طبع العملة المعدنية! .. وأسباب التحول إلى قاعدة الذهب !
أفق نيوز | عبدالرحمن هاشم اللاحجي
أعلن البنك المركزي اليمني (صنعاء) عصر الاحد الماضي عن قيامه بضخ عملة معدنية جديدة إلى الاقتصاد اليمني كبديل عن العملة الورقية التالفة فئة (100) ريال يمني.
أثارت تلك الخطوة السيادية المفاجئة حفيظة السواد الأعظم من الناشطين، والمثقفين، والمحللين الاقتصاديين، وقادة الرأي العام أفراداً وجماعات؛ فتنوعت الآراء ما بين مؤيدة، ومعارضة، ومحذرة وكأن اليمن مُقبلة على كارثة اقتصادية لا يُحمد عقباها.
يتفق معظم الخبراء الاقتصاديين على أن طباعة عملة بديلة لن يؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية لوحدة النقد المحلية، وارتفاع الأسعار؛ وذلك لكون القاعدة النقدية، والعرض النقدي ثابتين، كما أن معدل دوران النقود يتأثر بعوامل أخرى غير استبدال العملات بأنواعها: “المعدنية، الورقية، الالكترونية”.
بالتالي فإن غاية ما يمكن أن تُحدثه عملية الاستبدال هو تسهيل التبادلات التجارية بين الأفراد، والحفاظ عليهم من الأوبئة المصاحبة للنقود الورقية التالفة.
دعوني من فضلكم وقبل الحديث عن الأسباب الجوهرية المتعلقة بالتحول الاستراتيجي إلى قاعدة الذهب أن أستعرض معكم التطور التاريخي الذي حدث للنقود خلال المائة سنة الماضية إذ يُعتبر هذا التناول مهماً لسببين: الأول:
من أجل التعرف على القواعد النقدية التي سادت اقتصاديات دول العالم، والعوامل التي أدت إلى تغييرها، والانعكاسات المباشرة التي أحدثها هذا التغيير على الاقتصاد الدولي، وكذا حقيقة المؤامرة التي حدثت بعد إنتصار دول الحلفاء في الحربين العالميتين الإولى، والثانية. الثاني: من أجل التوصل إلى القاعدة النقدية الأنسب للاقتصاد اليمني المقاوم.
فالاقتصاد اليمني بحاجة إلى قاعدة نقدية متينة تتناسب مع خصوصيته وواقعه الحالي خصوصاً في ظل النوايا المبيتة لدى النظام العالمي الحالي لتدميره، والقضاء عليه. حتى ما قبل ثلاثينات القرن الماضي كانت قاعدة الذهب هي القاعدة النقدية السائدة في اقتصاديات جميع دول العالم بلا استثناء. المبادلات التجارية، والتسويات المتعلقة بها سواء في ميزان المدفوعات أو بين الأفراد، والشركات المختلفة كانت تتم بواسطة المعدن النفيس (الذهب والفضة). نتيجة لذلك لم تظهر أية مشاكل اقتصادية إذ كانت كمية العمل المبذولة في التنقيب عن المعدن، وتنقيته، وصكه توازي كمية العمل المبذولة على إنتاج أية سلعة أخرى وبالتالي فان التوازنات الآلية في الاقتصاد كانت تتم مباشرة، وبدون الحاجة حتى إلى التدخلات من قبل الدولة لإحداث أي تغيير في متغيرات الاقتصاد الكلي.
أدى انتصار دول الحلفاء في الحرب العالمية الأولى إلى إحلال النقود النائبة (النقود الورقية المغطاة بالذهب) بديلاً عن المصكوكات المعدنية فقد هدفت الدول المنتصرة من وراء هذا الإحلال إلى التعجيل بنمو الاقتصاد الدولي وذلك لمعالجة مخلفاتها في الحرب خصوصاً المانيا الاتحادية التي اُجبرت على دفع فاتورة الحرب بقيمة تقدر بحوالي ( 269) مليار مارك .نتيجة لذلك اختلت التوازنات الاقتصادية، وظهرت لأول مرة أزمة الكساد (الركود) عام (1928). في محاولة لمعالجة أزمة الركود العالمي قدم الاقتصادي البريطاني/ جون كينز عام (1936) مجموعة من الأفكار التي نادت في مجملها بضرورة طباعة النقود الورقية بدون أي غطاء ذهبي مع الأسف.
على الرغم من أن الحلول التي قدمها (جون كينز) هدفت في الظاهر إلى تحفيز الطلب الكلي، وإنعاش الاقتصاد، إلا أن باطنها في الواقع لم يكن سوى خدعة لسحب ذهب الشعوب، وإغراقها بعملات ورقية (عديمة القيمة).
بدليل أن تلك المعالجات لم تستمر طويلاً حتى ظهرت مشكلة إقتصادية أخرى لم تعرفها البشرية من قبل تمثلت بمشكلة (التضخم).
الدول التي استجابت لأفكار (كينز) وطبقتها عانت كثيراً من الارتفاع المفرط في الأسعار خلال الحرب العالمية الثانية، وذلك قبل أن تحاول الدول المنتصرة في الحرب وتحديداً (بريطانيا- امريكا -فرنسا) احتواء تلك المشكلة في مؤتمر بريتون وودز (1944) من خلال تأسيسها للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
أتاح مؤتمر بريتون وودز للدول التي تعاني من مشكلة التضخم الحفاظ على عملتها من خلال ربطها بالذهب فاتجهت عشرات الآلاف من أطنان الذهب، والفضة من دول العالم- عن حسن نية- الى البنك الدولي، وذلك بناء على وعد من الولايات المتحدة الامريكية بثبات سعر الصرف بين (الذهب/ الدولار) وسداد قيمة الدولار ذهباً عند الطلب.
