ثرواتها تضيء دول الحضارة الغربية وشعبها يعاني الفقر والاستعباد.. ما وراء الهجمة الأمريكية الفرنسية والغربية على النيجر؟؟
أفق نيوز – تقرير – محمد الجبلي
باتت قضية النيجر تتصدر اليوم محركات البحث وعناوين الأخبار منذ يوليو، بعد الإطاحة بالسلطة العميلة لفرنسا من قبل المجلس العسكري الذي أطاح بالحكومة والرئيس التابعين لفرنسا والغرب وأمريكا، صعدت فرنسا ودول الغرب والإدارة الأمريكية من تهديداتها على النيجر، وأصدرت حزمة من القرارات التي هدفت من خلالها إلى حصار النيجر وعزله.
فماذا يحدث في ذلك البلد الإفريقي الذي يتمتع بثروات هائلة، ويعيش أبناؤه في فقر مدقع؟
ثورة شبه عسكرية
في السادس والعشرين من يوليو استيقظ العالم على أخبار الإطاحة برئيس النيجر محمد بازوم، وحكومته، خطوة نفذها مجلس عسكري بقيادة الحرس الرئاسي وتأييد الجيش في النيجر.
لم تتردد فرنسا والدول الغربية وأمريكا في إطلاق تهديدات عسكرية بالحرب على من تسميهم الانقلابون، والذين حصلوا على تأييد شعبي كبير، الضغوط والتهديدات الغربية والأمريكية لم تتوقف، وهو ما شكل مدعاة إلى التساؤل عن الأسباب الكامنة خلف ذلك.
النيجر بلد هو الأكبر في غرب إفريقيا، تبلغ مساحته 1,267,000 كم²، وتعداد سكانه 24.4 مليون نسمة، ويعيش اثنان من كل خمسة أشخاص في فقر مدقع، بأقل من نحو دولارين في اليوم، رغم أن النيجر تعد سابع أكبر دول العالم المنتجة لليورانيوم، فضلا عن إنتاج الوقود الحيوي للطاقة النووية الذي يذهب ربعه إلى أوروبا، لا سيما فرنسا، القوة الاستعمارية في أفريقيا، والتي تمتلك قاعدة عسكرية على أرض النيجر، إلى جانب قواعد أمريكية.
الهجمة الفرنسية المستعرة على النيجر، والأمريكية أيضاً، الهدف من ورائها هو استمرار تدفق اليورانيوم والذهب إلى فرنسا وأوروبا وأمريكا، فقد أعلن المجلس العسكري بمجرد امتلاكه زمام الأمور عن وقف تصدير اليورانيوم والذهب إلى فرنسا.
يشكل اليورانيوم النيجري ما يُطلق عليه كثيرون «الكعك الأصفر» الذي من شأنه أن ينتشل البلاد من مأزقها الاقتصادي، لكن طيلة السنوات الماضية لم يتحقق ذلك لأن هذه الثروات تنهبها فرنسا ومنظومة الغرب الناهبة، لا تزال عجلة التنمية متعثرة ويستمر الوضع الاقتصادي في التردي، بسبب سرقة الغرب لثروات البلد الإفريقي.
واليورانيوم يستخدم في توليد الكهرباء من الطاقة النووية، وتعد النيجر من أكبر موردي هذه المادة إلى أوروبا وفرنسا على وجه الخصوص، وتستعمل دول القارة العجوز اليورانيوم في علاجات السرطان، وللدفع البحري، وفي الأسلحة النووية.
وبحسب أرقام رسمية نشرتها الرابطة النووية العالمية، فإن النيجر زودت دول التكتل الأوروبي بنحو 25 في المئة من إمدادات اليورانيوم، وأنتجت البلاد عام 2022 نحو خمسة في المئة من إنتاج التعدين العالمي.
وتدير الشركة الفرنسية المثيرة للجدل «أورانو» مع قرينتها «سومير» المملوكة للنيجر أنشطة استخراج واستكشاف اليورانيوم في البلاد، وتقع معظم المناجم والمواقع بالقرب من مدينة أرليت، في عدة مناجم أبرزها منجم «أكوتا لليورانيوم»، غرب أرليت الذي ينتج نحو 75 ألف طن من اليورانيوم منذ عام 1978 قبل أن يتم إغلاقه في مارس عام 2021 بسبب نفاد احتياطاته من الخام.
