ثورة الإمام زيد ضد إرهاب الدولة الأموية
افق نيوز | بقلم زيد يحيى المحبشي
لا بُد لشجرة الحرية من دماء طاهرة زكية تُنميها، ولهذا الهدف السامي والغاية النبيلة نذر أهل بيت النبوة أنفسهم في سبيل ذات الشوكة، وعند تصفحنا التاريخ ما وجدنا أسرة كأهل هذا البيت بلغوا الغاية من شرف الأرومة، وطيب النجار، وجاهدوا في سبيل الحق، ومن أجل الذب عن بيضة الإسلام على مر العصور، ولقوا في سبيل ذلك كل أصناف القتل والتنكيل والتعذيب والتغييب في غياهيب السجون والنفي والتشريد في القفار والفيافي والأمصار، وأسالوا دمائهم في ساحات الوغى راضية قلوبهم، مطمئنة ضمائرهم، وصافحوا الموت ببسالة فائقة، وتلقوه بصبر جميل، يثير في النفس أفانين الإعجاب والإكبار والتعظيم، ويشيع فيها ألوان الاحترام والتقدير والإعظام.
وقد أسرف أعدائهم في محاربتهم، وطمس ذِكرهم ومحو فضائلهم، وأذاقوهم ضُروب النكال، وصبُّوا عليهم صنوف العذاب، ولم يرقبوا فيهم إلاً ولا ذمة، غافلين – عمداً – قوله سبحانه: “قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى”.
لكن أولئك الشذاذ فهموا المودة ناراً تحرق، وسِهاماً تُمزِّق، وسيوفاً تُقَطِّع، فهتكوا حُرم الرسالة، وقتلوا أبناء النبوة بعنفٍ لا يشوبه لين، وقسوة لا تمازجها رحمة، تماماً كما يجري اليوم من قتلة الأنبياء وشذاذ الأفاق الصهاينة الأنجاس، وعبيدهم من أعراب جزيرة العرب بحق الفلسطينيين واليمنيين والبحرينيين.
وقد فَجّرت دماء قرابين آل بيت النبوة ينابيع الرحمة والمودة في قلوب الناس، وأشاعت الأسف والندم والتحسُّر في صدورهم، وملأت عليهم أقطار نفوسهم شجناً.
ورغم ذلك أسلموهم للسجّان والسيِّاف، لماذا؟.
لأن سيف الباطل مسلطٌ على رقاب الناس، ولخوف السواد الأعظم منهم على دنياهم الفانية، ولحبهم الدنيا، وكراهيتهم لموت الكرامة.
ومع ذلك أصبحت مصارع العترة الطاهرة حديثاً يُروى، وخبراً يُتناقل، وقصصاً تُقص، وحكايات يجد فيها المستضعفين إرضاءً لعواطفهم، ودواءً لمشاعرهم، وإيقاظاً لضمائرهم الحية التي ترفض الظلم وتأبى الضيم، ووقوداً لثورات التحرر من طغيان وجبروت وإرهاب أنظمة المُلك العضوض، وما نراه من صمود وبسالة اليمنيين في مواجهة الطغيان السعودي الإماراتي، ومجابهة القوى الحرة والحية لمشاريع التطبيع والتهجين، ليس سوى قبس من تلك الثورات المباركة.
فكم نحن اليوم بحاجة لإعادة التأمل في سجل ثورات أئمة الهدى، لنستلهم منها عوامل الثبات والصبر والصمود والقوة وأيقونة النصر.
في تاريخ الثورات لابُد قبل إنطلاف الثورة من تحديد الأهداف التي تسعى لتحقيقها، والمبادئ التي ترتكز عليها بما يساعدها على توحيد ولم شمل الصف الثوري والدفع به إلى العمل لتحقيق آمال وأماني وطموحات شعوبها، وأممها، بينما تفردت ثورات أئمة أهل البيت النبوي والثورات الإسلامية عموماً بأن باعثها وموجبها هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونُصرة المظلومين، وإنقاذ المستضعفين، وتحقيق إرادة شعوبهم، وأممهم، ومتطلباتها من حق، وعدل، وحرية، ومساواة، وعيش كريم، ضمن العقيدة الإسلامية، وعلى أرضية المحبة الإنسانية، والأخوة الإسلامية.
