جماليات الصورة وبلاغة المعجم في قصيدة “عيد المولد النبوي” للشاعر/ عبدالسلام المتميز
أفق نيوز | إبراهيم محمد الهمداني
إذا كان الشعر قفل أوله مفتاحه، فإن العنوان/ عتبة النص، هو ذلك المفتاح اللغوي/ الدلالي، الذي يجب أن لا يفارق ذهن المتلقي، في مسار عملية القراءة والتحليل، بداية بتفكيك بنية العنوان، وقراءتها في تشكل عناصرها الصغرى، (عيد + المولد + النبوي)، تركيبيا ودلاليا؛ فكلمة “عيدُ”، في الوضع النحوي، خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذا، مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، وهو مضاف، و”المولدِ”، مضاف إليه مجرور بالإضافة، وعلامة جرة الكسرة الظاهرة في آخره، وهو مضاف، و”النبويِّ”، مضاف إليه مجرور بالإضافة، وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، ومنه نصل إلى المستوى الدلالي، لبنية العنوان، المتشكلة في المركب الاسمي، المبدوء بكلمة “عيدُ”، في صيغة النكرة، وهي أقرب إلى المعرفة – حتى في وضعها المفرد – نظرا لشهرتها المناسباتية بين الناس، ودلالتها على السعادة والفرحة والابتهاج، بوصفها طقوسا فرائحية جمعية، مرتبطة بالعودة الزمنية المتكررة الثابتة، لمناسبة بعينها، وهذه هي الدلالة العرفية أو التواضعية، لكلمة “عيد” في العرف المجتمعي، لكنها في النص – موضوع الدراسة – تتجاوز ذلك المعطى الدلالي التواضعي، إلى محمولات المعطى الدلالي الوضعي/ التركيبي، في مدلولات التركيب المتضايف، حيث قامت الإضافة الأولى، “عيدُ المولدِ”، بنسبة النكرة (عيد)، إلى المعرفة (المولد)، لتفيد التعريف بالعيد أكثر، وتربط الطقوس الفرائحية، بالطقوس الدينية، التي تحملها مدلولات المولد، كمناسبة مرتبطة في العرف الجمعي، بمولد الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما أفادت الإضافة الثانية، “المولد النبوي”، معنى التخصيص والتعيين، وأن المقصود بالمولد، هو ذلك الحدث المعروف بنسبته إلى صاحبه، في مقامه “النبوي” الخاص، لا يدخل فيه غيره ولا يشاركه سواه.
رغم بساطة العنوان – في بنيته التركيبية المتضايفة – وتلقائيته، وسهولة فك شفراته، إلا أن أعماق تلك البساطة والسهولة، قد اكتظت بالغموض والحيرة، والتساؤلات المفتوحة على الأنساق المعرفية الكبرى، حيث يصبح “عيد المولد النبوي”، محتشدا بضجيج تساؤلات ملحة، يثيرها غموض الماهية، وجهل الكيفية، وعجز إدراك الغاية، مثل:- ماذا عنه؟ ماذا بشأنه؟ ماذا يراد منه؟، كيف هو؟ هل من جديد عنه؟؟؟، إلى غير ذلك من التساؤلات اللانهائية، التي تربط المناسبة، “عيد المولد النبوي”، بسياقاتها؛ الاجتماعية والثقافية والدينية والتاريخية والسياسية والفكرية، وصولا إلى سياقها الإنساني العام، في اتساعه وشموليته المطلقة، الأمر الذي يجعل المتلقي، ينتقل من البحث عن الكيفية، التي قيل بها النص، إلى ماهية المعنى المراد فهمه، ثم أخيرا؛ إلى المسكوت عنه، الذي لم يقله النص.
يجمع “عيد المولد النبوي”، بين طقوس الاحتفال المناسباتية في العيد، وفرحة الذكرى المتجددة، في حدث المولد وبشاراته، واختصاص قداسته، في تموضع مقامه النبوي، الأمر الذي يجعل هذه المناسبة، تحتل مكانة عالية جدا، في الوجدان الجمعي الإسلامي عموما، واليمني خصوصا، على كافة المستويات والأصعدة الحياتية.
