على الرغم من تطور البشرية عبر العصور على صعيد العلم والادراك والوعي وغير ذلك، إلا أن القرآن الكريم قد أنزله الله تبارك وتعالى لكل الناس وفي كل العصور. وهذه الحقيقة الساطعة تعتبر معجزة من معاجز القرآن الكبرى، حيث أن من طبيعته مخاطبة كل إنسان، مهما تفاوت مستوى استيعابه واختلف زمانه, لأن القرآن كتاب فيه ظاهر وباطن، ولباطنه بطون وكلما تضاعف علم المرء ومعرفته، كلما تعمق في القرآن أكثر.
ففي الوقت الذي يفهم الإنسان الساذج البسيط من النص القرآني شيئاً ومعنىً معيناً، نجد العالم والمثقف يفهم شيئاً مضافاً إلى ذلك وهكذا تتفاوت درجات الاستنباط حسب مستويات الناس، بل حتى لو كان الإنسان عالماً، أو كان في مستوى الإمام الرضا عليه السلام، وهو عالم آل محمد، وهو الذي علمه من علم الله سبحانه وتعالى؛ حتى لو كان كذلك، فإن الله يفتح له كل يوم باباً من علوم القرآن. وهذا المعنى قد صرح به الإمام الرضا عليه السلام نفسه في حديث شريف له.
إن القرآن الكريم الذي فيه المحكم والمتشابه ، يتحول متشابهه إلى محكم بالنسبة لمن توصل إليه، وما لم يتوصل إليه يظل متشابهاً بالنسبة له أيضاً.
ولهذا كانت قاعدة العمل بالمحكم والتسليم للمتشابه قاعدة مهمة للغاية في إطار التعامل مع القرآن، إذ أن المتتبع للآيات القرآنية كلما عمل بالمحكم وسار فيه شوطاً، كلما اُحكم له المتشابه، وتيسر له فهمه ووعيه، أي أن كتاب الله يوضح نفسه بنفسه.
ومن هذه الزاوية، كان القرآن كتاباً لكل الناس ولكل العصور والدهور، وكل فرد منهم يستفيد منه حسب مستواه وموقعه؛ تماماً كما الغيث ينزل من السماء، حيث تسيل منه الأودية بقدرها، فالوادي الواحد يستوعب بقدره هو لا بقدر الغيث، الذي يستطيع استيعاب كل الامكنة.
لما كان القرآن الكريم كتاباً ذا مرونةٍ فائقة، فإنه قد سلب من الإنسان أعذاره الواهية التي قد يرفع عقيرته بها فيهجر القرآن بداعي عدم فهمه له مثلاً، أو إيكال ذلك للعلماء والمفسرين والمثقفين فقط.
كلاً. فالقرآن كتاب الجميع، نازل من عند خالق الجميع. ويبقى من لم يفهم هذا النص القرآني أو ذاك ملزماً بإرجاعه إلى أهل الذكر من العلماء والمختصين فهم وكلاء الله على شرح كتابه للآخرين. وهذا الأُسلوب يمثل منهجاً رائعاً قد أمر به القرآن قبل غيره، لأنه كفيل بحفظ منزلته الربانية من جهة، وكفيل أيضاً بتعميم الفائدة على الجميع من جهة أُخرى فيكون عبر ذلك كما النهر ، يغرف الناس منه حسب حاجاتهم ومقدار ما يستوعبونه، دون أن يعني أن ذلك النهر يمكن اختصاره في إنسان واحد منهم، ودون أن يعني أن هذا الإنسان غير قادر على الاستفادة من النهر شيئاً.
القرآن منهاج عمل
بمجرد أن يشتري الإنسان بضاعة معينة فإنه يطالب ويبحث عن كتابٍ يشرح له بالتفصيل الكافي كيفية الاستفادة أو تشغيل هذه البضاعة والمحافظة عليها.
أمّا الله العليم الحكيم حينما خلق الوجود والحياة فقد أرسل للناس كتاباً مباركاً، علمهم فيه كيفية التعامل مع الوجود والحياة، وشرح لهم فيه سنن الحياة وسبل السلام فيها، وقد سمّى هذا الكتاب بالقرآن.