هذه هي خلاصة مبادئ أهل البيت الثورية، وخلاصة أهداف ثوراتهم، التي تضمنتها نظرياتهم في العدل، والتوحيد، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنبوات، ودعوا إليها في كتبهم، ورسائلهم، ونصوص بيعتهم، التي كانوا يأخذونها على متابعيهم وأنصارهم.
ومنها نعرف بداهة أن ثوراتهم كانت في عهود الظلم، والضلال، الواجب فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك لأنهم لا يؤمنون بالسلطة التي تعني التسلط والفرض، وإنما بالسلطة التي تعني القيام بالواجبات، والتحمل للمسؤوليات، ولهذا تنزهت ثوراتهم عن العنصرية، والطائفية، والقومية، والإقليمية، والمادية، وغيرها من الأفكار الجاهلية، والمادية، التي يتصارع الناس عليها اليوم.
وأن هدف كل الثائرين من آل بيت النبوة بدءاً بالحسين بن علي وإنتهاءً بالحسين بن بدر الدين، واحد، ومنهجهم واحد، وهو خيرية الأمة، ونُشدان سعادتها، وتحقيق ما يكفل لها العدل والأمن والأمان والكرامة، وتحصينها ضد وباء الخلاف والاختلاف والاختراقات الباغية لها دوائر الفتنة والاقتتال.
من أجل هذا قدَّموا قافلة كبيرة من قرابين العشق الإلهي، لتظل منارة الإسلام عالية شامخة مضيئة الكون بأنوار الرحمة المهداة إلى يوم الدين، وعملوا بكل إخلاص وتفاني من أجل تطهير المجتمع من الفساد والظلم والعبث والإرهاب السلطوي، وكلهم إستشعروا واجب النهوض والخروج بعد موت ووأد السنة المحمدية، وإطفاء الأنوار الربانية، وإحياء البدع الجبروتية والطاغوتية.
شهد شهر محرم الحرام ثورتين من ثورات أهل البيت، الأولى قادها الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب سلام الله عليه وانتهت باستشهاده بأرض كربلاء في العاشر من محرم سنة 61 هـ، والثانية رفع لوائها مجدد المائة الهجرية الأولى الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب سلام الله عليه، وانتهت باستشهاده بأرض الكوفة في الخامس والعشرين من محرم سنة 122 هـ، وما بينهما نجحت ثورتيهما في إسقاط شرعية الأنظمة المتسلطة، وهز كيانها، وكشف زيف أوراق المتآمرين على الحق والحرية والعدالة، من طابور خامس عريض، كان وما يزال أحد أهم العوامل الهدامة والمؤرقة للأمة الإسلامية منذ بزوغ شمس الرسالة المهداة، وحتى يوم الناس.
من هو زيد بن علي؟
هو زيد بن علي السجاد زين العابدين بن الحسين السبط بن علي الوصي بن أبي طالب شيخ البطحاء.
مولده في المدينة المنورة سنة 75 هـ الموافق 694 م، واستشهاده بالكوفة في يوم الجمعة 25 محرم 122هـ الموافق 30 ديسمبر 739م، وعمره لم يتجاوز الـ 47 عاما.
وهو وأباءه لا يحتاجون إلى تعريف، لأنهم أشهر من الشمس في رابعة النهار.
فجده: شهيد كربلاء الحسين بن علي، سبط رسول الله وأحد سيدي شباب أهل الجنة.
وأبوه: “علي بن الحسين”، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم سيد العابدين، فيقوم علي بن الحسين”.
وأمه: جارية سندية اسمها “جيدا”، تحلت بالدين والخُلُق والأدب والحياء، اشتراها المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وقال: ما أرى أحداً أحق بكِ من علي بن الحسين، وفي هذا أيضا يروى عن علي بن الحسين عليهما السلام أنه أصبح ذات يومٍ، فقال لأصحابه: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلتي هذه، فأخذ بيدي فأدخلني الجنة، فزوجني حوراء فواقعتها فعلقت، فصاح بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي، سمّ المولود منها زيدًا، فما أن حلّ اليوم التالي حتى أرسل المختار بأم زيد.