كما ساهم التنقيب عن الذهب، في تنويع عائدات البلاد ويمكن أن يتجاوز اليورانيوم في غضون سنوات قليلة، وفق موقع وزارة الاقتصاد الفرنسية، ومنذ ديسمبر 2011، أصبحت النيجر منتجا للنفط أيضا، حيث ينتج حقل أغادم الذي تديره الشركية الصينية CNPC نحو 20 ألف برميل يوميا؛ وهو ما يتوافق مع السعة الاستيعابية القصوى للمصفاة المحلية (صوراز التي تديرها ذات الشركة الصينية، والنيجر).
- حضارة همجية تقتات على ثروات الأفارقة
مع وصول الأوروبيين إلى أفريقيا، كانت القارة السمراء مجرد قبائل وممالك ركيكة ومشتتة يسيطر عليها الشعور بالنقص والكسل وكانت قرى متباعدة، منها في الأدغال ومنها في الساحل والصحراء، بينما كان الغرب في تلك المرحلة أيضاً في نزاعات لكنهم تحت ممالك قوية عسكرياً، فكانوا بحاجة إلى طرق لتمويل الجيوش وأيضاً إلى عمال في الزراعة.
بمجرد أن استخرجوا الحديد وصنعوا السفن التي تعمل بالفحم نتيجة الحاجة إليها خلال الحروب الطاحنة بينهم اتجهوا لجلب الموارد واحتلال البلدان الأخرى إما بالقوة وقوة السلاح الذي لديهم وإما بشراء الحكام.
قبل سبعة قرون، حين احتلت البرتغال مدينة سبتة المغربية عام 1415.وعلى مدى أكثر من أربعة قرون كانت تجارة الرقيق المهنة الأساسية التي امتهنتها الدول الأروربية فيما يتعلق بالقارة السمراء.
المؤرخ الغربي هوراد فرينش، وكاتب رأي لدى مجلة Foreign Policy وأستاذ في كلية الدراسات العليا للصحافة بجامعة كولومبيا الأمريكية، وهو متخصص في مجال التاريخ الإفريقي، ذكر في كتابه (ميلاد في سواد: إفريقيا والأفارقة وبناء العالم الحديث من عام 1471 وحتى الحرب العالمية الثانية). فصلاً واحداً من فصول ما نهبته أوروبا من إفريقيا، وهو فصل الديموغرافيا، أو استنزاف أعداد هائلة من أهل إفريقيا لغرض توفير عمالة مُولِّدة للثروة في إطار العبودية للغرب، وتأثير ذلك على القارة السمراء.
الحساب النهائي لتلك المرحلة ما زال صعباً . لكن ما هو معلوم بالفعل يُوضِّح بما فيه الكفاية أنَّ إفريقيا كانت تتعرَّض لصدمة من الناحية الديموغرافية، في نفس الوقت الذي كانت أوروبا بصدد الشروع في بناء «الحضارة الغربية».
ذكر المؤلف أرقاما أقل بكثير من طبيعة الواقع في تلك المرحلة، يقول: ما نعلمه هو أنَّ قرابة 12.5 مليون إفريقي قد شُحِنوا مُقيَّدين بالسلاسل عبر المحيط الأطلسي إلى الأمريكتين، وكان مصيرهم جميعاً تقريباً العمل في المزارع. اختير أولئك الناس بالتحديد لأنَّهم كانوا في أوج حياتهم البدنية والإنجابية، وقد خسرت إفريقيا عملهم وعمل نسلهم المحتمل على نحو لا رجعة فيه، ما فرض شكلاً لم يُعترَف به بعد من الإفقار الجماعي.
ولم يضف تلك الأعداد من الناس الذين قُتِلوا في الفوضى، التي أطلقها الأوروبيون عمداً في إفريقيا من أجل الإبقاء على حركة الاتجار بالبشر قوية، وكذلك الإبقاء على معدلات الوفيات الرهيبة على متن المقابر العائمة التي كانت تُمثِّلها سفن العبيد. فوفقاً لأحد التقديرات، التي استشهدتُ بها في كتابي، فإنَّ 42% فقط من الأفارقة الذين وقعوا في شَرَك هذا الاتجار العابر للقارات في البشر، ظلوا على قيد الحياة بما يكفي لبيعهم في العالم الجديد.
