أفق نيوز | {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}[الفلق: 1 – 4]، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق: 16]. مرضُ الوسوسة
قد يكون لدى الإنسان مرضٌ نفسيٌّ قد يكبر أو يصغر، تبعاً للواقع الَّذي يعيشه في أفكاره وأوضاعه، وتبعاً للمجتمع الَّذي يحيط به، وهو مرض الوسوسة.
والوسوسة تمثِّل هذه الحالة النَّفسيَّة الَّتي تثير في الإنسان الكثير من الأفكار والأوهام والشّكوك والظّنون والأحاسيس والانطباعات، بحيث لا يشعر الإنسان معها بأيِّ استقرارٍ نفسيٍّ، بل يعيشُ حالة قلق دائم، بما قد يتحوَّل إلى وضعٍ يدمِّر كلَّ واقعه وحياته.
وقد أشار القرآن إلى هذا في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}، للتَّدليل على أنَّ الله يطَّلع على كلِّ أحاديث النَّفس، حتَّى لو لم ينطق بها الإنسان، ما يوحي بأنَّ هناك شيئاً في الدَّاخل يسمَّى الوسوسة.
وهكذا، يحدِّثنا الله عن الَّذي يثير الوسوسة في نفس الإنسان، ويعبِّر عن هذا العنوان الكبير بـ {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}[النّاس: 4 – 5]، فهو يوسوس ثمَّ يخنس، أي يختفي، ليترك الشَّكَّ يتفاعل في نفس الإنسان.
هنا، لا بدَّ لنا من أن نفصِّل شيئاً من الكلام حول هذا الموضوع، لأنَّه من الأمراض النَّفسيَّة الَّتي قد تدمِّر الكثير من النَّاس في حياتهم الفرديَّة، وفي حياتهم العائليَّة، وفي حياتهم الاجتماعيَّة، وربما السياسيَّة. وسوسةُ المتديِّن
أمَّا في الحياة الذَّاتيَّة، فقد تصيب المتديّنين كثيراً، باعتبار أنَّ المتديِّن إذا بلغ العمق في تديّنه، بدأ يعمل على أن يدقِّق في كلِّ تكاليفه حتَّى يرضي ربَّه، لأنَّه يعيش القلق في مسألة إرضاء الله وفي مسألة إطاعته، وقد يبلغ به هذا التَّدقيق حالةً مرضيَّة، كالكثيرين من النَّاس، ولا سيَّما من الشَّباب، ذكوراً كانوا أو إناثاً، فقد ينطلقون في طيبة القلب، وطهارة النَّفس، وروحيَّة التَّقوى، ليدقِّقوا في مسألة الطَّهارة والنَّجاسة، باعتبار أنَّ الأعمال مشروطة بأن يكون الإنسان طاهر البدن والثَّوب، وبذلك لا بدَّ أن يكون طاهراً في فراشه، وفيما يأكل ويشرب، لأنَّ ذلك كلَّه يؤدِّي إلى مسألة طهارة البدن أو الثَّوب أو نجاستهما…
وهكذا تمتدّ المسألة إلى الطَّهارة الحدثيَّة، وهي الوضوء أو الغسل، لأنَّ الإنسان إذا كان وضوؤه باطلاً، فلم يغسل وجهه جيِّداً، ولم يغسل يديه جيِّداً، ولم يمسح رأسه ورجليه جيِّداً، فإنَّ وضوءه يكون باطلاً، وإذا بطل وضوؤه، بطلت صلاته، وبطل طوافه، وما إلى ذلك مما يتوقَّف على الطَّهارة، وهكذا أيضاً، إذا بطل غسل الإنسان، كما في غسل الجنابة للرَّجل، وغسل الجنابة والحيض والنَّفاس للمرأة، وما إلى ذلك، بطلت الصَّلاة، وبطلت كلّ الأعمال المتوقّفة على الطّهارة.