وعندما وُلِدَ الإمام زيد، أخرجه والده إلى الناس، وهو يقول: “هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقًا”.
وحين زُفّت البشرى إلى زين العابدين سلام الله عليه بهذا المولود المبارك قام فصلى ركعتين شكراً لله، ثم أخذ المصحف مستفتحاً لاختيار اسم مولوده، فخرج في أول السطر قول الله تعالى: “وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً”، فاطبقه، ثم قام وصلى ركعات، ثم فتحه، فخرج في أول السطر: “ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون”، ثم قام وركع، وأخذه للمرة الثالثة وفتحه، فخرج في أول السطر: “إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم”، عندها أطبق سلام الله عليه المصحف، ودمعة عيناه، وقال: “إنا لله وإنا إليه راجعون، عُزّيتُ في هذا المولود، إنه زيد، وإنه لمن الشهداء”.
تتلمذ الإمام زيد علي يد والده وشقيقه الأكبر الإمام محمد الباقر عليه السلام، وسُمي في المدينة المنورة بحليف القرآن، لكثرة خلواته التأملية مع كتاب الله، ولأنه صلوات الله عليه كان لا يأنس إلا إليه، وفي هذا يقول الإمام زيد: “خلوت بكتاب الله عز وجل أقرؤه وأتدبَّرُه ثلاث عشرة سنة”.
وهو سلام الله عليه أول من ألّف في تفسير القرآن كتاباً على قُربِ عهدٍ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أسماها ” تفسير غريب القرآن، فسر فيه الكلمات الغريبة في القرآن الكريم، وهو أول من جمع الحديث النبوي في مجموع واحد لعلوم شتى من فنون الفقه ومسائله وأبوابه “المجموعان الحديثي والفقهي”، ومن مؤلفاته سلام الله عليه: كتاب الإيمان، وكتاب الرد على المرجئة، وكتاب الخطب والتوحيد، وكتاب الاحتجاج في القلة والكثرة، وكتاب فضائل أمير المؤمنين، وكتاب الرسالة في إثبات الوصية، وكتاب الصفوة، وكتاب تفسير آية الفاتحة، وكتاب المناظرات، وكتاب المواعظ والحِكم، وكتاب مناسك الحج والعمرة ..ألخ.
وكان محل احترام وتقدير معاصريه من أئمة وعلماء وفضلاء أهل البيت، وكانت له مكان عالية عند أئمة المذاهب السنية الأربعة.
ومن طريف ما يروى أن الإمام زيد عليه السلام طلب من أخيه محمد الباقر عليه السلام كتاباً لجدهم الإمام علي بن أبي طالب، فنسي الباقر ذلك، وبعد مرور 13 سنة تذكر، فدفع بالكاتب الى الإمام زيد، فقال الإمام زيد: قد وجدت ما أوردت منه في القرآن، فأخذ الباقر يسأله عما في الكتاب، وهو يجيب بما فيه، رغم أنه لم يطّلع عليه من قبل، فقال الباقر سلام الله عليه: بأبي وأمي يا أخي، أنت والله نسيج وحدك – فريد عصرك -، بركة الله على أم ولدتك، لقد أنجبت حيث أتت بك شبيه آبائك عليهم السلام.
وقال الباقر عليه السلام عنه أيضاً: والله لقد أوتي أخي علم الدنيا، فسألوه، فإنه يعلم ما لا نعلم، ..، لقد أُوتي زيدٌ علينا من العلم بسطة.
وقاله عنه ابن أخيه جعفر بن محمد عليهما السلام: كان زيدٌ أفقهنا، وأقرأنا، وأوصلنا للرحم.
وقال أبو الجارود: قَدِمتُ المدينة فكلما سألت عن زيد بن علي عليهما السلام، قِيل لي ذاك حليف القرآن.
وقال سفيان الثوري: قام زيد بن علي مقام الحسين بن علي، وكان أعلم خلق الله بكتاب الله، ما ولدت النساء مثله في عصره.