ويضيف: إذا افترضنا إذاً أنَّ خسارة إفريقيا تُقدَّر بـ25 مليون شخص خلال هذه العملية، فلا يمكن فهم جسامة هذا الرقم إلا بالنظر إلى تقديرات إجمالي سكان القارة خلال ذروة حقبة تجارة الرق. وتتأرجح التقديرات هنا حول رقم 100 مليون نسمة في القرن الثامن عشر.»
– كلنا يعلم أو مطلع على نوعية الأساليب التي استخدمها المحتلون الأوروبيون لأمريكا في تعاملهم مع العبيد، لنا أن نتخيل ملايين البشر يعملون بلا مقابل خلال عدة عقود، وبعد القرون الطويلة من تجارة العبيد، التي شاركت فيها جميع الأعراق الأوروبية وأدت إلى تفريغ أجزاء واسعة من القارة السمراء من سكانها، وبنت بهم اقتصادات قوية بسواعد الأفارقة.
أتت الثورة الصناعية، وما تطلبته الحاجة إلى موارد طبيعية لتصنيعها وإعادة تصديرها إلى الأسواق العالمية، لتحقيق الأرباح الهائلة لاستمرار عجلة التفوق الأبيض، فقام الغرب باستغلال أراضي قارة أفريقيا، وَفْقاً للاحتياجات الأوروبية الجديدة بعد الثورة الصناعية التي كانت تتطلب الحصول على المواد الخام، وعمالة رخيصة، وسوق لتصريف المنتجات الصناعية، وسعت الدول الاستعمارية إلى تقسيم القارة كمناطق نفوذ واستغلال واحتلال.
في البداية ركز الغرب تواجده في المناطق الشمالية وبعض المناطق الغربية الساحلية، هذا التوغل برغم توفر الصناعة إلا أنه ركز أيضاً على جمع أكبر قدر ممكن من العبيد وشحنهم في السفن لإعمار أوروبا وإنجلترا وأمريكا.
– فرنسا الناهبة
سياسة فرنسا الاستعمارية بدأت في القارة السمراء كما تشير المصادر مع البدايات الأولى للثورة الصناعية في أوروبا في القرن 16م رغبة منها في إيجاد موارد أولية لبناء اقتصاد قوي وتنافسي قادر على مقارعة بريطانيا وهولندا وإسبانيا والبرتغال في إطار سياسة تلك القوى الاستعمارية لتقوية جيوشها وتنويع مصادر دخلها القومي. تقول المصادر أن فرنسا بدأت حملتها الاستعمارية الحديثة على إفريقيا سنة 1524 م، واستطاعت احتلال حوالي 20 دولة إفريقية دفعة واحدة، لأن تلك الدول كانت عبارة عن مجموعة من القبائل البدائية في عاداتها وتقاليدها وأسلحتها، ولا تستطيع الوقوف في وجه الجيش الفرنسي الذي كان عبارة عن جيش إمبراطوري منظم ويمتلك أسلحة متطورة آنذاك، والتي لم يرها الأفارقة من قبل، واستمرت فرنسا في حكم حوالي 35 بالمائة من مساحة القارة لمدة 3 قرون تقريباً.
وقد استخدمت فرنسا طوال تلك الفترة دولاً مثل السينغال وساحل العاج لسنوات طويلة كمراكز لشحن العبيد إلى أوروبا، كما أنها قامت باستغلال موارد تلك الدول أبشع استغلال، وخاصة مناجم الذهب والألماس والأحجار الكريمة، بالإضافة إلى الفحم والحديد
– وكانت بريطانيا أكبر الدول وحشية وأكثرها قساوة مع العبيد حتى في وقت شحنهم في السفن، وكان لتلك الدول معايير لاختيار العبيد بعد إجراء فحوصات طبية والتأكد من البنية الجسدية، وحرصت على أن يكون العبد ثروة للربح.. وهذا كان اشتراط رئيسي مع من تتعاقد معهم الدول في القارة أخذ هذه المعايير في الاعتبار.