هنا، إذا لم يكن الإنسان متفقِّهاً بشكل جيِّد، فقد يقع في الوسواس من خلال التَّدقيق في هذه المسألة. مثلاً، في مسألة التَّدقيق في الطَّهارة والنَّجاسة، هناك من يحتاج إلى أن يتيقَّن بأنَّ كلَّ شيء طاهر، بمعنى أنَّه يحكم على كلِّ شيء بأنَّه نجس إلى أن تثبت طهارته، على عكس القاعدة الشَّرعيَّة “كُلُّ شَيْءٍ لَكَ طَاهِرٌ حَتَّى تَعْلَمَ بِنَجَاسَتِهِ”. وقد تبتلى بذلك بعض النّساء. بعض النّساء المتديّنات تطهِّر البيت، فإذا جاء أولاد الجيران أو غيرهم، تبني على أنَّ البيت كلَّه تنجَّس، ولكن من قال إنَّ أرجلهم أو أيديهم نجسة؟ صحيح، قد يتنجَّسون في بعض الحالات، ولكن ليس معنى ذلك أنَّ هناك نجاسة في كلِّ الحالات، فبمجرَّد أن يزورها أحد، تقوم بتطهير البيت من جديد، ما يسبِّب مشكلةً لها ولزوجها ولأولادها.
وهذه مشكلة كبيرة عند الكثير من النِّساء ومن الرّجال أيضاً، مع أنَّ الله فتح المسألة بأوسع مما بين السَّماء والأرض في مسألة الطَّهارة، فكلّ شيء لا تستطيع أن تحلف عليه يميناً بأنَّه نجس، تحكم بطهارته، هذه هي القاعدة العامَّة. وإذا كنت وسواسيّاً، فيجب عليك أن تبني على الشَّيء بأنَّه طاهر، حتّى لو رأيت أنَّه نجس، بمعنى أنَّه لا قيمة لعلم الوسواسيّ.
لكنَّ بعض النَّاس، نقول من باب النُّكتة، إنَّ عندهم غيرة على الطَّهارة أكثر من الله سبحانه وتعالى، فالله يقول لك هذا طاهر، فتقول لا أقبل، يقول لك الله صلاتك صحيحة، وضوؤك صحيح، غسلك صحيح، تقول له ينبغي أن أدقِّق في الموضوع أكثر.. الكثير من النَّاس يعيشون هذه الوسوسة الَّتي تخلق لأنفسهم أزمة، وتخلق لعيالهم وللنَّاس الَّذين يحيطون بهم مشكلة. بعض النَّاس غير مستعدّ لأن يصافح أحداً، لأنَّه لا يأمن على طهارة من يصافحه، فإذا ما ابتلي وصافح أحداً، يذهب لغسل يديه، ويصرف الكثير من الماء على غسلهما. وهذا مرض وليس ديناً. الوسوسةُ في الصَّلاة
وقد يمتدُّ ذلك إلى الصَّلاة أيضاً، فبعض النَّاس يصلِّي، ولكنَّه يبقى في حالة شكّ، مع أنَّ هناك أحكاماً للشَّكّ في الصَّلاة، فإذا تعلَّمتها، فلن تحتاج إلى إعادتها… احفظ كلّ أحكام الشّكوك في الصّلاة وطبِّقها، ولن تحتاج بعدها إلى إعادة الصَّلاة. الله قال لك إنَّك تستطيع أن تدبِّر صلاتك دون أن تعيدها، ولكنَّ بعض النَّاس يشكُّ في صلاته، فيعيدها مرَّة واثنتين، ويقول أريد أن أعيدها احتياطاً. ولكنّي أقول لك إذا كانت إعادتها بسبب الوسوسة، فهو حرام، الله لا يقول لك أن تحتاط، بل يريدك أن تكون طبيعيّاً. الاحتياط جيِّد، ولكن بشرط أن لا يؤدِّي إلى نتائج سلبيَّة على مستوى كلِّ حياتك وكلِّ واقعك.
والله أوجد لنا الحلَّ، ولكنَّ الوسواسيّ لا يقبل هذا الحلّ. يعني، مثلاً، في الصَّلاة، إذا كنت تشكّ شكوكاً عاديَّة، بمعنى أنَّ وضعك طبيعيّ في الصَّلاة، ولكن صادف أنَّك شككت في صلاة معيّنة، فالله يقول لك إنّ هناك حكماً خاصّاً للشَّكّ تعلَّمه وامض. ولكن في حال كثر الشَّكّ عندك، بحيث صرْتَ تشكُّ في كلِّ صلاة تصلّيها، فالله ألغى لك كلَّ الشّكوك، فلا شكَّ لكثير الشَّكّ.
