قبل أن يكون التطرف طلقة في صدر زارع شجرة النضال السلمي الأول الشهيد والمناضل جار الله عمر, كان فكرة متوحشة تتخلق في مغارات الحقد والكراهية للآخر, وما يحمله من قناعات وأفكار خاصة عندما ينمو التطرف ويزدهر في فقاسات الأنظمة المستبدة ويمارس تحت رقابتها وبالطريقة التي تفضلها مستفيدا من الغطاء الذي تمنحه تلك الأنظمة ولو تحت مسميات مختلفة وبما تقدمه من أموال ومساعدة على التنقل والسفر وكذلك حمايته من الوصول إلى يد العدالة والقضاء .
ونحن نعيش ذكرى اغتيال الشهيد والمناضل جارالله عمر الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي اليمني الثالثة عشرة , نتذكر تلك الجريمة التي مثلت مؤشراً خطيراً للانحدار الذي وصلت اليه الحياة السياسية عندما تم إسكات صوت السلام صوت العقل صوت التعايش ذلك الصوت الذي رفض الممارسات التي عمل النظام الحاكم من خلالها على إفراغ الديمقراطية من مضمونها وتحويل الحياة السياسية برمتها إلى مجرد مكسب بيد من يحكم ومن يمتلك القوة ومن يستطيع صناعة ديمقراطية تناسبه .
تلك الرصاصة الغادرة التي اعتقد من أطلقها ومن يقف خلف تلك الجريمة الشنعاء أنها نهاية حياة فكانت بداية ميلاد لثمرة فكرة النضال السلمي تلك الفكرة التي استشهد الشهيد جارالله عمر من أجلها وفي سبيلها وهو يدافع عنها .
العظماء لا يكترثون بالنهاية طالما كانت من أجل الناس
وإذا ما تتبعنا سيرة من يسقطون بسبب الأفكار التي يقتنعون بها ويخلصون لها نجد أن جريمة اغتيال جار الله لا تختلف عن جريمة اغتيال الكاتب والمفكر فرج والمتوكل والخيواني وشرف الدين وجدبان فجميعها جرائم قادمة من ثقافة رفض الآخر وهي ثقافة قاحلة إلا من الموت لا تعطي مجالاً ولا تعترف بحوار الأفكار وتبادل القناعات لأنها قائمة على تقديس دور الرصاصة لحسم المعركة التي ينهزمون فيها بالحجة والدليل وانعكاس معطيات الواقع وهو نوع من أنواع الهروب من مواجهة الحقيقة التي تدلل أن الأوطان لا تبنى ولا يحمى نسيجها الاجتماعي إلا بتعدد الأفكار وتعايشها والاحتكام للناس الذي من أجلهم نختلف ونتنافس لخدمتهم لا ليتحولون إلى تابعين في مهرجان الديمقراطية الزائفة. وهناك حقيقة اثبتتها جرائم الاغتيال التي تعرض لها كثير من المفكرين ومنهم الشهيد جارالله عمر وهي أن العظماء والمفكرين ومن يمتلكون مشروع حياة وعيشا مشتركا وسلاماً ومحبة لا يلقون بالاً لإمكانية تعرضهم للخطر لأنهم لا يكترثون لفكرة الموت لأن إيمانهم بالمبادئ العظيمة والقضية التي آمنوا بها يمنع عقله المورق أن ينحدر إلى محاذير الاغتيال تلك المحاذير التي يعشقها ويبالغ فيها دون حاجة أصحاب العقول الفارغة. وهكذا كان جار الله عمر الإنسان والمناضل والمثقف بسيطا قريباً من الناس حتى مقتله بين الناس إن فكرة الرحيل الغادر فكرة لا تتسلل إلى عقول وقلوب من يحبون الشعب كل الشعب حتى من يختلفون معهم في المواقف السياسية.
* ماذا تبقى من أعمدة الدولة المدنية ؟
لقد كان جارالله عمر يرحمه الله صاحب رؤية سياسية تنطلق من أهمية الوصول لإيجاد دولة عصرية فلقد كان بحق أبرز دعاة الدولة المدنية الحديثة, دولة المؤسسات والحكم الرشيد, وظل يعبر عن حاجة اليمن للوصول إلى ذلك حتى في خطابه الذي اختتم فيه مسيرته السياسية الحافلة بالكثير من المواقف الوطنية والمشرفة ذلك الخطاب الذي يمكن ان نسميه الوصية الأخيرة وخريطة الطريق الذي من خلالها يستطيع اليمنيون ان يخرجوا من عنق الزجاجة وما عانته الحياة السياسية في ذلك الوقت وهي الرؤية التي أثبتت صحتها وصوابيتها معطيات الواقع الراهن اليوم وما وصلت إليه البلاد عندما سيطرت ثقافة الغلبة والاستقواء بقوة الدولة لصالح مكاسب خاصة ومحدودة .