وقال الإمام أبو حنيفة النعمان: شاهدت زيد بن علي كما شاهدت أهله، فما رأيتُ في زمنه أفقهَ منه، ولا أعلمَ، ولا أسرعَ جوابًا، ولا أبينَ قولاً، لقد كان منقطعَ القرين”.
وقال أبو إسحاق السبيعي: لم أرَ مثل زيد بن علي أعلم، ولا أفضل، ولا أفصح، في أهل البيت.
وقال الشعبي: ما ولدت النساء أفضل من زيد بن علي، ولا أشجع، ولا أزهد.
وقال خالد بن صفوان: انتهت الفصاحة والخطابة والزهادة والعبادة من بني هاشم إلى زيد بن علي، لقد شهدته عند هشام بن عبدالملك وهو يخاطبه، وقد تضايق به مجلسه.
وقال ابن عنبه: مناقبه أجَل من أن تُحصى، وفضله أكثر من أن يوصف.
ويروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشّر بقائم من أهل البيت من أبناء الحسين اسمه زيد، ونظر صلى الله عليه وآله وسلم يوماً إلى زيد بن حارثة، وبكى، وقال: “المقتول في الله المصلوب من أمتي سمي هذا”، وأشار إلى زيد بن حارثة،..، ثم قال: “أُدُنُ مني يا زيد زادك الله حباً عندي فإنك سمي الحبيب من ولدي”.
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: “يقتل رجل من أهل بيتي فيُصلَبُ، لا ترى الجنة عين رأت عورته”.
وكانت جماعة عند الإمام السجاد، فدعى زيداً، فكبى على وجهه – تعثر ووقع – وجعل يمسح الدم عن وجهه، ويقول: “أُعيذك بالله أن تكون المصلوب بالكُناسة، من نظر إلى عورته متعمداً، أصلى الله وجهه بالنار”.
وخطب علي بن أبي طالب عليه السلام يوماً على منبر الكوفة، فذكر أشياء وفتن، حتى قال: “ثم يملك هشام تسع عشرة سنة، وتواريه أرض رصافة، رصفت عليه النار، مالي ولهشام جبار عنيد، قَاتِل ولدي الطيب المُطَيّب، لا تأخذه رأفة ولا رحمة، يُصلبُ ولدي بكناسة الكوفة، زيد في الذروة الكبرى من الدرجات العُلى، فإن يقتل زيد، فعلى سنة أبيه، ثم الوليد فرعون خبيث، شقي غير سعيد، يا له من مخلوع قتيل، فاسِقُها وليد، وكافرها يزيد، وطاغوتها أزيرق”.
ومن أولاده سلام الله عليه: يحيى، وعيسى، ومحمد، والحسين، وكان يُكنى بأبي الحسين.
أهداف الثورة:
عايش الإمام زيد عهد دولة بني أمية، وشاهد كل جرائمها بحق الأمة الإسلامية من بث للفرقة وضرب المسلمين بعضهم ببعض، وملاحقة وقتل وتعذيب وسجن وتشريد ونفي معارضي ظلمهم وعبثهم وفسادهم، وتماديهم في المجاهرة بالمعاصي، وطمس معالم الدين، وتحريف التعاليم الإسلامية، وإقامة دولة المجون، ومحاربة بيت النبوة.
وتُبين الروايات التاريخية أن عهد الملك الأموي هشام بن عبدالملك – امتد حكمه من شوال 105 الى ربيع 125 هـ – من أكثر العهود التي برز فيها الاضطهاد، حيث شاع ما يسمى اليوم بـ “إرهاب الدولة” والتصفية الجسدية لكل القوى المعارضة للحكم الاموي، فضلا عن اقصاء التيارات الفكرية ونفيهم الى جزيرة دهلك القاحلة النائية الحارة، والتي تقع في مدخل البحر الأحمر وتتبع اليوم إرتيريا، حيث كانت مضرباً للأمثال في البعد، وممارسة الحرب النفسية ضد المعارضين، بالإضافة الى المضايقات الاقتصادية، وممارسة أساليب التجويع، وخصوصاً في البلدان التي تحب أهل بيت النبوة.