يعني إذا كنت كثير الشَّكّ في صلاتك، بحيث تشكّ في كلِّ صلاة، فتكليفك في هذه الحالة أن تتصرَّف كما لو كنت غير شاكّ، أن تقول إنَّ صلاتي صحيحة ولا مشكلة فيها. فإذا كان الله هو الَّذي يقول لك أن لا تعيد الصَّلاة، فعليك أن تطيعه وتقبل، حتّى لو افترضت أنَّ صلاتك ناقصة، الله يقول لك أنا أقبل بصلاتك هكذا، ولكنَّك تقول له حتّى لو أنت قبلت أنا لا أقبل! فكيف لا تقبل، وأنت من المفترض أن تطيع الله سبحانه وتعالى؟!
هناك حديثٌ عن الإمام الصَّادق (ع) في هذا المجال. عن عبد الله بن سنان – أحد أصحاب الإمام (ع) – قال: “ذَكَرْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) رَجُلاً مُبْتَلًى بِالْوُضُوءِ والصَّلَاةِ – بمعنى عنده وسواس – وقُلْتُ هُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ – من خيرة عقلائنا – فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): وأَيُّ عَقْلٍ لَه وهُوَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ؟! – وقد ورد أنَّ “العَقْلَ مَا عُبِدَ بِهِ الرَّحْمن، وعُصِيَ بِهِ الشَّيْطَان”، ومعناه أنَّ كلَّ من لا يعبد الله فهو غير عاقل، لأنَّ العقل يقودك إلى النَّجاة، وتركُكَ لعبادة الله تقودك إلى الهلاك، وكذلك العقل يقودك إلى عصيان الشَّيطان، لأنَّ الشَّيطان يريد أن يجرَّك إلى عذاب السَّعير، وهل من العقل أن تسير وراء شخص يريد أن يجرَّك إلى عذاب السَّعير؟! – فَقُلْتُ لَه: وكَيْفَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ؟ – فهو يصلِّي ويتوضَّأ، ويريد أن يحصِّل اليقين بأنَّ وضوءه صحيح، وصلاته صحيحة، حتّى يُرضِي الله؟ – فَقَالَ سَلْه هَذَا الَّذِي يَأْتِيه مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟! – سيقول لك لعن الله الشَّيطان، فهو يشكِّكني في عملي – فَإِنَّه يَقُولُ لَكَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ”، معنى ذلك أنَّه يطيع الشَّيطان ولا يطيع الله، فالله يقول له لا تعتنِ بالشَّكّ، وضوؤك صحيح، صلاتك صحيحة، لكنَّه لا يقبل.
عن زرارة، وأبي بصير، قالا: “قلْنا له – أي للإمام الصَّادق (ع) – الرَّجُلُ يَشُكُّ كَثِيراً فِي صَلَاتِه، حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى ولَا مَا بَقِيَ عَلَيْه؟ قَالَ: يُعِيدُ – في الحالات الطَّبيعيَّة – قُلْنَا لَه: فَإِنَّه يَكْثُرُ عَلَيْه ذَلِكَ – يعني دائماً يشكّ – كُلَّمَا عَادَ شَكَّ، قَالَ: يَمْضِي فِي شَكِّه – بمعنى أن يمضي في صلاته ولا يعتني بشكِّه – ثُمَّ قَالَ: لَا تُعَوِّدُوا الْخَبِيثَ – يعني الشَّيطان – مِنْ أَنْفُسِكُمْ بِنَقْضِ الصَّلَاةِ فَتُطْمِعُوه – بمعنى أنَّ الشَّيطان عندما يَراكُم تستجيبون له، وتمضون مع الشَّكّ، فيطمع بكم، ومعنى ذلك أنَّه سيظلُّ يربك كلَّ حياتكم – فَإِنَّ الشَّيْطَانَ خَبِيثٌ يَعْتَادُ لِمَا عُوِّدَ، فَلْيَمْضِ أَحَدُكُمْ فِي الْوَهْمِ، ولَا يُكْثِرَنَّ نَقْضَ الصَّلَاةِ – إعادتها – فَإِنَّه إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّاتٍ، لَمْ يَعُدْ إِلَيْه الشَّكُّ – فإذا كان الشَّخص كثير الشَّكِّ، ولم يعتن بشكِّه، وحكم بصحَّة ما يقوم به، فإنَّ الشَّيطان عندها سييأس ويتركه، لأنَّه سيقول إنَّ هذا الشَّخص لم يتَّبعني، فيرحل – قَالَ زُرَارَةُ: ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا يُرِيدُ الْخَبِيثُ أَنْ يُطَاعَ، فَإِذَا عُصِيَ، لَمْ يَعُدْ إِلَى أَحَدِكُمْ”.