– ولضمان بقائهم في مستعمراتهم «استعمل الفرنسيون والبرتغاليون والألمان والبلجيكيون نوعًا من الإدارة شديدة المركزية والتي أُطلق عليها اسم الحكم المباشر». حكم البريطانيون الأراضي التي استعمروها من خلال تحديد القوى المحلية وتشجيعهم أو إجبارهم على الحكم تبعًا لأهواء الإمبراطورية البريطانية، وقد عُرف هذا النوع بالحكم غير المباشر.
حكمت فرنسا مستعمراتها في إفريقيا من عاصمتها باريس، وعيَّنت الزعماء على نحو فردي وعلى أساس ولائهم لفرنسا دون مراعاة المعايير التقليدية. أسست فرنسا مستعمرتين فدراليتين كبيرتين في أفريقيا وهما غرب إفريقيا الفرنسي وإفريقيا الاستوائية الفرنسية. عيّنت فرنسا المسؤولين ومررت القوانين وكان عليها أن توافق على جميع التدابير المتخذة من قبل المجالس الاستعمارية.
عارضت المجاميع المحلية في شرق أفريقيا السلوك الألماني في العمالة القسرية والضرائب المفروضة من قبل السلطة الألمانية. كاد أن يخرج الألمان من المنطقة في عام 1888 بعد ثورة سماها المؤرخون بثورة أبوشيري. وكانت المراكز الإدارية المحلية في الواقع أكثر بقليل من سلسلة من الحصون العسكرية الصغيرة». في عام 1905، تفاجأ الألمان باندلاع انتفاضة ذات تأييد واسع. نجحت هذه الانتفاضة في بادئ الأمر، مع ذلك، فقد قُمعت هذه الثورة خلال سنة واحدة عن طريق تعزيز الجنود المسلحين ببنادق رشاشة. جوبهت المحاولات الألمانية للاستحواذ على جنوب غرب أفريقيا بمعارضة متقدة، والتي قُمعت بطرق في غاية الوحشية.
المصادر التاريخية ذكرت أنه في عام 1877، قام ليوبولد الثاني، ملك بلجيكا، بتأسيس المنظمة الإفريقية العالمية تحت بنود إنسانية في ظاهرها. إلى أن تبين أن ملك بلجيكا قام باحتلال الكونغو، والتي كانت مساحتها الشاسعة تبلغ أكثر من 10 أضعاف مساحة بلجيكا نفسها.
لم يدم منفرداً بالكونغو طويلاً فإمبراطوريات فرنسا وبريطانيا والبرتغال، تحركت وزاحمت بلجيكا، ليدخلوا جميعاً في سباق محموم لاستباحة الكونغو وسرقة خيراتها.
ألمانيا سارعت باحتلال أجزاء واسعة من غرب إفريقيا، في أبريل 1884، وأعلنت «حمايتها» على أجزاء أخرى من القارة، وعلى رأسها الكاميرون، الأمر الذي أثار فزع ومخاوف إنجلترا، نتيجة لمزاحمة ألمانيا القوية لها بعد فرنسا. وهكذا بدأت في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر موجة جديدة من «النهب الأوروبي»، تجتاح القارة الإفريقية، التي صارت نهباً مستباحاً وكأنها أرض «بلا صاحب».
– صراع الأوروبيون على أرض غيرهم والتصادم الشديد فيما بينهم على نهب وسرقة القارة، أدى في الأخير إلى تفاهم على تقاسم وتقطيع أفريقيا في مؤتمر برلين، حيث اجتمعت تلك القوى بدعوة من الزعيم الألماني بسمارك، في «مؤتمر برلين»، الذي استمر لمدة 100 يوم كاملة، بحسب بعض التقارير والوثائق المعلنة وهو ما يعكس حجم الخلافات بينهم على تقاسم الغنيمة.
– معالجة ظاهرة العبودية وتجارة العبيد لم تكن على طاولة المؤتمر، وكان الهدف الرئيسي ضمان عدم التصادم ومنح الشرعية للسيطرة السياسية والعسكرية والاقتصادية .
«أعطت القوى الكبرى في برلين نفسها تفويضاً مطلقاً للغزو العسكري. فسرعان ما هزمت فرنسا بعد ذلك داهومي (1893)، وهزمت بريطانيا بنين (1897) ومملكة أشانتي (1895-1900). اتسمت هذه الحروب بسرقة كنوز السكان الأصليين، والاستخدام واسع النطاق للمدافع الرشاشة للمرة الأولى.