وبعد وفاة الإمام زين العابدين، وضع هشام بن عبدالملك، الإمام زيد على قائمة المستهدفين من أئمة أهل البيت باعتباره الأكثر تأهيلاً والأكثر كفاءة لقيادة المسلمين، بالتوازي مع رصد جواسيس بني أمية تحركات غير مسبوقة للشيعة في العراق وخرسان، ومعها بدأت مخاوف هشام من تواصل الشيعة مع الإمام زيد، ومبايعته بالخلافة، بما له من مكانة لدى الشيعة وأئمة المذاهب السنية الأربعة، فقرر الملك الأموي تشديد الرقابة على الإمام وشن أقذر الحروب النفسية والاقتصادية والسياسية ضده، لدفعه الى البروز والدعوة لنفسه، كي يتسنى القضاء عليه.
وجه هشام عامله على المدينة “خالد بن عبدالملك بن الحارث بن الحكم” بإثارة الفتنة والخلاف بين الإمام وبني عمومته، ودفعه لمغادرتها نحو العراق، وفي العراق صدرت التوجيهات
الهامانية لوالي الكوفة “يوسف بن عمر بن محمد الثقفي” بالتضييق على الإمام ومطالبته بأموالٍ زعم أن خالد بن عبدالله القسري أودعها لديه، ولم يكن لخالد أي مال لدى الإمام، وإنما أراد إذلاله بأمر من هشام.
فلم يكن أمام الإمام سوى التوجه الى الشام لمقابلة هشام وجها لوجه، فكاشف هشام الإمام العداء وأخرجه مهاناً، فقال الإمام مقولته المشهورة: “من أحب الحياة عاش ذليلاً”.
ومما ينقله الرواة دخول الإمام على هشام وفي مجلسه يهودي يسب رسول الله، فانتهره الإمام، فقال هشام: مه يا زيد لا تؤذِ جليسنا.
واتجه الإمام الى العراق، ومنها أراد العودة إلى مدينة جده رسول الله، فلحقه أهل الكوفة وأصروا عليه بالبقاء، وقالوا له: أين تخرج رحمك الله ومعك مائة ألف سيف، وأعطوه العهود والمواثيق على السمعة والطاعة، وبايعه العلماء والفقهاء، وانطوى ديوانه على 15 ألف مقاتل من أهل الكوفة فقط، عدا أهل المدائن والبصرة وواسط والموصل وخراسان والري وجرجان.
استمرت دعوة الإمام بالكوفة وأخذ البيعة والإعداد للثورة 11 شهراً، حدد خلالها أهداف ثورته بوضوح، وعلى رأسها تحرير الأمة الإسلامية من إرهاب ورُهاب وعبث وفساد دولة بني أمية، ورفع الظلم عن كاهل الناس، وإشاعة العدل بينهم، والعودة بهم الى كتاب الله وسنة رسوله، وإصلاح الحال المزري الذي وصلت إليه أمة جده رسول الله:
“أيها الناس إني أدعوكم الى كتاب الله، وسنة نبيه، وجهاد الظالمين، والدفاع عن المستضعفين، وقسم الفيئ بين أهله، ورد المظالم، ونُصرة أهل البيت على من نصب لنا الحرب، وإحياء السنن، وإماتة البدع”.
“لا يسعني أن أسكت، وقد خُولِّف كتاب الله، وتٌحُوكِمَ إلى الجبت والطاغوت”.
“الحمد لله الذي أكمل لي ديني، والله ما يسرني أني لقيت محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ولم آمر في أمته بمعروف، ولم أنههم عن منكر، والله ما أبالي إذا قمت بكتاب الله وسنة نبيه أنه تُأجج لي نار، ثم قُذِفت فيها، ثم صرت بعد ذلك إلى رحمة الله، والله لا ينصرني أحد إلا كان في الرفيق الأعلى، مع محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، ويحكم أما ترون هذا القرآن بين أظهركم، جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونحن بنوه، يا معاشر الفقهاء ويا أهل الحجا أنا حجة الله عليكم”.
وروى عبدالله بن مسلم بن بابك، قال: خرجنا مع زيد بن علي إلي مكة فلمّا كان نصف الليل واستوت الثريا، قال: “يا بابكي أما تري هذه الثريا ما أبعدها، أترى أنّ أحداً ينالها؟”.
