تنومة.. الدم المسفوح
أفق نيوز – بقلم – عبد الرحمن محمد حميد الدين
*في عام 1341هجرية – الموافق 1923م عزم أكثر من (3600) يمني على الحج إلى بيت الله الحرام – بينهم نساء، وكهول، وكبار السن – حزموا أمتعتهم المتواضعة وزادهم البسيط، وكلهم شوق لزيارة بيت الله في مكة المكرمة، وكلهم شغف لزيارة نبيهم رسول الله محمد (صلى الله عليه وعلى آله)، وكان أغلب من في القافلة لم يكُ قد حظي بالحج؛ بل كانت هذه الرحلة أول رحلة لهم في طريق الحج.
من المعلوم أن اليمنيين – كانوا ولا يزالون – من أكثر الشعوب العربية والإسلامية اهتماما بالحج وزيارة الأراضي المقدسة في مكة *والمدينة المنورة، على الرغم من كلفة الرحلة، وشحة الموارد عند معظمهم؛ نظرا للتآمر البريطاني السعودي على اليمن وعلى حكومته وشعبه في تلك المرحلة من التاريخ، ولكون اليمن لم يزل يتجشم تبعات الاحتلال التركي الذي اندحر خائبا من اليمن، مجموع هذه العوامل جعل اليمن يعاني – إلى حدٍ ما – شظف العيش، إلا أن ذلك لم يكُ حائلا بين اليمنيين وبين بيت الله الحرام، على الرغم من طول المسافة، ومشقة الطريق إلى الحج في ذلك الحين؛ فلم يكُ قد توفرت وسائل النقل الحديثة، بل كانت الوسيلة الوحيدة هي المشي على الأقدام، ومن كان يمتلك نعالا تتحمل وعورة الطريق فهو محظوظ!
مرت القافلة المؤمنة والآمنة بأمان الله وعهده، لمن حج البيت أو اعتمر، أن دماءهم معصومة في الشهر الحرام والبلد الحرام، وفي أول محطة حدودية تتبع آل سعود، وكما هو متعارف عليه في عرف الحج وعرف الحدود، أعطاهم أمير أول منطقة حدودية، الأمان والإذن بالعبور، والذي كان شقيق الملك السعودي في ذلك الحين.
لم يكُ يعلم جميعُ مَن في القافلة أن آل سعود قد أعدوا عدتهم وكشروا عن أنيابهم، وأن إشارة الأمان تلك ما هي إلا الإذن بساعة الغدر، وأن ثمة وحوش على شكل بشر تتربص بهم، لتسفك دماءهم الزكية التي لم تحظَ بالطواف، لكنها طافت بالفعل حول بيت الله مع أول قطرة دم تسقط على الأرض.
في وادي سدوان بعسير في17 من ذي القعدة عام1341هـ، وفي رابعة الظهيرة، وأثناء استراحة القافلة لأخذ قسط من الراحة، بعد ليلة طويلة من المشي على الأقدام، وبعد ساعات منهكة تحت حرارة الشمس الحارقة، وقف البعض ليتوضأ، والبعض قد سبق المجموعة التي قبله بصلاة الظهر جماعة، وبعض القافلة لا زالوا يتوافدون ليلحقوا مَن قبلهم بالصلاة، والراحة، وتناول بعض الطعام لتعتق أجسامهم النحيلة.
كانت وحوش بشرية وهابية تحمل البنادق والسكاكين، تتربص الطريق وتنتظر توقف القافلة، لتبدأ بالانقضاض عليهم؛ سعيا للنيل من دمائهم الطاهرة، والفتك بهم جميعا.
وأثناء قيام معظم القافلة بصلاة الظهر جماعة، وانشغال البعض الآخر بالطهور والوضوء، وتأخر القلة القليلة باعتبارها في آخر الركب، هجم جنود آل سعود الوهابيون من جميع الجهات على القافلة أثناء انشغالهم بالصلاة والوضوء.
تفاجأ جميع مَن في القافلة بذلك الهجوم، الذي لم يسبقه أيّ مقدمات، أو حديث، أو إنذار، إنه هجوم استخدم أسلوب قطاع الطرق في الجاهلية الأولى! وما أشبه اليوم بالبارحة!!
عند بدء الهجوم، وكما هو معروف عند اليمنيين من خصال الإيمان بالله، والثقة بالله، والشجاعة، والعزة، والأنفة، والحمية، قاوم بعض مَن في القافلة وقاتل بسلاحه البسيط، ولكن مظاهر الغدر السعودي الوهابي، والتخطيط المسبق من قبلهم، وحملهم السلاح الناري، والتعبئة التكفيرية التي أسس لها آل سعود وكهانهم الوهابيون بزعامة كبيرهم وكاهنهم محمد بن عبد الوهاب، كانت تلك مجموعة من العوامل ساعدت على التوغل في دماء القافلة الزكية، وباعتبار القافلة كانت مجرد مجموعة من الحجيج أمِنت بأمان الله، وعهد الله على القائمين على بيت الله بتأمين الحاج {فِیهِ آیَـٰتُۢ بَیِّنَـٰتࣱ مَّقَامُ إِبرَ ٰهِیمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنࣰاۗ}، فلم تكُ قافلة قتال، أو قافلة غزو، ولم يكُ لدى هذه القافلة الاستعداد المسبق، أو حتى التوقع لما لم يكُ قد حصل في تاريخ الحج حتى في الجاهلية؛ أن يُقتل حجاج بهذا العدد المهول، وبهذه الطريقة الغادرة، والحقد الدفين باستحلال الدماء!!