وكلَّفت الحملات العقابية الألمانية ضد ثورة الماجي في تنجانيقا، في الفترة من 1905 وحتى 1907، أرواح 120 ألف إفريقي بحسب بعض الإحصائيات.
وقامت القوات الألمانية في جنوب غرب إفريقيا (وهي حالياً ناميبيا المستقلة) بإبادة قبيلتي هيريرو وهوتنتوت.
وفي دولة الكونغو الحرة، الخاصة بالملك ليوبولد، قُطِعَت أذرع الأفارقة الذين رفضوا العمل بالسخرة في «بساتين المطاط»، هذا جزء مما كتبته بريندا غايل بلامر، أستاذة التاريخ في جماعة ويسكونسون الأمريكية.
– سرقة الآثار والمعالم
تقول صحيفة الغارديان البريطانية في تقريرها إن «تأسيس العالم المعاصر والمترابط ينسب الفضل فيه إلى الأوروبيين بصفتهم الرواد، لكن إفريقيا كانت البذرة والأساس في كل ما تحقق، وكان الثمن باهظاً من جثث الأفارقة أنفسهم».
فما هو الثمن ؟
– قبيلة هوتنتوت لحالها تعرضت لأبشع المجازر من قبل الملك ليوبولد، الذي استخدم البارود والمدافع وقتل بحسب اغلب المصادر أكثر من 10 ملايين أفريقي أجل جعل بلجيكا دولة غنية وذات سيادة خارجية.
– وأضاف الكتاب هوارد فرينش، « لو كان ذلك الوضع استمر دون مقاطعة من الاستعمار الأوروبي، لكان بإمكان المرء أن يتخيل إفريقيا مختلفة تماماً اليوم: ليست قارة مؤلفة من 54 بلداً مُصمَّمة خارجياً وحدودها مُرسَّمة تعسفياً، ليكون العديد منها بلداناً صغيرة أو حبيسة. بإمكان المرء أيضاً أن يتخيل قارة تعاني اختلالاً وظيفياً سياسياً أقل بكثير، لأنَّ شعوب إفريقيا كان من الممكن أن تُمنَح المجال لتشكيل وتعميق مناهجها الخاصة في الترتيبات المؤسسية للحكم».
يُشير الكاتب إلى شعور بعض الدول الأوروبية بالاعتزاز بالنفس بعد استحواذها على أراضٍ أكبر من مساحة دولها. يُشير أيضًا إلى مساهمة الإفريقيين في القتال إلى جانب القوى العظمى؛ إذ قاتل مليون شخصٍ من أصل إفريقي إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الأولى وقاتل مليونا شخص منهم في الحرب العالمية الثانية.
انتهج الغربيون في احتلالهم سياسة التقسيم وإخماد أي فكره تسعى لبناء دولة قوية بمؤسسات رسمية، كما سعوا لتنصيب ولاة تابعين لهم لحماية مصالحهم، وكانت المستعمرات جزء من امبروطورياتهم، ( بحسب معظم ما تتداوله الوسائل الإعلامية والكتب التاريخية).
وحتى بعدما نالت هذه الدول استقلالها بقيت فرنسا الاستعمارية الوصية عليها عن طريق حكامها الذين نصبتهم على هذه الدول، والذين عملوا على ضمان أن تبقى ثروات دولهم وخيراتها في خدمة فرنسا.
ولكن بالرغم من أن أهداف فرنسا الحقيقية والغير معلنة تتمثل في إعادة انتشارها العسكري في هذه المنطقة المهمة من الناحية الجيو استراتيجية من الناحيتين السيّاسية والأمنية، لضمان مصالحها في المنطقة إلاّ أنها ارتكبت ولا تزال العديد من الجرائم بحق المدنيين العزل، إذ راح ضحية القصف العشوائي لطائراتها الحربية المئات من المواطنين في كل من مالي والنيجر ودول السّاحل الإفريقي.
– فرنسا القاتل الوحشي
كان من أشد من مارس العنف والاستبداد من القوى الأوروبية فرنسا التي استعمرت شمال إفريقيا المغربَ والجزائر وتونس، وغرب إفريقيا السنغالَ وساحل العاج ومالي وغينيا، وكذلك إفريقيا الاستوائية.