* نماذج السعواني يتكاثرون باستمرار
وفي ذكرى اغتيال جار الله عمر نجد شعبنا في مواجهة مع فكر التطرف والإرهاب فلم ينته التطرف بالقبض على على مرتكب جريمة اغتيال جار الله عمر, علي جار الله السعواني. وتسليمه للعدالة طالما ظل من ربى السعواني وأمثاله ومن دعم وساهم في تلك الجريمة بعيدين من حبل العدالة.
إن نموذج السعواني قد انتشر كالفطر ولا يزال في كل يوم تسقط بسببه ضحية جديدة كيف لا والمناهج التي نهل منها السعواني لا تزال هي المناهج التي ينهل منها الأبناء تلك المناهج التي تدعو للعنف والتطرف ورفض الآخر.
إن نموذج السعواني سيظل طالما بقت تلك الشخصيات التي ربت العنف والتطرف وأدواته بالقرب منها ومدتهم بالمال والسلاح ووفرت لهم الوظيفة المناسبة والسكن المناسب والغطاء الذي تتحرك من خلاله بكل أريحية.
إن نموذج السعواني سيظل طالما ظل الجهاز الأمني مخترقاً من القاعدة وغيرها من التنظيمات المتطرفة الأخرى وتعمل لصالحه وفقدت الهدف الذي أنشئت من أجله وهي حماية أمن الوطن والمواطن.
إن نموذج السعواني سيظل طالما ظل التعليم الديني ولم يحم التعليم من خلال رؤية وطنية تنتصر لليمن. تنتصر للإبداع. تنتصر للتنمية بعيدا عن حشو الأفكار التي حولت الكثيرين إلى قنابل موقوتة.
* رحيل جار الله عمر أزهر عشاق للدولة المدنية
لقد استطاع القتلة اسكات أنفاس جار الله عمر لكنه لا يزال يزهر الكثير من عشاق الدولة المدنية والحكم الرشيد والذي كان رحيل جار الله بالنسبة لهم بداية لانطلاق نحو ثورة شعبية لطالما حذر منها جارالله فجاءت كما قال. وعندما غدر بها بعض أطرافها كان من أسباب الغدر بها عدم وجود رجل بحجم جار الله يحميها من انتهازية السياسيين ومراكز النفوذ العسكري والقبلي من خلال تأثيره في الحياة السياسية وتأثيره داخل أحزاب المشترك وقربه من الشباب في كل الأحزاب ومن خلال تجربته التي أثبتت الوقائع انه كان صاحب سبق في قراءة متطلبات اللحظة فماذا تبقى من أعمدة الدولة المدنية, ونماذج مثل السعواني, قاتل جار الله عمر استكملت نسف أعمدة الدولة المدنية باغتيال الأستاذ أحمد شرف الدين والأستاذ محمد عبد الملك المتوكل صديق جار الله عمر واغتيال الشهيد عبد الكريم الخيواني والأستاذ عبد الكريم جدبان.
إن معركة اليمنيين مع التطرف لا تحل بالجانب العسكري والامني فقط بل تعالج وتكافح من خلال رؤية وطنية لضرورة وجود الدولة العادلة والتي تعمل من خلال استراتيجيات وطنية تحمي النسيج الاجتماعي وتوقف الحروب وتواجه الأفكار المتطرفة كدولة ومؤسسات وبطريقة علمية حديثة وما عدا ذلك ستظل مواجهة الإرهاب والتطرف كالحرث في البحر وسيظل اليمنيون ضحايا دورات العنف إلى مالا نهاية ..
رحم الله الشهيد المناضل جار الله عمر, والخزي والعار لقاتليه الذين احرموا اليمن من رجل كان يستطيع أن يقدم حلاً لجل ما تعانيه اليمن وما وصلت إليه من منعطف خطير بما يملكه من رؤية ثاقبة وحكمة وقراءة واعية للأحداث.