يستهل الشاعر قصيدته، بقوله:-
بالسعد أشرق عيد المولد النبوي
وعاد بالنصر في ميعاده السنوي
تجتمع الروافد الدلالية، الكامنة في محمولات “السعد” و”أشرق” و”عيد” و”المولد النبوي”، لتصب في نهر صور ومشاهد، طقوس الفرحة الغامرة، والسعادة الباذخة، المرتبطة بقداسة مقام النبوة، بما تحمله من مدلولات الهدى والاستقامة، والفرحة (بفضل الله وبرحمته)، ممثلة بمقام الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لتعود تلك المناسبة العظيمة، على المحتفلين بها، نصرا وعزا وكرامة، كل عام.
ولا تقف خيرات إحياء هذه المناسبة، على المنتمين إليها، بفضل استحقاق النصر الإلهي الدائم فقط، وإنما تتجلى عظمة هباتها، بما وحدت من القلوب، وجمعت من الأشتات، تحت أعظم وأقدس رباط جمعي، هو رباط الأخوة الإيمانية.
نأتي بذكراه أمواجا يمانية
قد وحد المصطفى وجدانها الأخوي
فكم يداوي اسم (طه) من مواجعنا
وكم يُدوّي بسمع المجرمين دوي
تتجاوز (كم) في هذا السياق دلالتها الاستفهامية، إلى دلالات الكثرة العددية، المبالغة في تكرار الحدث وتداعياته ونتائجه، ويرسم مشهد “اسم طه”، موقفين متناقضين تمام التناقض، حيث أصبح في أولهما بلسما شافيا، “يداوي” باستمرار لانهائي، انطلاقا من راهنيته في الزمن الحاضر، وتضمنه الزمن الماضي، وانطلاقه إلى الزمن المستقبل المفتوح، بما يستوعب من جموع المفعول به “مواجعنا”، سواء من حيث الكثرة العددية، من ناحية، او من حيث تكرار حدوث الفعل، من ناحية ثانية، بينما تحول “اسم طه”، في ثانيهما خوفا وهلعا ورعبا، “يدوّي بسمع المجرمين دوي”، بما تحمله دلالات الفعل المزلزل، في راهنيته الزمنية، المتضمنة للماضي، والممتدة من الحاضر إلى المستقبل المفتوح، تسندها مدلولات
الفعل المطلق “دوي”، تأكيدا لصورة الكثرة العددية في “المجرمين”، والمبالغة التكرارية لاستمرار حدوث الفعل.
تعكس الصورة الأولى، عظمة الانتماء والتماهي، بهذا الرسول الكريم، الذي أصبح اسمه دواء وذكره شفاء، بينما تعكس الصورة الثانية، عمق العداء والكراهية، للرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، من قبل المجرمين والكافرين، ليتحول الصراع بين الولاء والعداء، من المستوى الداخلي النفسي، إلى المستوى الكتابي والدلالي، في التلاعب اللفظي والتشكيل الكتابي، بين كلمتي “يداوي” و”يدوّي”، وما توحي به دلالات الثنائيات المتناقضة، من حركية الصراع الدائم، وتصاعد مشهديته المستمرة.
فوق القياس ولانا للنبي فيا
دنيا الهوان خذي مقياسك المئوي
يلعب الجناس الناقص، في كلمتي “القياس” و”مقياسك”، دورا محوريا في إدارة مشهدية الصراع، بين مضامين الولاء المطلق، وحضور الانتماء المطلق، في موقف الذات المتكلمة، في تموضعها الجمعي، مقابل موقف الآخر الغائب، المسكوت عنه في النص، ليدل عليه نقيضه الإيجابي، الذي ارتبط بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ارتباطا وثيقا، بلغ حد التماهي في توليه وحبه، حتى صار بالنسبة لمحبيه “الأسوياء”، “أكسجين” رئاتهم، متغلغلا في أعماقهم، مختلطا بدمهم وكل عناصر تكوينهم، علاوة على أنه أصبح سر بقاء واستمرار حياتهم، ولا حياة لهم بعيدا عنه.