قلت: لا.
فقال: “والله لوددتّ أنّ يدي ملصقة بها فأقع إلي الأرض، أو حيث أقع، فأتقطع، قطعة، قطعة، وأن الله أصلح بذلك أمر أُمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم”.
وقال سلام الله عليه: والله لو علمت رضاء الله عزّ وجلّ، في أن أقدح لي ناراً بيدي، حتّى إذا اضطرمت رميت بنفسي فيها، لفعلت.
نعم لقد كان همه سلام الله عليه إصلاح حال أمة جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإعادتها إلى المحجة البيضاء، والشريعة الغراء، ألم يقل جده الحسين عليه السلام، من قبله:
“إن كان دين محمد لم يستقم .. إلا بقتلي فيا سيوف خُذيني”.
خرج الإمام زيد على إرهاب وتسلط الدولة الأموية وجبروتها وطغيانها في ثلة من المؤمنين العارفين بحقيقة وجوبية التغيير، لا يتجاوز عددهم 500 مقاتل، وهؤلاء استطاع الأمويين شق صفهم وشراء بعضهم، وتهديد بعضهم، وتثبيط بعضهم، ولم يثبت منهم ساعة المواجهة سوى 218 مقاتل، بينما تهافت وتساقط التشكيكيين الممثلين حينها طابوراُ خامساُ بلغ زُهاء 40000 متخاذل، وفي رواية 100 ألف، بينهم للأسف نحو 5000 من الفقهاء والقراء وأهل البصائر.
ولأن الإمام زيد عليه السلام كان يدعو الى إقامة الحق وإزالة الباطل ونُصرة المظلوم، فقد جعله هذا موضع غضب الرافضة، التي تخلّت عنه في أحلك الظروف، تماماً كما هو حادثٌ اليوم من تخلي مخزي لقائمة طويلة من قادة العرب والمسلمين عن القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني المظلوم، وصمت مخزي على جرائم تحالف صهاينة العرب في اليمن.
ويالها من مفارقة مخزية بين عبيد الدنيا وعباد الله الصالحين فبعد أن أحصى ديوان الإمام زيد عليه السلام من كتبهم 100 ألف مبايع على السمعة الطاعة، لم يخلُص منهم سوى 218 إنسان، ليواجهوا 12 ألفاً من مقاتلة الطاغية الأموي هشام بن عبدالملك، وقيل 15 ألف جبار متسلط، بينهم 2300 من رماة السهام المحترفين، استقدمهم هشام من السند، ولولاهم لما تمكن الأمويين من القضاء على الإمام.
ولم تكتفِ الرافضة بالتخلي عن الإمام وقت المواجهة، بل وأطلقت العنان لألسنتها السليطة، فنسجت الأقاصيص وقدحت في إمامته، وعدم صحة خروجه، متذرعين بحجج واهية، ولا عجب فهم مجرد صدى شائه لخوارج صفين.
الثورة:
قال جعفر بن محمد عليهما السلام: “ضاها خروج عمي زيد، خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر”.
حدد الإمام عليه السلام أول ليلة من شهر صفر لسنة 122 هـ، موعداً لإنطلاق شرارة الثورة، غير أن تخاذل الناس عنه، ونكثهم البيعة، وانكشاف أمر الثورة، وخروج الأمويين عليه، دفعه للخروج في 23 محرم 122 هـ، واستمرت الحرب الى 25 محرم 122 هـ، ونادى بشعار رسول الله في غزوة أُحد: “يا منصور أمت”، وكانت المعركة في حواري مسجد الكوفة، واحتجزت قوات بني أمية جمع غفير من أصحاب الإمام داخل جامع الكوفة، فأتاهم أحد قادة الإمام يسمى نصر بن خزيمة مع مجموعة من أصحابه، وادخلوا الرايات عليهم من طاقات المسجد، وصرخ فيهم نصر: “يا أهل الكوفة أخرجوا من ذل الدنيا إلى عز الأخرة”، لكن لا حياة لمن تنادي.
في 25 محرم 122 هـ أُصيب الإمام بسهم غادر في جبهته، فلما أتى الطبيب، قال: إذا خرج السهم، فاضت روح الإمام.