ففي الجزائر عام 1945مارست فرنسا أبشع أنواع القتل ضد الشعب الجزائري نتيجة قيام الثوار الجزائريين بالمظاهرات لأجل الاستقلال بعد أن وعدتهم فرنسا بالاستقلال إن مال النصر إلى جانب دول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. ناهيك عن المجازر التي ارتكبتها منذ بداية الاستعمار والتي يقدر عدد ضحايا فرنسا الذين شملهم الإحصاء بأكثر من مليون شهيد.
ورداً على تلك المظاهرات قتّل الفرنسيون وأبادوا ودمروا قرى بأكملها، وأسفرت هذه المجزرة عن مقتل ما يتراوح ما بين 50 ألف – 70 ألف شهيد وفقاً لما ذكره المؤرخون أنفسهم.
كما أن التجارب النووية الفرنسية في صحاري الجزائر تعد من أفظع الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في الجزائر، فقد أسفرت عن مقتل آلاف من سكان تلك المنطقة فضلاً عن آثارها الوخيمة التي لم يزل يعاني منها الجزائريون إلى اليوم.
جرائم فرنسا في القارة الأفريقية لم تقتصر على البشرة السوداء، فنابليون ارتكب مجازر بشعة في مصر وسوريا وغيرها من دول البحر المتوسط.
أما في رواندا فساهمت فرنسا في الإبادة الجماعية بحق ما تسمى إثنية التوتسي عام 1994، وهي من أكبر عمليات الإبادة إذ سقط أكثر من 800 ألف قتيل، وفي مالي قرر الرئيس المالي كيتا عام 1962 التخلص من عملة الاستعمار الفرنسي، فدبروا له انقلاباً عسكرياً في عام 1968.
كما أن فرنسا المسؤولة عن اغتيال أكثر من 130 زعيم أفريقيا، وذلك بحسب ما نشرته وسائل إعلام فرنسية وتداولته بعض الوسائل الإعلامية، يقال إن فرنسا هي الدولة الوحيدة التي تعتمد بشكل كلي على مستعمراتها.
فحديد أشهر معالم فرنسا برج إيفل مسروق من الجزائر، والكهرباء التي تعتمد عليها فرنسا مأخوذة من اليورانيوم الموجود في النيجر.
ووقودها من بترول الدول الأفريقية، والمواد الخام من الذهب وغيره من موارد مالي، والألماس الذي تحتفظ به فرنسا من دولة غينيا، ونسيج القطن الفرنسي كله مسروق من السنغال.
بي بي سي البريطانية نشرت تقريراً مطولاً عن العلاقة الفرنسية الاستعمارية في القارة السمراء، جاء فيه، إن العلاقة بين الانقلابات والقوى الاستعمارية السابقة كانت أقل شيوعا بكثير في العهود السابقة. البلدان التي شهدت أكبر عدد من الانقلابات منذ 1952، هي نيجيريا 8 وغانا 10، وسيراليون 10، والسودان 17، كلها خضعت للاستعمار البريطاني، وهذا ما فعله الاحتلال البريطاني أيضا. فما الذي يميز الدور الفرنسي، في أفريقيا إلى درجة أن منتقديها يتهمونها بالتدخل في اقتصاديات وسياسات مستعمراتها السابقة.
لا تزال سبع دول في غرب أفريقيا من أصل تسع، تستعمل الفرنك الأفريقي، المرتبط باليورو، بضمان فرنسي، وهو دليل على التأثير الاقتصادي الفرنسي في المستعمرات السابقة، صاغت فرنسا لنفسها أيضا اتفاقيات عسكرية مع الدول الأفريقية استغلتها للتدخل عسكريا في هذه الدول من أجل إبقاء القادة المغضوب عليهم شعبيا في الحكم.
كما أنها صنعت الجماعات التكفيرية والقاعدة لتبرير تواجدها العسكري في تلك الدول، وعمدت فرنسا إلى تنصيب القادة الفاسدين، بحيث أصبحت العلاقة بين السياسيين الفرنسيين وحلفائهم في أفريقيا تتميز بالفساد. وهو ما أدى إلى تشكيل نخبة أفريقية ثرية تتحكم في السلطة، على حساب الشعوب الأفريقية.