هو أكسجين رئات الأسوياء به
تنفس النور في شريانها الرئوي
وكل جين من الجينات في دمنا
مفاعل فيه تخصيب الإبا النووي
ندوس أنف القوى الكبرى ونجدعها
لأن قوة ربي فوق كل قوي
تتصاعد وتيرة الصراع وحدته، بشكل قوي ومتسارع، حيث يتحول العيد إلى معركة حامية الوطيس، ضد جحافل الباطل والإجرام، ويصبح المولد النبوي قوة نووية ربانية مدمرة، تدوس – بصيغة الفعل الجمعي الحاضر – كل القوى الكبرى، وتجدع أنفها إمعانا في إذلالها واحتقارها، اعتمادا على قوة الله تعالى، التي يمنحها أولياءه وأنصار نبيه، ليتجلى مشهد الصراع المحتدم، من المستوى اللفظي والتشكيل الكتابي، في توظيف مدلولات الجناس الناقص، بين كلمات “القوى” و”قوة” و”قوي”، وما تعكسه من حدة وتوتر الصراع العالمي.
مما لا شك فيه أن موقف اليمن المشرف، قيادة وشعبا، الداعم والمساند لفلسطين، بوصفها القضية المركزية للأمة، وعمليات الجيش اليمني البحرية والبرية، ضد إسرائيل وأمريكا وبريطانيا وأخواتهما، ما كان لها أن تكون بهذا القدر من الأثر والفاعلية، لولا هذه القيادة الربانية الحكيمة، ممثلة بسماحة السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي يحفظه الله، الذي أعاد للشعب اليمني، هويته الإيمانية الأصيلة، وارتباطه الحقيقي بدينه، وانتماءه المتفرد بنبيه الأكرم، محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الأمر الذي جعل الشعب اليمني، يقف هذا الموقف المتقدم، على مختلف الشعوب العربية والإسلامية، وجعل الجيش اليمني رقما صعبا، في معادلة الصراع العالمي، في زمن ذلت فيه معظم الأنظمة والشعوب، لقوى الهيمنة والاستكبار العالمية، التي تسمي نفسها قوى كبرى، وهنا يأتي السؤال الأكثر صدمة وإحراجا، لبقية الأنظمة والشعوب.
هل ذنبنا العز في عصر المذلة أم
أنَّا نبذنا الربا في عالم ربوي
يأتي الاستفهام الاستنكاري هنا، ليكشف عن عمق الهوة التي سقط إليها المجتمع الإنساني، وحدة صراع الثنائيات المتناقضة، التي تكاد تبتلع ما تبقى من قيم الخير والإنسانية والفضيلة، حين ساد عصر المذلة والهوان، وهيمن الربا في عالم ربوي محض، ولما أصبح الذل حالة جمعية مألوفة سائدة، تحول صاحب العز إلى صوت نشاز، ومذنب يستحق العقاب، على قاعدة (أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناسٌ يتطهرون)، وبالتالي فإن من يطلب العز في زمن الهوان، ومن ينبذ ويرفض الربا في عالم ربوي، هو في منظور قوى الشر والطغيان، لا يقل جرما عن ذلك الشخص الذي ينشد الطهارة، ويسعى للحفاظ على زكاء نفسه، في مجتمع قوم لوط.
وأننا ليس في أضوائنا – وكفى –
نخضرُّ، بل في ميادين الفدا العلوي
يستمر التساؤل الاستنكاري المرير، في إلقاء دوامغ حججه، وسواطع براهينه، على أولئك الذين ساروا على طريق الانحراف الاستكباري، نهجا لا تراجع عنه، ولا خيار دونه، الذين لم يتورعوا عن انتقاد المحتفلين بمولد الرسول الأعظم، من خلال تعميم الشارات والألوان الخضراء، دلالة على النهج المحمدي المعطاء، خاصة وأن حبهم وتوليهم له، لا يتوقف عند شكليات اخضرار الأضواء، بل يتجاوز ذلك إلى مضامين الفعل، ومقامات التضحية والشهادة، “في ميادين الفدا العلوي”، المنسوب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، بما يمثله من امتداد حقيقي، وتجسيد صادق، لحقيقة الانتماء للدين، والارتباط المطلق بسيد الأنبياء والمرسلين.
بحب (طه) نظمنا كل واقعنا
من قبل ينظم مدحا فيه حرفُ روي
نقول (لبيك) تصنيعا به انبهرت
تقنية العصر من صاروخنا اليدوي
تتجاوز عاطفة الحب – كقيمة شعورية – المستوى العاطفي الذاتي، إلى مستوى تمثيل النموذج والقدوة، وتجسيد مشاعر الحب سلوكيا، في الواقع الميداني الفعلي، لتصل ترجمة (حب طه)، في الاهتداء والاقتداء، إلى إنتاج نظام حياتي شامل، بوصفه أولوية تنفيذية قصوى، قبل نماذج التعبير الشعري، التي جاءت تالية للتعبير عن مدى الحب لهذا النبي العظيم.
