سيناريو الشرق الجديد
أفق نيوز | عبدالرحمن مراد
منذ بداية الألفية بدأت فكرة الشرق الجديد، واشتغلت عليها الإدارة الأمريكية، وكان شمعون بريز قد كتب كتاباً بعنون “الشرق الأوسط الجديد”، وتضمن الكتاب خارطة جديدة يحلم مؤلفه بنظام إقليمي، يقوم على أسس قومية، وثقافية، وبخطط اقتصادية طموحة، وفيه يرى ضرورة طمس تاريخ الشعوب العربية، وشمعون بريز من قادة الصهيونية الذين كانت لهم أدوار في الإبادة العرقية للشعب الفلسطيني، وقد اشتغلت الدبلوماسية الأمريكية على فكرة الكتاب الذي صدر عام 1994م، واشتغلت كُـلّ الدوائر الثقافية والإعلامية على الترويج لأفكاره إلى مطلع الألفية، حَيثُ تحولت أفكار الكتاب إلى خطوات اجرائية، وموجهات بالغة الأهميّة في السياسة الخارجية الأمريكية، ولعل الذاكرة تختزن علائق من الخطاب الإعلامي حول الشرق الجديد، ومن اللاعبين في هذا المضمار الأكثر بروزاً وزيرة الخارجية السمراء السابقة كونداليزا رايس، استمر هذا الاشتغال على فكرة الشرق الجديد إلى عام 2006م –وقد سبق لي أن كتبت مراراً وتكراراً حول الموضوع– حين اصطدمت الإدارة الأمريكية بحرب تموز في لبنان عام 2006م؛ إذ جاءت عكس المتوقع، فسارعوا إلى استبدال فكرة الشرق الجديد بفكرة الخلافة الإسلامية، واتخذوا من استراتيجية مؤسّسة راند لعام 2007م في الاشتغال على فكرة دعم فكرة إسلام معتدل، فكانت تركيا هي الخيار الأمثل للفكرة بحكم المسار التاريخي العالق في التاريخ الإسلامي القديم والحديث.
حدث تحول عميق في تركيا بعد عام 2007م في كُـلّ البنى الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وأضحت تركيا رقماً كَبيراً ساهم الإعلام في الترويج لمواقفها الإسلامية –وقتئذ- من القضية الفلسطينية حتى تجد لها مكاناً في الوجدان الإسلامي العام، ثم حدثت اضطرابات ما سموه بالربيع العربي، والهدف منها –أي الاضطرابات- كان الإخلال بالنظام العام والطبيعي وشيوع الفوضى، واضطراب الحياة وتبدلها في المجتمعات العربية، تمهيداً في إعادة البناء والتقسيم على أسس طائفية وثقافية وعرقية، فتعثر من مشروعهم ما تعثر، ونجح ما نجح منه، ونشطت حركة تطويع الأنظمة العربية من خلال التلويح بفكرة الربيع الذي اجتاح بعض الدول، فخضع الكثير خوفاً من فقدان العروش، فسارعوا إلى التطبيع، أَو الرضى به ضمناً دون الإعلان عنه كما هو الحال عند السعوديّة، ولذلك فشل العرب في توحيد موقف من حرب الإبادة في غزة، وفشلوا حتى في عقد قمة عربية لمناقشة ما يدور في المنطقة كما كانوا يفعلون سابقًا، وكأن الأمر لا يعنيهم رغم أهميته ومساسه بمصالح الكثير من الدول مثل مصر، والأردن، وسوريا، ولبنان، وغير أُولئك ممن يكون المساس بهم ثانوياً أي غير مباشر.
تمضي “إسرائيل” اليوم ومن ورائها أمريكا وبريطانيا والدول دائمة العضوية بمجلس الأمن إلى تنفيذ فكرة الشرق الجديد، وتنفيذ الخطط الاقتصادية، ومنها الخطط المتعلقة بحركة التجارة العالمية، والسيطرة على مساراتها، وهم ماضون في تحقيق الحلم القديم الذي نشأ بعد تأميم قناة السويس في عام 1956م والمتمثل في إنشاء قناة ابن غوريون التي تعمل على تسهيل الحركة بين البحرين الأحمر والأبيض المتوسط في مسارين دون توقف أَو إعاقة حركة منسابة وسهلة لا يمكن لقناة السويس توفيرها؛ بسَببِ الجغرافيا، والمشروع كبير ويدر دخلاً قومياً كَبيراً جِـدًّا وفق خططه ودراساته المتوفرة.
اليوم “إسرائيل” -ومن خلفها أمريكا وبريطانيا- تقوم بالتمهيد للفكرة من خلال حرب الإبادة والتهجير والتصفية العرقية لسكان قطاع غزة، والعالم يضغط على مصر والأردن في استقبال المهجرين في صحراء سيناء المصرية، والضفة الغربية الأردنية، والضغط العسكري على أشده في رفح حتى يضيق الناس أَو يموتوا جوعاً على أسوار الحدود في رفح.
قبول مصر لفكرة مشروع “رأس الحكمة” سيكون هو العامل الضاغط مستقبلاً وربما حاضراً فالاقتصاد المصري تتداعى أركانه اليوم، وقد ساهم المبلغ المودع في البنوك المصرية الخاص بمشروع رأس الحكمة في تراجع سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار، ومثل ذلك تخدير موضعي آني يعود ألمه متى حادت مصر عن المسار، ويخف متى خضعت للمصالح الصهيونية والأمريكية، وفي ظني أن مصر سوف تقبل بتسكين سكان غزة في صحراء سيناء خضوعاً للضغط الاقتصادي القاهر الذي يساهم فيه المال العربي بقدر وافر، وبذلك تكون “إسرائيل” قد وصلت إلى مشارف الحلم في الشرق الجديد، وربما في تحقيق دولة “إسرائيل” الكبرى التي تمتد من النيل –ملتقى النهرين– إلى الفرات.
كلّ الذي مضى من تاريخ العرب الحديث منذ تفردت أمريكا بحكم العالم عام 1990م كان عبارة عن مقدمات بدأت نتائجها اليوم تبرز على سطح الواقع، ومواجهة هذا المشروع يحتاج بعداً معرفياً متفاعلاً مع العلوم الحديثة حتى نكون عنصراً فاعلاً في خارطة وجود العالم المعاصر، وما لم نتسلح بالمعرفة وبفكرة المقاومة لفرض الوجود وبمشروع حضاري بديل وقادر على التفاعل وصناعة الحيوات فَــإنَّنا نذهب إلى الفناء المؤجل، ومن نافلة القول إننا نحتاج إلى حركة فكرية وثقافية تعيد ترتيب النسق الحضاري الإسلامي، ليكون المشروع الإسلامي هو الخيار الأمثل في إعادة ترتيب الحيوات المعاصرة وفق أسس وقيم إنسانية وإسلامية قال التاريخ القديم بقدرتها وحيويتها وفاعليتها في التأثير والصناعة.