ليلة القبض على الساحة !
بقلم / عباس السيد
كانت الساعة تقترب من الواحدة بعد منتصف الليل .. السكون والظلام يخيم على الشارع المؤدي إلى مطار صنعاء حيث أقف بانتظار ميكروباص للوصول إلى ساحة التغيير، حينها كانت الثورة لا تزال في شهرها الثاني ، والساحة تعج بالحياة وتنبض بالمستقبل ويومها نهار متواصل .
قصور الشيخ الموالي للنظام تلقي بظلالها على الشارع وتزيد من عتمته ، ومعها تزيد وحشتي وهواجسي ، فأتماسك متسلحا بسلميتي ورصيد من الألفة والتحيات المتبادلة مع حراسة القصر خلال سنوات إقامتي في منزل مجاور .
تمر الدقائق بطيئة باردة كالثلج، فأتحاشى الحركة للخروج من موجات البرد القارس التي تلفني حتى لا أثير ريبة الحراس ..وبين الفينة والأخرى تمر سيارة بسرعة الصوت، ولا أثر للميكروباص .
على بعد عشرات الأمتار، بدا لي أن شخصا ما يسير نحوي، ملامحه غير واضحة ولم أستدل عليه إلا من وقع هراوته، فتارة يضرب بها الإسفلت وتارة يجرها خلفه.. إقترب مني وتوقف وهو يتأملني شزرا.. تبادلنا التحية والتوجس ، ولمّا أستأنس كل منا الآخر وكشف كل عن وجهته الحقيقية، أتفقنا أن نستقل تاكسي ونتقاسم أجرتها، على أن تمر أولا بميدان التحرير حيث يريد هو، ثم تكمل سيرها إلى ساحة التغيير.
حددنا المسار للسائق ونحن إلى جوار بعض في المقعد الخلفي، ولما أبدى السائق استغرابه، أضفت إليه مازحا : ” معك إثنين بلاطجة، بلطجي مشترك، وبلطجي مؤتمر ” .
خفّف السائق سرعة السيارة حتى كاد أن يتوقف، ثم أدار رأسه نحونا بعد أن أضاء اللمبة الداخلية وسأل باستغراب وهو يتفحص في هيئتنا : وكيف اجتمعتوا ؟! ضحكنا وسألناه : وأنت، بلطجي مع من ؟ فأجاب : خلاص كفيتوا وأوفيتوا، ما عاد خليتوا لي شي.. عاودنا عليه السؤال فأصر على الحياد وقال : أنا بلطجي مع عائلتي ” اشقى على الجهال ” .
وفي الطريق ،حاولت استمالة رفيقي وتغيير مساره صوب ساحة التغيير بعد أن تبين لي تذمره من الواقع وأن همومنا مشتركة ، ولكنه رفض بعناد ، وبالقرب من ميدان التحرير ترجل رفيقي ” بلطجي المؤتمر ” ناسيا هراوته بجواري ـ وقد كانت صميل بلدي بطول قامتي ـ فتحت بات السارة ودعوته ملوحا بالصميل : ياخبير .. يارفيق ، فعاد نحوي وهو يكتم ضحكة خجولة ويكيل لي عبارات الشكر والإمتنان، ناولته الهراوة وقلت له : ” بس ما تخفعنيش بها لو شبحتني في مسيرة ” فوعدني بحماسة الصديق الوفي : عيب ياذاك أنت في راسى ” .
أستأنف السائق طريقه لإيصال ” البلطجي الثاني ” إلى ساحة التغيير . وعند مدخل الساحة الكائن أمام البوابة الشرقية لمستشفى الكويت ، نزلتُ لأشق طريقي إلى المخيمات ، فاستوقفني الجنود وقد كان عددهم كبيرا وجاهزيتهم عالية على غير المعتاد في الأيام السابقة.
لم يُسمح لي بإجتياز المدخل بحجة أن موعد الدخول إلى الساحة ينتهي عند الحادية عشرة مساء ، فيما كانت الساعة آنذاك قد جاوزت الواحدة بعد منتصف الليل. سألتهم مستغربا من الذي فرض هذه الشروط ومتى ؟ قالوا : عندنا تعليمات، نحن جنود من ” الفرقة ” وقد تسلمنا مهمة حماية الساحة والثوار إبتداء من اليوم .
السيارة التي أقلتني كانت قد استدارت وولت ، ولم يكن بوسعي سوى ممارسة الإحتجاج السلمي ولكنه في تلك الليلة ليس لإسقاط النظام الحاكم بل لإسقاط نظام الفرقة .
أفترشت الرصيف وأسندت ظهري إلى باب محل تجاري على مقربة من الجنود والضباط الذين تناوبوا في محاولاتهم لإقناعي بجدوى الشروط الجديدة وحرص ” الفرقة “على توفير الحماية والسكينة والإطمئنان للثوار داخل الساحة ، وأضاف احدهم وهو يصطنع مشاعر الود والحنان : ” إسمع بنفسك ، هل تسمع صراخ أوضجة وفوضى مثل الليالي السابقة .. أبداً، كلهم رقدوا مطمئنين مرتاحين .. “
فقلت في نفسى : عمّ يتحدث الفندم! عن ساحة ثورة أم عن قسم داخلي ، فقد كنت أدرك أن السكون مردهُ إلى بعد المدخل عن الساحة ، وإغلاق مكبرات الصوت في المنصة عند منتصف الليل كما هي العادة . يا الله .. كنا نطالب بإسقاط النظام ، وها هو الفندم يتعامل معنا على طريقة الأستاذ ” قيام ، جلوس ، نيام ” .
مرت أكثر من ساعة على جلوسي في ساحتي الخاصة ولم يعد بإمكاني مقاومة البرد القارس .. العودة إلى المنزل في تلك الساعة كانت بالنسبة لي أشبه بإنتكاسة ثورية ، ففي تلك الأيام ، كانت الساحة بمساحتها المحدودة ببضعة كيلومترات بمثابة وطن تمارس فيه كل حقوقك وحرياتك وتشعر فيه ـ وإن لساعات ـ بالأمان والعدل والمواطنة المتساوية ..
بتعبير آخر ، كانت الساحة محطة يتزود فيها الناس بوقود الأمل في الوصول لمستقبل أفضل . ولذلك فإن حرمانك من دخول الساحة أشبه بحرمانك من دخول وطنك ، أو حرمانك من التزود بوقود الأمل .
ومع ذلك ، كانت خياراتي محدودة ومُرة ، وكان التوجه إلى ميدان التحرير وقضاء بقية الساعات بصحبة رفيقي وزميلي ” بلطجي المؤتمر” هو الخيار الأقل مرارة ، ولو أنني كنت أعرف رقم هاتفه أو خيمته لتجرعت ذلك الخيار .
- يوميات الثورة ، الخميس 11 فبراير