ولذلك طالما يترافق القول والفعل، في سياق الحب النبوي، فقول (لبيك) يرافقه – وينبثق عنه – تصنيع حربي، وإعداد عسكري، بهت منه الذي كفر، وأذهل العالم، رغم بساطة الإمكانيات، ومحدودية القدرات، ليرتسم مشهد الصراع، بكل أبعاده ومستوياته، في أقصى توتره المتصاعد، بين “تقنية العصر”، بكل ما تمتلكه من قدرات وإمكانات هائلة، وأموال طائلة، وتقنيات متقدمة، و”صاروخنا” في حضوره المفرد، “اليدوي” في تأكيد بساطته وبدائيته، وشتان ما بين عصر الآلة والتقنية، وعصر التصنيع اليدوي البدائي، ولكن رغم كل ذلك، فقد أثبت هذا الأخير كفاءته وقوته وفاعليته، التي شلت كل التقنيات المتطورة، وفاقت كل الآلات والمصانع، وكسرت كل حسابات القوى العالمية، وأرست قواعد جديدة في ميادين الصراع والمواجهة الحتمية، حتى انعكس الصراع على المستوى الحياتي، بين تقنية فاشلة، وجهود ذاتية ناجحة، وبين حضارة زائفة، وقيم أصيلة.
والعرب إبداعها في صنع فرقتها
من مذهب الفقه حتى المذهب النحوي
وأمة الصمت للحكام عابدةٌ
منذ استقت دينها من وحلها الأموي
إن أوليات الانحراف، التي أصابت الأمة الإسلامية، ما زالت تداعياتها وآثارها، حاضرة في صميم بنية تكوين الأمة، ضعفا وهوانا وذلا واستلابا، سواء للحكام أو للأعداء، ولن يرتفع ذلك البلاء والسقوط والخذلان، عن هذه الأمة، مادامت مستمرة في السير على نهج الوحل الأموي، الذي جعلته مرجعا أساسا لدينها، ولم تجن منه سوى المزيد من الفرقة والاختلاف، وتشتيت وحدة المسلمين، وتحويل بوصلة العداء عن العدو الإسرائيلي والأمريكي الاستعماري، إلى داخل الساحة الإسلامية، واستثمار مشاريع التفرقة، من مذهب الفقه، حتى المذهب النحوي، بما يخدم مصالح ومشاريع أعداء الأمة الإسلامية.
وهل بسنة (طه) يدعي صلة
من طوعوا أمة (الهادي) لكل (غوي)
وهل سنهدى إلى النهج السواء بمن
يبغونه عوجا في الناس غير سوى
تعود مشاهد الصراع إلى أوج توهجها واحتدامها، من خلال تكرار بنية الاستفهام الاستنكاري التقريري، وأيضا من خلال لعبة التضاد والجناس، والتلاعب بمفردات اللغة على أكثر من مستوى، بما يخلق فضاءات دلالية واسعة، حيث يجدد التساؤل إطلاق سخريته، من أولئك الذين يدعون صلة برسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويزعمون انتماءهم لهذا الدين، بينما دعواهم ساقطة، وانتماؤهم كاذب، وهم الذين خالفوا الرسول الكريم، نصا وروحا، نهجا ومنهجا، وهو الذي جاء لتحرير البشرية، وتحقيق كرامتهم، وإخراجهم من عبودية الطغاة المستكبرين، إلى شرف عبادة الله تعالى وحده، بينما عمل أولئك المدعون صلة به، أو انتماء لسنته، على تدجين الناس، وإخضاعهم لحكام الجور والضلال، ليرسم التضاد الأيديولوجي والوظيفي، بين مدلولات وتمثلات كلمتي “الهادي”، في سياقها المعرفي الإيجابي، و”كل غوي” في سياقها الإفسادي السلبي، مشاهد ذلك الصراع وتوتراته.