هذا كلام الإمام الصَّادق (ع)، ونحن أتباع الإمام الصَّادق (ع)، ونأخذ كلَّ فقهنا من الأئمَّة (ع) الَّذي أخذوه عن رسول الله (ص) وعن الله.
فعندما يقول لك الله إنَّ صلاتك صحيحة، ووضوءك صحيح، وغسلك صحيح، وكلّ شيء طاهر، فالحلُّ عندئذٍ بسيط. البعض يقول لك لا أستطيع، ولكن لماذا لا تستطيع؟ هذا خطٌّ إنسانيّ، فعندما تعيش المشكلة، واجهها، ادرسْ ما هو أساسها، ثمَّ ادرس الحلّ لها.
فالَّذي يعيش الوسواس، دائماً يطهِّر، ودائماً يعيد وضوءه، ويعيد صلاته، لأنَّه لا يريد لصلاته أن تكون باطلة، أو أن يكون وضوؤه باطلاً، أو أن يكون غسله باطلاً، أو أن يكون هناك شيء من النَّجاسة، فمن أين تأتي المشكلة؟ تأتي من أنَّك تريد فيما تفعله أن تطيع الله وتحقِّق رضاه على كلِّ حال. ولكنَّ الله يقول لك أنت عبدي، وأنت مؤمن طيِّب، وأنا أقبل منك صلاتك وطهارتك كيفما شاء. فهل من مجالٍ بعدها لتحمل همَّ رضا الله، إذا كان الله يقول لك أنا أقبل منك؟! مرضٌ يحتاجُ إلى علاج
لذلك، أنا أرجو من كلِّ إخواني وأخواتي من المؤمنين والمؤمنات أن يدرسوا المسألة، وأن يعالجوا أنفسهم بما عالجهم به الله سبحانه وتعالى، وبما عالجهم به النَّبيّ والأئمَّة من أهل البيت (ع)، حتّى لا يعيشوا المشكلة بالمستوى الَّتي يدمِّر حياتهم، لأنَّ هذا مرض وليس ديناً.
نحن نعرف بعض العلماء المجتهدين في النَّجف، تحوَّل إلى مجنون بعد أن سيطر عليه موضوع الوسوسة، فقد كان يبدأ بالوضوء عند الفجر، ثمَّ يعيده مرّة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة، حتّى يضيقَ الوقت على الصَّلاة، فيلجأ إلى التّيمّم، ثمَّ تحوَّل إلى إنسانٍ فقد عقله، حتّى لو كان مجتهداً.
أنا أذكر أنَّ أحد المراجع الكبار، وهو المرجع آية الله العظمى السيِّد محسن الحكيم، ولنا قرابة به، كانت إحدى النّساء من قرابته، تعيش الوسواس في مسألة الطَّهارة والنّجاسة، وقد أراد أن يعطيها درساً في عدم الالتفات إلى الوسوسة، فتوضَّأ السيِّد وضوءه، وأراد أن يخرج إلى صلاة الجماعة، وكان عندها ولدٌ تستشكل على طهارته دائماً، وكانت يد السيِّد لا تزال مبلَّلة بالماءِ من الوضوء، فوضعَ يدَه المبلَّلة تحت رِجل الولَد، ومسحَ بها وجهَه وخرجَ إلى الصَّلاة، حتَّى يعلِّمها أنّي لا أتحمَّل فقط مسؤوليَّة صلاتي، بل صلاة النَّاس الَّذين يُصلُّون خلفي، ومع ذلك، طالما أنّي لا أعرف إذا كانت رِجْلُ الولدِ طاهرةً أو متنجِّسة، فإنّي أحكم بطهارتها.