ووضع الخبير الاقتصادي الفرنسي البارز، فرانسوا إكزافيي فيرشاف، مصطلح «فرانسافريك» مشيرا إلى العلاقة الاستعمارية الجديدة التي تختفي وراء «الإجرام السري في الدوائر السياسية والاقتصادية الفرنسية العليا». ويزعم أن هذه الروابط أدت إلى «اختلاس» مبالغ مالية كبيرة.
وعليه فليس غريبا أن يقول أحد المواطنين من النيجر لبي بي سي: «منذ نعومة أظافري وأنا معاد لفرنسا. فقد استغلوا كل ثروات بلادي، مثل اليورانيوم والنفط والذهب»، وفقاً لتقرير وكالة بي بي سي البريطانية.
لم ترفع فرنسا يدها عن أفريقيا حتى بعد منح الاستقلال، وقد أجبرت ما يقارب ثلاث عشرة دولة أفريقية على دفع الأتاوة مقابل البنية التحتية التي أقامتها فرنسا فيها خلال استعمارها، كما أجبرتهم على استخدام العملة الفرنسية في المستعمرات (فرنك إفريقي).
«بالرغم من جلاء الاستعمار الفرنسي عن الكثير من الدول في القارة السمراء إلاّ أن هناك 14 دولة أفريقية ملزمة عن طريق اتفاق استعماري على وضع ما يقارب 85 بالمائة من احتياطاتها الأجنبية في البنك المركزي الفرنسي تحت سيطرة الوزير الفرنسي للرقابة المالية، وحتى الآن توجد حوالي 13 دولة أخرى ملزمة بدفع ديون تلك الفترة الاستعمارية، ومن يرفض من رؤساء تلك الدول ذلك يتم اغتيالهم أو يصبحون ضحايا لانقلابات عسكرية مدبرة من طرف المخابرات الفرنسية.
بينما أولئك الذين يطيعون الأوامر فيكافأون ويُدعمون من طرف فرنسا، ويعيشون حياة رغدة ومرفهة بينما شعوبهم تعيش في بؤس وشقاء وفقر مدقع، فهذا النظام الاستعماري وضع ما يقارب 500 مليار دولار في خزانة الدولة الفرنسية من مستعمراتها الأفريقية عاماً تلوى الآخر، مثلما ذكر موقع البيان بتاريخ 3 يوليو 2015م في مقال بعنوان “14 دولة أفريقية مازالت تدفع ضرائب استعمارية لفرنسا”.
بالإضافة إلى كل هذه الجرائم الإنسانية والتاريخية والاقتصادية وحتىّ الثقافية، لم تكتف فرنسا بمجرد محو ذاكرة وتاريخ ولغات وثقافات هذه الدول والشعوب الأفريقية، بل قامت بفرض اللغة الفرنسية عليها كلغة رسمية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، حيث من بين 31 دولة ناطقة باللغة الفرنسية هناك 27 دولة أفريقية من أصل 54 تتخذ اللغة الفرنسية كلغة رسمية أولى.
– مع العلم أن أكبر دولة ناطقة باللغة الفرنسية ليست فرنسا بل جمهورية الكونغو الديمقراطية والتي بلغ عد سكانها 90 مليون نسمة وفقاً لمعطيات 2020م.
– المراقبون للوضع في أفريقيا يرون أن فرنسا لن تتخلى عن نفوذها التاريخي في القارة السمراء بسهولة، لصالح قوى أخرى منافسة لها كروسيا والصين وستفعل المستحيل من أجل استدامة سيطرتها على حديقتها الخلفية، التي هي السَبب الرئيسي في كل ما وصلت إليه فرنسا من تقدم وازدهار ورقي، وفي المقابل ففرنسا وبقية الدول الاستعمارية مسؤولة عما وصل إليه الوضع في أفريقيا من تدني ومجاعة وحروب وفقر وبطالة واستبعاد وإذلال.