ويبلغ الاستفهام الاستنكاري ذروة تهكمه وسخريته، وإنكاره وتشنيعه على أولئك الذين يرتجون الهداية إلى النهج السواء/ السوي، على يد أضل وأشقى الخلق، الذين “يبغونه عوجا في الناس غير سوى”، يطلبون الطريق الأعوج، والنهج غير السوي علنا، فكيف يرتجى منهم خير، أو يؤمل فيهم صلاح، ولذلك فإن هؤلاء وأمثالهم، من المحال والمستبعد، أن تتحقق على أيديهم هداية، أو أدنى خير للبشرية، مهما ادعوا ذلك، ومهما طبل لهم المطبلون.
وهل سيُرغمُ عصرَ الأقوياءِ على
احترامِ أمتِنا تثقيفُنا الرخوي
إن من انحرفوا بالأمة الإسلامية، عن طريق الهدى الى شعاب الضلال، ومن زعموا أنهم سيقودون الناس إلى النهج السوي، رغم اعوجاج سبلهم، وانحراف توجهاتهم، لا يمكن لكل ذي فطرة سليمة، وعقل راجح أن يركن إليهم، أو يثق بهم أو يسلم لهم، مهما كانت المغريات أو التهديدات، وهؤلاء يمثلون القيادة الشيطانية، من أعلام الباطل وأئمة الضلال، ولهم منهج ثقافي رخوي، يطوعون الأمة من خلاله، ويسقطونها في الاستلاب والتبعية المطلقة، لأسيادهم من اليهود والنصارى، ولهذا جاء الاستفهام هنا “هل”، دالا على الإنكار ثم التهكم والسخرية، وصولا إلى المبالغة في استبعاد حصول المُستفهم عنه، وتحقيق إقرار المتلقي بالجواب، الذي يريده المتكلم، وهو النفي المطلق طبعا، لأنه من البديهي أن الثقافة الرخوة الهشة، لن تصنع أمة عظيمة متمكنة، لديها من أسباب القوة، ما يرغم أعداءها (عصر الأقوياء)، على احترامها، وكف شرهم عنها.
ولذلك لابد لتحقيق نهضة الأمة وقوتها ومنعتها، أن يكون لديها أعلام حق يقودونها، ومنهج قرآني يسيرها، وبدون هذين الشرطين، لن تفلح ولن تنتصر أبدا.
شرُّ المسيئين للمختار من زعموا
أن السكوت على الطغيان عنه رُوي
باسم التدين أو باسم التحضر لم
يسلم لنا فهمنا الفطري والعفوي
تظاهر طغاة (الوحل الأموي) مع فقهاء السلطان عبيد الدنيا، واغتالوا في أعماق الوجدان الجمعي للأمة، روح الدين الحنيف، وجوهر الملة السمحاء، الذي جاء به الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومنذ ذلك الحين، ضُرِبتْ علاقة الأمة بنبيها، وفصلت عن كتابها، وجهلت ربها خالقها ومالك أمرها، وكان لفقهاء البلاط الدور الكبير، في تزييف المفاهيم والانحراف بالأمة، لأنهم هم من طوعوها وأخضعوها، للطغاة الغواة المستكبرين، من أئمة الجور والضلال، بحجة أن ذلك من الدين، وأنه روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنه قال:- (أطع الأمير وإن جلد ظهرك وأخذ مالك و…….)، وحرَّموا وجرموا الخروج على الوالي الظالم، ليعطلوا بذلك جوهر الدين الإسلامي، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا كانوا شر المسيئين للمختار، بافترائهم الكذب عليه، ومخالفة وتزييف نهجه.
لم يعد “التدين” يمثل النقيض لعلمانية “التحضر”، ولم يعد العقل ساحة لصراعهما المزعوم، لأن كلا منهما قد أصبح جزءا لا يتجزأ من صاحبه، ولا فرق بين تدين محرف أو تحضر علماني، مادام يجمعهما مبدأ الانحراف والانحلال، وتوحدهما غاية استهداف العقل والروح، واغتيال “فهمنا الفطري والعفوي”، وبهذا يمكن القول إن التدين المنحرف، المستقى من الوحل الأموي، وما تلاه وصولا إلى المستنقع الوهابي، قد سهل مهمة انصياع الأمة، لمشاريع “التحضر” الحداثية الهدامة، وهو ما نجد شواهده ماثلة، في حالة المجتمع السعودي، الذي انقلب من وضع التدين المتشدد المتزمت، إلى وضع الترفيه والانفلات والانحلال المطلق.