لذلك، كما قلت لكم، أرجو أن نعالج المسألة، فإذا كانت المسألة تبدأ من خوفنا من الله، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يقول لنا خافوا من وسوستكم، يعني خافوا من العمل على أساس الوسواس. هذه نقطة. الوسوسةُ تدميرٌ للحياة
هناك نقطة ثانية، هناك ناس عندها وسوسة في مسألة الصحَّة، فدائماً يلجأ إلى وسائل التَّعقيم إذا صافح شخصاً أو غير ذلك، فهذه وسوسة ويحتاج معها إلى علاج نفسيّ.
هناك أشخاص يعيشون الوسوسة مع عيالهم، فإذا ما تكلَّمت زوجته مع أخيها، ظنَّ بها السّوء، وكذلك إذا ما تكلَّمت مع جيرانها، وإذا ذهبت إلى مجلس معيّن، يريد أن يعرف من كان في المجلس، هل كان زوج صاحبة المجلس في البيت؟ هل كان أخوها في البيت؟ فيدمِّر حياة زوجته بوسوسته في هذا المجال، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات: 12]. ووصيَّة الإمام عليّ (ع): “إِيَّاكَ وَالتَّغَايُر فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الغيرَة”، فعندما يغار الرَّجل على زوجته، فالغيرة لها أصول، وينبغي أن يكون هناك أدلَّة، فإذا كنت لا تثق بزوجتك، فلماذا تزوَّجتها إذاً؟! إذا كانت زوجتك امرأةً مؤمنةً فاضلةً طيِّبة، فلماذا تدمِّر نفسيَّتها وتفقدُها الثِّقة بنفسها؟ ثمَّ إنَّه من الحرام أن تتَّهمها بما لا دليل لك عليه إلَّا وهمك وعقدتك. وبعض النِّساء أيضاً تتّبع سوء الظّنّ تجاه زوجها، فإذا ما تأخَّر عن الرّجوع إلى البيت، مثلاً، تبدأ بشكوكها حوله، وتلاحقه بهذه الشّكوك، حتّى تدمِّر بذلك حياة زوجها وحياتها.
وهذا الأمر يؤدِّي إلى تدمير الحياة العائليّة؛ عندما يلاحق الزّوج زوجته بشكوكه، أو تلاحق الزَّوجة زوجها بشكوكها. والأساس أنَّ الزَّوجة تعرف أنَّ زوجها رجلٌ مؤمنٌ طيِّب طاهر خيّر، وفيٌّ لحياته الزّوجيَّة، وكذلك الزّوج، عندما يكون قد اختبر زوجته وحصلت ثقته بها، فإنَّ عليه أن يطرد من نفسه كلَّ وساوس الشَّيطان الَّتي تدفعه إلى سوء الظّنّ بها، لأنَّ هذه من وساوس الشَّيطان.
وفي مثل هذه الحالات الاجتماعيَّة، يكون هناك وسواسٌ خنَّاسٌ على شكل شخص ينقل إلى الزَّوجة حديثاً عن زوجها ويثير الفتنة بينهما، أو ينقل إلى الزَّوج حديثاً عن زوجته، وهكذا. وهنا على الإنسان أن يعالج نفسه، وأن يعمل على أن يكون إنساناً طبيعياً متوازناً في هذا المجال. الوسواسُ في الدِّينِ والإيمان
وهناك أيضاً وساوس نفسيَّة في قضايا الخلق. بعض النَّاس يقول أنا تدمَّرت حياتي، أنا لست مؤمناً، أنا كافر… وتسأله على أيِّ أساسٍ تقول ذلك؟! يقول لأنَّه أثناء صلاتي، راودتني أفكار أنَّ الله غير موجود، وأشياء كثيرة تراودني، ويبكي ويفترض أنَّه هلك. وهذه الأفكار ليست جديدة، بل كانت موجودة في زمن النَّبيّ (ص)، وهناك أحاديث واردة في هذا المجال.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: “جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (ص)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، قَدْ لَقِيتُ شِدَّةً مِنْ وَسْوَسَةِ اَلصَّدْرِ، وَأَنَا رَجُلٌ مَدِينٌ مُعِيلٌ مُحْوِجٌ – فأنا تراودني أفكار ووساوس أشعر معها بأنّي فقدت إيماني كلّيّاً – فَقَالَ لَه: كَرِّرْ هَذِهِ اَلْكَلِمَاتِ: تَوَكَّلْتُ عَلَى اَلْحَيِّ اَلَّذِي لا يَمُوتُ، وَالْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ اَلذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَذْهَبَ اَللَّهُ عَنِّي وَسْوَسَةَ صَدْرِي، وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي، وَوَسَّعَ عَلَيَّ رِزْقِي”، فهذا الرَّجل التفت إلى نفسه، ووعى ما قاله النَّبيّ (ص) له، وانفتح على الله، وطرد الشَّيطان، فصلح حاله.
