لنبيه بنبوته، ولا يقبل الدين إلا بولاية من أمر الله بولايته، بهذا يزول اللبس، ويُفهم سبب أهمية واقعة الغدير، وسبب أهمية أمر الله بتبليغ الولاية، وسبب رضا الله بذلك، واعتبار التبليغ أخر مهمة لرسول الله قبل رحيله، والتي بها اكتمل الدين، وتمت النعمة.

والشاهد على الولاية قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “من كنت مولاه فعلي مولاه”، والمولى في اللغة تعني “المالك للتصرف في أمور القوم”، وهو أول ما يتبادر للأفهام، وما عدا ذلك فادعاءات فارغة القصد منها إفراغ الغدير من محتواه الحقيقي.

قال العلامة الشهيد حُميد بن أحمد المحلي الهمداني الوادعي: لو لم يكن السابق إلى الأفهام من لفظة “مولى” المالك للتصرف، وكانت منسوبة إلى المعاني كلها على سواء حملناها عليها أجمع، إلا ما يتعذر في حق علي عليه السلام من “المُعتِق” و”المُعتَق”، فيدخل في ذلك ملك التصرف، والأولى المفيد “ملك التصرف”، فيُفيد الإمامة، لأنه عليه السلام إذا ملك التصرف على الأمة، أو كان أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كان إماماً.

ولو لم يرد في مناقب أمير المؤمنين عليه السلام إلا خبر الغدير لكفى في رفع منزلته، وعلو درجته، وقضى له بالفضل على سائر الصحابة.

وما ذكره حسان بن ثابت: “رضيتك من بعدي إماماً وهادياً”، دليلٌ على أنه عَقَل من كلام النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّمَ: “من كنت مولاه فعلي مولاه” المالك للتصرف، لأنه عقل منه الإمامة، التي هي مفيدة لملك التصرف، فدّل على أن لفظة “المولى” تُفيد ما ذكرناه، وقول حسان حُجة في ذلك، لأنه لا يشكل حاله في معرفة اللغة.

وقد انطوى أيضاً على فضائل عِدة سوى الإمامة، ومتى اقتضت فضله على غيره، كان أولى بالإمامة أيضاً، لكونه أفضل، إذ الأفضل أولى بالإمامة من المفضول عند من يُمعن النظر.
وقال المقبلي في “الإتحاف”: أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والنسائي، عن بريدة .. إلى قوله: فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “يا بريدة ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم”، قلت: بلى يا رسول الله، قال: “من كنت مولاه فعليٌ مولاه”، وبهذا الحديث، وما في معناه تحتج الشيعة على أن “مولى” بمعنى: “أولى”، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دل مساق كلامه أنه سَوّاه بنفسه، وإلّا لما كان لمُقَدِّمة قوله: “ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم”، معنى.

ومعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم “من كنت مولاه فعليٌ مولاه”، من كنت مُتقلِّداً أمره وقائماً به فعليٌ متقلدٌ أمره وقائم به، وهذا صريحٌ في قيادة الأمة وإمامتها وولايتها، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قيادة الأمة ووليها وسلطانها والقائم بأمرها، فثبُت لعلي عليه السلام ما ثبُت له من الولاية العامة والقيادة التامة.

المفكر المصري الدكتور أحمد محمود صبحي حاول مقاربة الحقيقة في توضيح سبب إنكار المنكرين لحديث الغدير: “لما كان أهل الظاهر والسلفيون يوالون معاوية، فإنه لم يكن لديهم مفر من اختيار إما ترك هذه الموالاة أو القدح بشتى الوسائل في حديث الغدير، ..، وبالرغم من أنه من المفروض أن تخضع العقائد للنصوص، إلا أن كثيراً من أصحاب المذاهب قد أخضعوا الأحاديث لأهوائهم ومذاهبهم”.

حقاً إن الأمر لعجيب .. وما علينا إلا أن نقول كلمة واحدة لا نملك غيرها: لك الله يا علي ما أنصفوك في شيئ لا حيا ولا ميتاً!!!

المراجع:
1 – الإمام القاسم بن محمد بن علي عليه السلام، الاعتصام بحبل الله المتين، الجزء الخامس، طبعة الجمعية العلمية الملكية 1983.
2 – الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الشجري، الآمالي الخميسية، عالم الكتب – بيروت، الطبعة الثالثة 1983.
3 – العلامة حُميد بن أحمد المحلي الهمداني الوادعي، مَحَاسِنُ الأَزْهَار في تَفْصِيْلِ مَنَاقِبِ العِتْرَةِ الأَطْهَاْرِ.
4 – العلامة أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي، اللآلئ المضيئة، الجزء الأول.
5 – القاضي حسين بن ناصر بن عبدالحفيظ النيسائي الشرفي المعروف بالمهلا، مطمح الآمال في إيقاظ جهلة العمال من سيرة الضلال، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
6 – السيد العلامة مجدالدين المؤيدي، التحف شرح الزلف، مركز أهل البيت للدراسات الإسلامية – صعدة.
7 – السيد العلامة بدر الدين بن أمير الدين الحوثي، أحاديث مختارة من أحاديث الفضائل في فضل أهل البيت وشيعتهم، مكتبة السنحاني – صنعاء، الطبعة الأولى 1992.
8 – أحمد محمد الهادي، السيرة النبوية، مركز النور للدراسات – صعدة، الطبعة الأولى 1415 هـ.
9 – العلامة عبدالحسين أحمد الأميني، الغدير في الكتاب والسنة والأدب، دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة الرابعة 1977.
10 – العلامة محسن علي البلتستاني الباكستاني، النهج السوي في معنى المولى والولي، مكتبة النجاح – طهران، الطبعة الثانية 1999.
11 – العلامة مرتضى العسكري، معالم المدرستين، الجزء الأول، المجمع العلمي الإسلامي – طهران، الطبعة الخامسة 1993.
12 – العلامة محمد حسن آل ياسين، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام “سيرة وتاريخ”، المكتب العالمي للطباعة والنشر – بيروت، الطبعة الأولى 1987.
13 – العلامة رضا الصدر، يوم الإنسانية .. يوم الغدير الأغر، مكتبة النجاح – طهران، الطبعة الثانية 1999.
14 – العلامة عبدالودود الأمين، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، دار التوجيه الإسلامي – بيروت/ الكويت، طبعة العام 1980.
15 – العلامة محمد علي التسخيري، نظرة سريعة الى حياة نبي الإسلام، مؤسسة في طريق الحق – قم، الطبعة الأولى 1403 هـ.
16 – العلامة محمد إبراهيم الموحد، عيد الغدير، مؤسسة الوفاء – بيروت، الطبعة الثالثة 1403هـ.
17 – الدكتور يحيى عبدالحسن الدوخي، حديث الغدير – مقاربة ودراسة لطرقه وسنده ودلالاته عند علماء أهل السنة، مؤسسة الدليل للدراسات والبحوث العقدية، 24 أغسطس 2020.
18 – زيد يحيى المحبشي، عيد الغدير الأغر، بحث مخطوط، 17 مايو 1995.
وكذا: عيد الغدير لماذا؟، بحث مخطوط، 15 أغسطس 1999.
من دلائل عيد الغدير، بحث مخطوط، 18 مارس 2000.
وهج الغدير أضاء دروب الولاية الحيدرية، بحث مخطوط، 18 ذو الحجة 1424 هـ.
19 – الروائع المختارة من خطب الإمام الحسن السبط، طبع مطبوعات النجاح – القاهرة.

 

تقرير – زيد يحيى المحبشي

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com