إبتسم الإمام بوجهه، وقال: أرحني.
وطلبه جيش الأمويين ميتاً، ورصدوا لمن يدل عليه جائزة ثمينة، قال الفقيه حُميد في “الحدائق الوردية”: ولما توفي عليه السلام اختلف أصحابه في دفنه، ثم اتفقوا على أن عدلوا بنهرٍ عن مجراه، ثم حفروا له ودفنوه، وأجروا الماء على ذلك الموضع، وكان معهم في تلك الليلة غلام سندي، فلما أصبح نادى منادي يوسف بن عمر: من دل على قبر زيدٍ، كان له من المال كذا وكذا، فدلهم عليه ذلك الغلام، فاستخرجوه، وحزوا رأسه ووجهوا به إلى هشام، وصلبوا جثته بالكناسة.
و”الكُناسة”، موضعٌ في سوق الكوفة مخصصٌ للقمامة، والمفارقة العجيبة تجهيز الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام جيشه في هذا الموضع وسار به الى صفين، ومن بعده جهز الإمام الحسين بن علي جيشه بذات الموضع وسار به الى كربلاء، ما يعني أن صلب الإمام زيد في هذا الموضع لم يكن صدفة، بل هو اختيار متعمد لأهداف في غاية الوضح لمن تجرد عن داء التعصب.
بعد أن وصل رأس الإمام إلى هشام بن عبدالملك، وجه بأن يُطاف به في البلدان، حتى انتهوا به إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وطاف به جنوده في مدينة رسول الله 7 أيام، وأُمر أهل المدينة أن يتبرؤوا من الإمام علي والإمام زيد عليهما السلام، وهناك من يذهب الى أخذ رأس الإمام سراً من المدينة ونقله إلى الجامع الأعظم في مصر، ودفنه هناك، ويقال أن الأنوار ترى عليه، وما نميل إليه بقائه في البقيع.
وبقي الإمام مصلوباً سنة وأشهراً، وقيل: وأياماً، وقيل: سنتين، وقيل: أربع سنين إلى أن ظهرت رايات أبي العباس بخراسان، والمؤكد بقائه مصلوباُ إلى أيام الوليد بن يزيد بن عبدالملك – تولى الحكم في نهاية سنة 125 هـ، وفي عهده خرج الإمام يحيى بن زيد عليه السلام، فأمر الوليد واليه على الكوفة يوسف بن عمر الثقفي إنزال جسد الإمام وحرقه ووضع رماده في قواصير، ونثره في مياه الفرات، وهو يقول: والله يا أهل الكوفة لأدعنّكم تأكلونه في طعامكم وتشربونه في مائكم.
ومن كراماته سلام الله عليه بعد إستشهاده تعمد طواغيت بني أمية صلبه عارياً، فسخر الله ما يمنع من كشفه عند صلبه، فكانت العنكبوت تأتي ليلاً وتنسج خيوطها على عورته، وكانوا إذا أصبحوا هتكوا نسجها بالرماح، وفي إحدى المرات أتت امرأة مؤمنة فطرحت خمارها عليه فالتاث – إلتف وإنعقد حول منطقة العورة، فصعدوا فأزالوه، فاسترخت سرته حتى غطت عورته إلى ركبته، ما ستر جميع ذلك.
ومنها: ظهور رائحة المسك منه بعد صلبه، حتى قال رجل لآخر: أهكذا توجد رائحة المصلوبين؟.
فسمعا هاتفا يقول: هكذا توجد رائحة أبناء النبيين، الذين يقضون بالحق وبه يعدلون.
ولما كثُرت الآيات حال بقائه أحرقوه، وذروه في البحر، فاجتمع في الموضع كهيئة الهلال، قال الديلمي – مؤلف كتاب القواعد: قد رأيناه، ويراه الصديق والعدو، بلا منازع.