فقوله (جاهد الكفار) يفهمه
العالمُ الفذُّ والأمي والبدوي
(اغلظ عليهم) بيانٌ فهمه سلسٌ
دون التعمق في قاموسنا اللغوي
(اغلظ عليهم) يقول الله، وهو بهم
أدرى، وتبيينه كافٍ لكل سوي
(اغلظ عليهم) ليُنهوا عن تجبرهم
(اغلظ عليهم) ليحيا العالم الأخوي
ليمشي الصبح حرا في مدائنه
ولا يخاف الردى في القرية القروي
ربما كان اغتيال الخطاب الديني، على مستوى التلقي، أحد أهم أهداف مشروع الانحراف السياسي الأموي، فبواسطته تم تجميد عملية الفهم الجمعي، وردم منافذ العقل والتفكير، وتقديم قراءات للخطاب الديني – على أساس نفعي بحت – في سياق واحدية المنظور المهيمن، في تموضعه السلطوي الوظيفي، وقد أنتجت تلك القراءات النفعية، خطابا دينيا تراكميا هائلا، مترهلا محشوا بالتشوهات والتناقضات، مفعما بالاختلافات اللانهائية، التي أصبحت ساحة مفتوحة للاشتغال العقلي، وبيئة خصبة للصراع الفكري، وتكريس الفرقة والشتات والاختلاف، الذي لم يتوقف عند قضية النصب على التوهم والاشتغال في النحو، أو أحكام الحيض والنفاس في الفقه، أو التعصب للحقيقة ونفي المجاز عند الفقهاء والبلاغيين الأصوليين، أو القول بالجبر والاختيار عند المعتزلة والمتكلمين، بل وصل إلى مستويات متقدمة، وبلغ الصراع الفكري ذروته، عند قضية علاقة اللفظ بالمعنى، هل هي إلزامية أم اعتباطية، لينتج عنه اختلافات أكثر حدة وتطرفا، رغم أن قوله تعالى:- (وعلم آدم الأسماء كلها)، كافٍ للإقرار بواحدية نظرية المعرفة، في مصدرها ومنتجها، لكن غلبة الأهواء والمصالح، قد حكمت المنتج المعرفي والفكري الديني، وأنتجت خطابا دينيا وظيفيا، يمسخ المعنى الحقيقي، ويقيم المعاني المموهة، ويقذف بالعقل في متاهات مظلمة، الأمر الذي يجعله يتحاشى التفكير في أبسط المعاني، كي لا يقع ضحية المعنى الغائب والتشتت الدلالي.
لذلك كان من الضرورة بمكان، إحياء أبجديات التفكير الأساسية، والعودة بالعقل إلى مدار التلقي الجامع، الذي تلتقي عنده مدارك الاستيعاب الجمعي، ومستويات الأفهام المختلفة، من “العالم الفذ” إلى “الأمي والبدوي”، الذين لا يمكن أن يختلفوا، في فهم قوله تعالى:- (جاهد الكفار)، في سياق الأمر الصريح، والكيفية المفهومة الواضحة، بما يترتب على ذلك، من ضرورة اتخاذ موقف العداء، تجاه الكفار ومن في فلكهم، وإخلاص فعل الجهاد لله تعالى وفي سبيله، ليعطي ثماره العظيمة، وأولها استحقاق النصر والتأييد الإلهي، أو نيل الشهادة والفوز العظيم.
يأتي ذكر الجهاد في هذا النص، بوصفه أبرز أبجديات الخطاب الديني، الذي لا غنى للمسلمين عنه، خاصة في وضعنا الحاضر، وقد طغى الكيان الإسرائيلي الغاصب، في عدوانه الظالم، على إخواننا المستضعفين في غزة، وعموم فلسطين المحتلة، على مدى ما يقرب من عام، مرتكبا أبشع الجرائم والانتهاكات الفظيعة، وحرب الإبادة الجماعية الوحشية الشاملة، بدعم وإسناد رسمي أمريكي بريطاني أوروبي، في ظل صمت وتواطؤ عربي إسلامي مخزٍ، ناتج عن تدجين العقل الجمعي، وفصله عن حقيقة تدينه، بالنماذج
المعرفية المتناقضة، والأعلام القيادية المشوهة المنحرفة، وهو ما أدى إلى بروز مظاهر الصراع، بين أنظمة العمالة وبداية صحوة الضمير الجمعي، الذي يجب أن يكسر رهاب المعنى، ليرى أن فهمه الفطري المتحقق، لقول خالقه جل وعلا:- (جاهد الكفار)، هو الوسيلة الأمثل والأنسب، لمواجهة الأعداء، وقطع شرورهم وعدوانهم.