لكن هذا الوعد لم يستمر طويلاً حيث أعلنت الولايات المتحدة الامريكية في عام (1971) على لسان رئيسها (ريتشارد نيكسون) فك ارتباط الدولار بالذهب لتدخل البشرية في دوامة جديدة، وتطفو على السطح مشكلة إخرى جمعت هذه المرة بين (التضخم، والركود) في سابقه لم تكن لتخطر على بال أحد من العالمين.
مذ ذلك (نكسة نكسون) وحتى اليوم تُفكر الدول ملياً بالعودة إلى قاعدة الذهب دون جدوى! الدول التي دخلت في دهاليز النظام العالمي وجدت نفسها حبيسة قرارات وتوجيهات البنك الدولي التي تحتفظ لديه بعشرات الترليونات من الدولارات على هيئة احتياطيات مالية متنوعة، وللحد الذي عجزت فيه عن التخلص من تلك الفكاك الشيطانية رغم رغبتها القوية في هذا الأمر.
من حسن حظ الدولة اليمنية الحديثة أن ليس لديها احتياطيات مالية ضخمة بالدولار الأمريكي لدى البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي لتخشى الابتزاز او المساومة إن رغبت بالتحول الى قاعدة الذهب. تمثل قاعدة الذهب الدرع الحصين لاقتصاد خالي من المشاكل الاقتصادية.
إضافة لذلك يمكن إيجاز أهم الأسباب الأخرى الدافعة باتجاه التحول الاستراتيجي إلى قاعدة الذهب في النقاط التالية:
1-أن الاقتصاد العالمي على مشارف أزمة غير مسبوقة إذ تؤكد التقارير الصادرة عن مراكز البحوث الاقتصادية العالمية بأن مديونية الدول وصلت الى أرقام مخيفة وفي ظل عدم وجود غطاء من الأصول الحقيقية المقابلة لهذه الديون فان سقف التوقعات بانهيار النظام الاقتصادي الحالي يرتفع بدرجة كبيرة…
في الحقيقة لم يتم معالجة أزمة الكساد العظيم من خلال النظر الى مسبباتها والتي يأتي على رأسها تغيير قاعدة الذهب بقاعد النقد الورقي بل من خلال أفكار شيطانية أدت في المجمل العام الى زيادة الطين بلة. وما يدعم هذا التوقع هو المتغيرات السياسية الراهنة التي أحدثتها حرب غزة وعمليات البحر الأحمر وبروز أقطاب دولية جديدة الى الساحة العالمية.
إذا كان عامل الثقة هو العامل الوحيد الباقي على الاقتصاد المالي العالمي حتى الآن فإن الخسائر التي تكبدها الاقتصاد البريطاني والامريكي خلال هذه الحرب ولايزال يتكبدها حتى اللحظة يُنذر بانهيار هذا العامل.
بالتالي يُمثل العودة الى قاعدة الذهب طوق نجاة لكل دول العالم. إن من الأنسب بأن تبدأ اليمن فعلياً بالتحضير لهذا الطوق منذ الآن.
2-أنها رغبة ثورية. ولعل دعوات البنك المركزي اليمني المستمرة بضرورة التحول الى الاقتصاد الحقيقي تؤكد هذه الرغبة. تمثل قاعدة الذهب مدماك الاقتصاد الحقيقي حيث تكون قيمة النقود موجودة في العملة ذاتها وبالتالي بإمكان الأشخاص الاحتفاظ بهذه النقود كمخزن للقيمة أو كوسيط للمبادلات التجارية أو بيعها كسلعة في السوق المحلي أو الأجنبي.
3-بلا شك أن الاقتصاد اليمني سيعاني من العزل الدولي مستقبلا. ما يعني بأن الاقتصاد اليمني سيكون أقرب إلى الاقتصاديات (المغلقة). يُعد مثل هذا النوع ملائماً للتحول إلى قاعدة الذهب كقاعدة نقدية متينة بإمكانها بناء اقتصاد ذاتي (حقيقي) بعيداً عن هيمنة اقتصاديات الاستعمار.
4-تُظهر الدراسات الجيولوجية بأن اليمن تمتلك من الموارد ما يساعدها على تحقيق هذا التحول الهام إذ تتميز جبالها بتواجد جيد للمعادن.
لقد كان قرار إلزام الصناديق السيادية للدولة بالاستثمار في الشركات الاستخراجية خصوصاً العاملة في مجال استخراج المعادن كالذهب والفضة والنحاس… خطوة موفقة للغاية، وما نأمله هو أن تكون هذه الخطوة ماتزال فعّالة حتى الآن.
مستقبل واعد بالخير الوفير ينتظر اليمنيون بجميع فئاتهم، وتوجهاتهم، ومناطقهم دون استثناء…
يبقى فقط التحلي بالروح الثورية التواقة للكرامة، والحرية، والإكثار من الابتهال والدعاء لله العظيم في هذه الأيام الملكوتية المباركة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
*محاسب قانوني، وباحث إقتصادي