حقل تجارب
القسوة الغربية وصلت منتهاها، حتى في ظل التشدق بحمل شعارات إنسانية وفي ظل وجود منظمة أممية هناك من الجرائم ماهي أفظع ما زالت ترتكب إلى اليوم، وقد اتخذ الغرب من أفريقيا مساحة حرة لتجريب جميع الأسلحة الكيميائية والبيولوجية وهناك آلاف المختبرات التي تهتم بصناعة وتعديل الجينات الوراثية للفيروسات، كما أن سكان تلك المنطقة يتم اتخاذهم كفئران تجارب.
إضافة إلى ذلك نجحت المنظمات في تحقيق انتصارات لن تحققها الحروب، فنشرت الفساد، وواجهت أي توجه نحو الزراعة بتقديم المساعدات، فأصبح السكان لا يأكلون إلا من خبز المنظمات، كما ساهمت في التشجيع على الفساد المالي والإداري والأخلاقي.
كما أن الغرب وراء قتل الملايين في جميع أنحاء أفريقيا السمراء عن طريق نشر الأمراض والفيروسات، إضافة إلى ذلك جعلوا من الإنسان الأسود مجرما عن طريق تشجيعه على زراعة وتهريب المخدرات عوضاً عن مسخه أولا وجعله متقبلا لأي عمل يحصل من خلاله على المال، جرائم لا تنسى، وستظل حتى تحدث صحوة لاستعادة الحق وتغريم المجرم والناهب عن ماضيه وحاضره في هذه القارة.
صحوة أفريقية
وتشير الإحصائيات إلى أن نسبة 78 من الانقلابات، التي حصلت في أفريقيا جنوب الصحراء، منذ التسعينات وعددها 27 انقلابا، حصلت في دول فرنكوفونية. أي مستعمرات فرنسا، فقد تنامى العداء لفرنسا في بوركينا فاسو، إذ أنهت السلطة العسكرية هناك، في فبراير، اتفاقا قديما، يسمح للقوات الفرنسية بالعمل في البلاد، وأمهلت فرنسا شهرا لإجلاء قواتها.
وفي النيجر، التي تجاور البلدين، اعتبر رواد التغيير أن رئيس البلاد أصبح دمية تخدم مصالح فرنسا، وألغت السلطة العسكرية بقيادة العميد، عبد الرحمن تياني، خمس اتفاقيات عسكرية مع فرنسا.. وتعرضت سفارة فرنسا في النيجر لهجمات من متظاهرين مؤيدين للعسكر.
مع كل هذا التاريخ الأسود يتم تصوير ما فعله الغربيون في أفريقيا على أنه «تنوير»، وتُسهم جميع أوجه الثقافة والتعليم والسينما الغربية في تكريس تلك الصورة الزائفة، ومع ذلك يعلمون أجيالهم في المناهج بتفوق العرق والبشرة، وفوق ذلك يقدموا المبررات لأنفسهم كتنويريين والأفارقة متخلفين وعنصر وجد ليخدم فقط.
لذلك نهبوا ثرواتهم، واستعبدوهم ونشروا الفساد والرذيلة وجعلوا من المواطن الأفريقي متسول وكسول وتحت رحمة المنظمات، حتى أن المواطن الأفريقي الذي يعيش على بحر من الثروات لا يسمح له بالعمل أو الاستفادة من أرضه والحال يمارس على الدول.
حتى أن قادة الدول الاستعمارية حتى الآن لم يعترفوا بجرائم أسلافهم ولم يرفعوا أيديهم ويتركوا لهذه الشعوب سبيلها، حتى مع وجود منظمات تحب أن يطلق عليها بالإنسانية وفي ظل أمم متحدة إلا أنها مجرد نفاق وشعارات، فما زالت أمريكا التي بنيت على أكتاف الأفارقة وازدهرت من تجارة العبيد تتبنى نهج العرق والعنصرية.
الجدير بالذكر أن للعدو الصهيوني نفوذاً واسعا في جميع دول القارة السمراء، كما أنه وراء تقسيم بعض البلدان كالسودان وإثارة الحروب على الحدود، كما أن نصيبه وفير من الثروة وأيضاً من التجارب وتغذية الصراعات.
بعد كل هذه الجرائم التي مارستها القوى الغربية بحق الأفارقة وما زالت، لنا أن نتخيل ماذا لو استيقظ الأفارقة وشعروا أنهم أسياد وليسوا عبيدا، هذا ما تخشاه أمريكا وفرنسا ومنظومة الغرب الناهبة.