فالقرآن هو كتاب الله المكتوب والمقروء، والخليقة كلها عبارة عن كتاب الله المخلوق والكتابان ينطبقان على بعضهما كل الإنطباق.
فمن أراد معرفة الحياة والطبيعة، يجدر به أن يقرأ القرآن ويستضيء به.
أما الذين يقرؤون القرآن وراء الأبواب المغلقة، دونما ينظرون إلى ما يحيط بهم، فإنهم عاجزون عن الاستفادة من هذا القرآن.
والذين يخوضون في الطبيعة والحياة لمعرفتها وفهمها من دون كتاب وهدىً ودليل وبصيرة قرآنية، فهم بدورهم لن يعرفوها.
إنما يعرف الحياة من يقرأها ويمارسها ويعايشها ضمن كتاب الله الذي لا يضل ولا ينسى، كتاب فيه تفصيل كل شيء بما للكلمة من معنىً.
فإذا أراد الإنسان أن يعيش في الحياة بنور، فليستنر بالقرآن، ولينظر ما هو قائل له ، فإن فيه الشرح الوافي لطبيعة الإنسان والمجتمع وتطورات الحياة، وفيه الإجابات الوافية عن نواميس الكون والهدف من خلقته، وفيه أيضاً الإجابة عن السر وراء تطورات الأمم والحضارات وعلل دمارها.. كل ذلك يجده الإنسان في القرآن، وما عليه -والحال هذه- إلا أن يطبق الآيات تطبيقاً صحيحاً على الطبيعة.
ولا يغيب عنا أن القرآن كما الشمس إن تشرق على كل يوم جديد. لذا نجد إن القرآن لم ينزل على إنسان دون غيره، أو أمة دون سواها، بل أنزله الله للبشرية كافة، وهو يجري فيمن يأتي كما جرى فيمن مضى.
فلنقرأ القرآن ولنطّبق آياته على أنفسنا وعلى الناس والحوادث والمشاكل والحالات النفسية، حتى نعرف القرآن بشكل أفضل، وحتى نعرف الحياة بصورة أدق.
وقراءة القرآن دونما تطبيق، أو ممارسة الحياة دونما قرآن، ليس إلاّ هجراً للقرآن، وليس إلا تضييعاً للحياة.
القرآن كتاب حكمة
من صفات القرآن الكريم انه كتاب حكمة، ولذلك جاءت تسميته بـ (القرآن الحكيم)، لأن فيه حكمة الحياة.
فالإنسان الذي يريد أن يضمن السعادة في الدنيا والآخرة لابد ان يتمتع بالحكمة؛ أي أن يعرف كيف يعيش ومن أين جاء وإلى أين يذهب وما هي سنن الحياة التي تعني القوانين والأنظمة التي وضعها الله تبارك وتعالى لهذه الحياة والتي من خلالها يستطيع الإنسان أن يعيش الحياة الطيبة. ولذلك فقد أوضح القرآن الحكيم سنن الحياة، وهي الحقائق الكبرى التي ليس من السهل على الإنسان أن يستوعبها، لأن عقله وفكره محدودان. ثم أن جميع الناس ليسوا على مستوى واحد من الوعي والفهم، بل هم على درجات ومستويات مختلفة لذلك فإن من العجيب أن كل الناس -على اختلاف مستوياتهم الفكرية- ينتفعون من القرآن كل حسب مستواه.
فتجد في القمة رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام يقرؤون القرآن، ويزدادون بقراءته علماً، بينما أبسط الناس أيضاً ينتفع بتلاوته القرآن بحدوده.
والسّر في تلك الشمولية، الأمثال التي يكثر ذكرها في القرآن، والتي تقوم بدور الوسيط بين الحقائق الكبرى والحقائق الجزئية، أي إنها تكون جسراً بين الإنسان وبين الحقائق ولذلك فلابد لمن يقرا القرآن ويتدبر في آياته أن يتأمل تلك الأمثال ، ثم يطبقها على الحقائق المتعلقة بها.
ولا يغيب عنا أن الامثال تقوم بدور ايضاح الحقيقة، وتقريبها للفهم، وبالتالي عدم نسيانها.
ومن خلال فهم الأمثلة القرآنية، وفهم الحقائق المتصلة بها يستطيع الإنسان ان يكون حكيماً، (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)….يتبع