وفي حديثٍ آخر عن محمَّد بن مسلم، عن أبي عبد الله (ع) قال: “جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (ص) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه هَلَكْتُ، فَقَالَ لَه (ص): أَتَاكَ الْخَبِيثُ – يعني الشَّيطان – فَقَالَ لَكَ مَنْ خَلَقَكَ؟ فَقُلْتَ اللَّه، فَقَالَ لَكَ اللَّه مَنْ خَلَقَه؟ فَقَالَ: إِي والَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَكَانَ كَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه (ص): ذَاكَ واللَّه مَحْضُ الإِيمَانِ”، أنت مؤمن من أعظم المؤمنين. وقد فسَّرها أحدهم بأنَّ “أَنَّ رَسُولَ اللَّه (ص) إِنَّمَا عَنَى بِقَوْلِه هَذَا: واللَّه مَحْضُ الإِيمَانِ، خَوْفَه أَنْ يَكُونَ قَدْ هَلَكَ حَيْثُ عَرَضَ لَه ذَلِكَ فِي قَلْبِه”.
فهذا الشَّخص إنسانٌ مؤمن، وعندما حضرت هذه الفكرة في ذهنه، بنى على أنَّه كفر، لأنَّه يفكِّر في أمور يرى أنّها تبعده عن الإيمان، ولكنَّ الرَّسول (ص) طمأنه وقال له أنت مؤمن ولم تكفر، وهذه الأفكار يمكن أن تراود أيَّ أحد. المهمّ أن يعمل الإنسان عندما يعيش هذه الأفكار، على أن يسأل حولها ليجاب عن ذلك وتتوضَّح الأمور عنده، وأن يستعيذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم من هذه الأفكار.
وهكذا في كثيرٍ من الحالات، فهناك من يأتي الشَّيطان إليه ويوحي إليه بأنّه كفر أو غير ذلك من الأفكار، فعليه أن يستعيذ بالله سبحانه وتعالى من الشَّيطان الرَّجيم في كلِّ ذلك، فيفرج عنه ذلك إذا توكَّل على الله سبحانه وتعالى.
أنت الآن تعتبر نفسك مؤمناً، فأيُّ فكرة تراودك وتخطر في بالك، أيّ شبهة، أيّ شكّ، حاول أن ترجع إلى من يعرِّفك طبيعة ذلك ليكمل إيمانك، والشَّكُّ غالباً هو الطّريق إلى اليقين، فاليقين يبدأ بالشَّكّ، يتساءل الإنسان حول فكرة معيَّنة، ويسأل حولها، فيصل بذلك إلى اليقين {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النّحل: 43]، لكن عليه أن لا يكفِّر نفسه، لأنَّ مجرَّد خطور هذه الأفكار السَّلبيَّة في ذهنه لا يجعله منحرفاً {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[الأعراف: 201]. الحَمْلُ على الأحْسَن
وهناك، أيُّها الأحبَّة، وساوس اجتماعَّية، ووساوس سياسيَّة، وغالباً ما تنطلق هذه الوساوس في بعض الحالات من بعض المظاهر الَّتي توحي بالشَّكّ في هذا الشَّخص أو ذاك، فيحتمل الإنسان السّوء. هنا، عندنا برنامج شرعيّ في هذا المجال:
أوَّلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات: 12].