تكرر الاقتباس القرآني، لنص الأمر الإلهي، في قوله تعالى:- (اغلظ عليهم) أربع مرات متتالية، تحمل في تواليها، مستويات تحليلية تصاعدية، من المعنى المباشر، بوصفه “بيانٌ فهمه سلسٌ”، سهل التصور، ممكن التحقيق، إلى معنى المعنى، في مرجعية الأمر “يقول الله”، وعمق الدلالة المتضمنة حكمة الله تعالى، التي يجب أن نتوقف عند بيانها، لأنه “كافٍ لكل سوي”، وصولا إلى ما وراء المعنى وباطن الدلالة، المترتبة عن تكرار “اغلظ عليهم”، للمرة الثالثة والمرة الرابعة، اللتان ترسمان بدلالتيهما الغائيتين، المعللتين باللام، مشهدية الصراع المتحركة، التي تصل بين “لينهوا عن تجبرهم”، والنتيجة المترتبة عليها، “ليحيا العالم الأخوي”، بكل ما تحمله مدلولات “تجبرهم”، الذي يكاد يقضي على كل مظاهر الإخاء والتعايش، مقابل مدلولات الفعل المعلل “ليحيا”، في استمرارية تنامي صور الحياة والنماء والخير، وما يشير إليه “العالم الأخوي”، كفاعل إيجابي فعلي، في تحقيق الانسجام والتوائم والتكامل، وعمق الروابط الأخوية، الحاملة لكل مبادئ العدالة والمساواة والندية، والاحترام المتبادل بين جميع أبناء المجتمع الإنساني، ترجمة لمعنى قول أمير المؤمنين علي عليه السلام، في بيان طريقة التعامل مع الناس، على قاعدة (أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).
وعند هذا المستوى من النضج والرقي، المتحقق للمجتمع الإنساني، تجسد حركة “الصبح حرا في مدائنه”، أبهى مشاهد الحرية والكرامة، وهو يتمشى ويتنقل بين المدن، ويقابله في تجسيد مظاهر الخير والأمان، القروي في أقصى المناطق النائية، وقد عمها الأمان والسعادة والاستقرار، بالتساوي بين الحضر والأرياف، فلا هيمنة لمدينة، ولا تهميش لبادية.
فما أحط وأشقى أمةً هجرت
هداه حتى أماتت دورها الحيوي
صورة مشهدية متحركة، تعكس كمَّا هائلا من الجمود والشقاء والانحطاط والسقوط، ليصبح الإعراض عن هدى الله وطاعة نبيه، والتخبط في الضلال والانحراف، جالبا للشقاء والغياب الحتمي، والحياة في مضمون موت قسري، وعبثية الوجود التائه.
وأين من ذبحوا أبناء أمتهم
وجردوا الأب من إحساسه الأبوي
دواعش لبني الإسلام غلظتهم
لكن صوتهم ضد اليهود طُوي
يأتي الاستفهام الاستنكاري، عن دور تلك الجماعات التكفيرية الوهابية المسلحة، التي برزت على المشهد السياسي والاجتماعي، تمارس الذبح والقتل والسحل والإجرام، بحق عموم المسلمين، بدعوى إقامة الدين، والانتصار لشريعة سيد المرسلين، معلنة رغبتها الجهاد في فلسطين، ولكن ما إن اشتعلت الحرب العدوانية الإسرائيلية، على إخواننا في قطاع غزة، وكل الأراضي الفلسطينية المحتلة، حتى غاب دورهم، وتلاشى حضورهم، وتحولت غلظتهم ضد المسلمين الموحدين، إلى مداهنة وملاطفة لليهود، وانسجاما وتوافقا مع موقفهم المعادي لفصائل الجهاد والمقاومة الفلسطينية، حيث سارعت الجماعات التكفيرية الوهابية، إلى تكفيرها وتبديعها، وتحميلها مسؤولية الجرائم والمجازر وحرب الإبادة الإسرائيلية، بحق قطاع غزة.