أكثر من ثلاثة آلاف ومائة وخمسة حاج يمني (3105) من جميع مناطق وقرى اليمن تم قتلهم وسفك دمائهم، تسع مائة (900) من أولئك الآمنين ذُبحوا ذبحا، وفُصلت رؤوسهم عن أجسادهم! ولم ينجُ من قافلة الحجاج سوى (500) فقط؛ قد يكون ادّخرهم الله ليكونوا شهودا على تلك المجزرة، ولينقلوها للأجيال؛ لعل في أصلابهم من سيطهر البيت الحرام من دنس صهاينة العرب الوهابيين وآل سعود؛ {وَمَا لَهُم أَلَّا یُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُم یَصُدُّونَ عَنِ ٱلمَسجِدِ ٱلحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَولِیَاءَهُ إِن أَولِیَاؤُهُ إِلَّا ٱلمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكثَرَهُم لَا یَعلَمُونَ}[سُورَةُ الأَنفَالِ: ٣٤].
وقد نقل المؤرخون لهذه المجزرة: بأن الحجاج عندما عبروا وادي تنومة، رصدتهم جيوش عبد العزيز آل سعود في قمم الجبال الشاهقة فوق الوادي، وهناك تمت تصفيتهم في وادي تنومة ولذلك سميت (مجزرة تنومة).
وبالرغم أن تلك الوحوش الوهابية السعودية نهبت جميع ما بحوزة القافلة من نقود، وزاد؛ إلا أنه من غير الوارد أن تكون عملية السرقة هي الهدف من تلك المجزرة؛ فمن خلال قراءة الحادثة، وما قبلها من تخطيط مسبق، وما تلاها من مراسلات ومبررات من قبل زعيمهم الملك عبد العزيز آل سعود ربيب المملكة البريطانية، والذي ساق مبرراته، وأكاذيبه، وأيمانه الفاجرة، لإمام اليمن يحي بن محمد حميد الدين، فمن خلال طريقة القتل البشعة ببشاعة مرتكبيها، وما نقله مَن نجا مِن القافلة؛ ومما نُقل وتواتر عنهم كسماعهم لأصوات حال ارتكاب المجزرة، من جميع الجهات من قبل الجنود الوهابيين تنادي بأعلى أصواتها: «اقتلوا المشركين.. اقتلوا المشركين»، جميع هذه القرائن تؤكد البعد التكفيري لارتكاب مجزرة تنومة من قبل السفاحين الوهابيين من جنود آل سعود.
وقد تواتر المؤرخون مقولة أولئك السفاحين بعد ارتكاب المجزرة بأسابيع وأشهر وهم يهنئون أنفسهم بعدد الأنفس التي سفكوا دماءها، ويُمنيهم الشيطان قولهم: «أن من قتل نفسا فله قصر في الجنة، ومن قتل نفسين فله قصرين»..!!
وقد لاقت المجزرة ردود فعل منددة من قبل المسلمين في الجزيرة العربية وبعض دول العالم الإسلامي ممن وصلهم نبأ المجزرة، رغم محدودية وسائل الإعلام في ذلك الحين. ولكن رد الفعل اليمني الرسمي في ذلك التاريخ – وللأسف الشديد – لم يرقَ إلى مستوى المجزرة مطلقا، على الرغم من أن ردة الفعل الشعبي والنخبوي كانت على أحرّ من الجمر، رغبة في الانتقام لدماء شهداء مجزرة تنومة، ولو أقسموا على الله لأبرهم. ولكن قد يكون من المحتمل أن للقيادة اليمنية في ذلك الحين نظرة أخرى، وظروف عالمية وإقليمية حالت دون عملية الانتقام والثأر لشهداء المجزرة، وتأديب الملك عبد العزيز آل سعود وجنوده التكفيريين.
رثاء بعض الشعراء لشهداء مجزرة تنومة:
– وقد رثا الحجاج الشهداء مجموعة من الشعراء، وعلى رأسهم العلامة يحيى بن محمد الإرياني – والد الرئيس اليمني الأسبق القاضي عبد الرحمن الإرياني -:
جنيت على الإسلام يا ابن سعود
جناية ذي كُفرٍ به وجحود
جناية من لم يدر ما شرعُ أحمدٍ
ولا فاز من عذب الهدى بورود
– وكذلك السيد يحيى بن على الذاري في مرثيته الحجاج بأبيات مشهورة ومنها:
ألا من لطرف فاض بالهملان
بدمعٍ على الخدين أحمرَ قانِ
بما كان في وادي تنومة ضحوةً
وما حلّ بالحجاج في سدوان
من المارقين الناكثين عن الهدى
وعن سنة مأثورة وقران
أحلوهم قتلا وسلبا وغادروا
جسومهم صرعى تُرَى بعيان
تنوشهمُ وحش الفلاة وطيرها
لعمرُك لم تسمع بذا أذنان
لذا لبس الإسلام ثوب حداده
وناح ونادت حاله بلسان
– وكتب الشاعر أحمد جبل قصيدة في رثاء شهداء المجزرة، ومنها:
يا الله الغوث بك يا وثيق الحبال
يا مسلمين كيف عاد السرور
وحجاجنا في بطون النسور
من ذاك ملحق بهم في المغول
سواك يا من عليك الصبور
فالغوث بك يا مُجيب السؤال
يا الله العون بك يا وثيق الحبال
فيا غارة الله يا أهل العقول
حجاجنا اليوم صاروا قتول
ساروا مقاتيل بتلك السهول
ألا يا مساكين وماذا نقول
كيف عاد نسلا وكيف الحلال
يا الله العون بك يا وثيق الحبال
فيا من لك الأمر والمقدرة
حاشاك ترضى بذا المنكرة
من مجرمي الفرقة الفاجرة