خلود الثورة:
استشهد الإمام زيد بن علي عليهما السلام في ساحة المعركة شُجاعاً حُراً، كجده الحسين بن علي عليهما السلام، لم يرضَ بالدَنِيَّة في دينه، ولم يرضَ أن يرى الباطل يرتفع، والحق والسنة تُخفَض، والشرع يُهدَم، والظلم تقوى شوكته، ولم يرضَ بإرهاق النفوس بالاستبداد، وإمراض القلوب بالبدع.
ورغم كل ما فعله بني أمية إلا أن باطلهم باء بالخسران، فقد كانت الثورة الحسينية إيذاناً بزوال الدولة الأموية السفيانية، بينما قادت ثورة حليف القرآن إلى زوال الدولة الأموية المروانية، وما بين الثورتين 61 سنة، وما بين الثورة الحسينية وهجرة رسول الله من مكة إلى المدينة المنورة 61 سنة، وفي هذا سر عظيم.
رسم لنا الإمام زيد عليه السلام كيف نكون مضطهدين، فنثور وننتصر من أجل قضية ومبدأ وثوابت راسخة، لا تزعزعها الأعاصير، ليجسد لنا ما يجب أن يكون عليه المؤمن الرسالي، راسماً لنا بأحرفٍ من نور أروع صور التفاني والغيرة والإخلاص وحب الخير لكل الناس.
وإرتقى شهيداً من أجل أن تصلنا القيم الإسلامية الأصيلة بعيداً عن التزييف والتحريف، ونحن مطالبون اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى بالوفاء له سلام الله عليه، من خلال نُصرة الشعب الفلسطيني المظلوم، وإلإستبسال في مقارعة المطبعين والمنبطحين، ومواجهة إمبريالية هولاكو البيت الأسود وأذنابه من صهاينة العرب.
وما يريده منا اليوم هو ما حدده عند خروجه، والمفهوم منه ضرورة العودة إلى ينابيع الإسلام، وإرتشاف عوامل القوة والنصر منها، والقيام ضد مغول العصر في جزيرة العرب، ومن سار على نهجهم من المطبعين والمنبطحين والمتاجرين بالدين وقضايا الأمة المصيرية، وكسر الأسوار اليزيدية التي أحطنا بها أنفسنا، وأن نكون يداُ واحدة وصفاً واحداً، في وجه الغزاة والمحتلين، ورفع راية العزة والكرامة، ورفض الذلة والمهانة، وتوحيد لغتنا وموقفنا ضد هولاكو البيت الأسود، وكل العملاء والخونة، لنقول لهم بلسان الواثق بالله: كفاكم ظُلماً وتجبراً وطغيانا ومتاجرة بقضايا الامة وآلامها وأحلامها.
السلام على حليف القرآن، يوم وُلِد، ويوم أُستشهد، ويوم نُبش قبره، ويوم صُلب، ويوم أُحرق وذُرّ رماده الطاهر في فرات العراق، السلام على الأرواح الطاهرة التي جددت الدين، وفتحت باب الجهاد الى يوم الدين، من أجل الحفاظ على إسلامنا، دين الرحمة والسلام.
المراجع:
1 –الإمام يحيى بن الحسين الهاروني، الإفادة، دار الحكمة اليمانية، الطبعة الأولى 1996.
2 – السيد العلامة أحمد بن محمد الشرفي، اللآلئ المضيئة، الجزء الأول.
3 – السيد العلامة مجدالدين بن محمد المؤيدي، التحف شرح الزلف المؤلف، الطبعة الخامسة.
4 – علي عبدالكريم الفضيل، الزيدية نظرية وتطبيق، جمعية عمال المطابع التعاونية – عمان، الطبعة الأولى 1985.
5 – يحيى الفضيل، من هم الزيدية، جمعية عمال المطابع التعاونية – عمان، الطبعة الثالثة 1981.
6 – زيد يحيى المحبشي، وقفة تأمل في ذكرى استشهاد حليف القرآن، صحيفة الأمة، العدد 235، 4 أبريل 2002 .
حليف القرآن حروف مضيئة، الأمة، العدد 293، 18 مارس 2004 .
ثورة حليف القرآن والثورة البرتقالية، صحيفة الأمة، العدد 325 ، 10 مارس 2005 .
7 – أحمد محمد الهادي، التاريخ الإسلامي، الجزء الأول، الطبعة الثانية 2011 .