أليس إيغال إسرائيل في دمنا
يكفي لنخرج من تمزيقنا الفئوي
متى يكون جهاد المسلمين متى؟
إن لم يكن ضد هذا المجرم الدموي
تتوالى حجج المتكلم الساطعة، التي تصدم المتلقي بحقائق الواقع المزري، وتعيد عقله إلى مسار التفكير الصحيح، بما يمكّنه من القيام بدوره الريادي، الذي استخلفه الله تعالى من أجله، ويأتي الاستفهام بالهمزة قبل النفي، ليلزم المتلقي بالإجابة ب بلى، إن ذلك كافٍ وأكثر، لكي تتحد الصفوف، وتجتمع الفرق، وتذوب الاختلافات، والخلافات والصراعات المذهبية والسياسية، التي أفرزها التدين على طريقة “الوحل الأموي” المنحرف القذر، والعودة إلى المسمى الإسلامي الجامع.
ويأتي التساؤل المرير مرة أخرى، ليقيم آخر بلاغات الاحتجاج، من خلال “متى”، التي كررت دلالتها الزمانية، المستفهمة عن مدى إمكانية حصول فعل الجهاد، في الزمن الراهن، ضد هذا العدو، المتطرف في عدوانه وإجرامه وتوحشه، وهذه الصورة في مشهديتها المتحركة، تتفاعل فيها دلالات المجرم/ الإجرام الدموي، المسرف في القتل والتوحش والإجرام، يقابله في الطرف الآخر من المشهد، صورة “المسلمين” في جمودها وثباتها، المقيد بحلم ميلاد الزمن المأمول، الذي أصبح ضرورة وجودية، لتحقيق فاعلية الصراع الحتمي.
إن تحي أمةُ طه نهجه انتصرت
فالنصر من بركات المولد النبوي
تقدم الجملة الشرطية في البيت السابق، صورة الإجابة الفعلية، المتحققة على أرض الواقع، وطريقة تنفيذها، التي لا تخرج عن ما بين فعل الشرط وجوابه، كون سبيل نصر هذه الأمة، مرهون بمدى إحيائها والتزامها نهج نبيها، لأنه الحصانة الوحيدة لها، والحصن الذي فيه عزتها ومنعتها وقوتها، وهو الضامن لتحقق وحدتها، والتفافها حول نهجه القويم، وتبدأ بشارات النصر الإلهي، من إعادة اتصال الأمة بنبيها ودينها، وإظهار محبتها وإجلالها وإعزازها له، واحتفائها بسيرته العطرة، واحتفالها وفرحتها به في كل مناسبة تخصه، وخاصة ذكرى ميلاده الشريف، “فالنصر من بركات المولد النبوي”، الذي “عاد بالنصر في ميعاده السنوي”، حيث تتعانق وتتعالق البدايات بالنهايات، على المستوى النصي بالتوازي مع المستوى الواقعي، وهو ما يعطي النص فاعلية دلالية كبيرة، وحضورا يتجاوز حدود الزمن والجغرافيا.
استطاع الشاعر إعادة إنتاج أساسيات الخطاب الديني والإنساني، في فضاء إبداعي مفعم بالشعرية، غاية في التميز والإبداع، سواء من حيث توظيف مفردات اللغة، بمهارة وتمكن منقطع النظير، أو من حيث القافية الأكثر من متفردة، بحداثيتها وبساطتها وعمقها، أو من حيث توظيف الاقتباسات والإحالات الدلالية بأنواعها؛ الدينية والاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية والتاريخية، بما تحمله من دلالات ومضامين، ورسائل قيمية وإنسانية، تخاطب العقل والوجدان الجمعي، وتستنهض كل قواه الفاعلة، علاوة على حيوية النص وديناميته المتصاعدة، دلاليا وتصويريا وفاعلية دائمة، ورغم قصور هذه القراءة المتواضعة، عن بلوغ شواهق الإبداع النصي، إلا أنه يمكن القول – بكل ثقة – إن هذا النص يعد إضافة نوعية، في مكتبة الشعر الجهادي المقاوم، على مستوى الإقليم والعالم، في مثالية صدقه الشعوري، وإنسانية مضامين خطابه الشعري، ورقي لغته في سهولتها الممتنعة.