وثانياً: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ – فالشَّيء الّذي لا تكون متأكّداً منه مئة في المئة، لا تطلق حكمك فيه – إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء: 36].
وثالثاً: كلمة عليّ (ع): “ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِه حَتَّى يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْه، ولَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءاً وأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمِلًا”، يعني إذا رأيت شيئاً يحتمل أن يكون صحيحاً أو خطأً، أو أن يكون خيراً أو شرّاً، قل هو إن شاء الله خير، حتّى يثبت لك أنَّه شرّ. وهذا شيء تعلَّمناه من أمير المؤمنين (ع)، وهو ما يمثِّل حمل المسلم على الأحسن. لكن مع الأسف، الأوضاع اليوم صارت عند المسلمين على عكس ما يقول أمير المؤمنين (ع)، اليوم صارت: ضع أمر أخيك على أسوئه، ولا تظنَّنَّ بكلمة خرجت من أخيك خيراً وأنت تجد لها في السّوء محملاً.
بعض النَّاس يقول لك: “سُوءُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الفِطَنِ”، ولكنَّ على الإنسان أن يكون عادلاً، والعدل يقول لك إنّ كلّ إنسان بريء حتَّى تثبت إدانته. قد يكون عندك شكّ، والشَّكّ يوحي بالحذر، ولكنَّه لا يعني الحكم عليه، وهناك فرق بين الأمرين، فأنت إذا شكَّيت في إنسان، تحذر منه، ولا تعطيه قيادك، ولكن عليك أن لا تحكم عليه على أساس شكِّك، لأنَّه حكمٌ من غير أساس وعلم. وإذا أردت أن تعرف موقفك من النَّاس، فاعرف موقف النَّاس منك، فإذا شكَّ أحد فيك بطريقة من الطّرق، وحكم عليك من خلال هذا الشَّكّ، ألا تقول له على أيِّ أساس حكمت عليّ؟ فأنت عندك شكّ، ولكن لا دليل عندك، “عَامِلِ النَّاسَ بِمَا تُحِبُّ أنْ يُعَامِلُوكَ بِهِ”. وسوسةُ المخابرات
وهناك حالات تنطلق من الوسواس الخنَّاس. ومما ينبغي أن نعرفه، أيُّها الأحبَّة، أنَّه في الحروب السَّابقة، كان الَّذي يبثّ إشاعةً، أو يثير وسوسةً، أو يثير شكّاً، هو واحد من أفراد المجتمع، الآن صار عندنا أجهزة دوليَّة تملك أكبر الوسائل لتدمير الواقع، وهي أجهزة المخابرات، فهناك مخابرات دوليَّة تعمل على أن تحرِّك الفتن والحروب وتثير المشاكل في كلِّ موقع فيه مصلحة لدولهم، فإذا ما أرادت هذه الدَّولة أن تسيطر على اقتصاد بلد، وعلى سياسته وأمنه، عملت على أن توجِّه كلَّ أجهزتها المخابراتيَّة، وأجهزة المخابرات تضمُّ علماء وفقهاء، وعلماء نفس واجتماع، بحيث يدرسون كلَّ نقاط الضّعف وكلّ نقاط القوَّة وكلّ المسائل التي يختلف بها النَّاس، سواء كانت مسائل فقهيَّة أو عقيديَّة أو سياسيَّة أو اجتماعيَّة، حتى يعرفوا كيف يمكن أن يحركوا الفتن، وأن يثيروا المشاكل، من خلال دراستهم للواقع الاجتماعي والسياسي والدّيني في هذا البلد، وربما يصدِّرون كتباً ودراسات، ويمكن أن يوظِّفوا أساتذة جامعات، وقد يجعلون رئيس جمهوريَّة بلدٍ من المخابرات عندهم، ونحن نعرف أنَّ المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة في العالم الَّتي تعمل في حجم العالم، قد توظِّف كثيراً من الملوك والرؤساء ومن الوزراء ومن السياسيِّين ومن رؤساء الأحزاب، ونحن نعرف بحسب الدراسات، أنّ بعض الملوك الَّذين هم في سدَّة الملك في المنطقة الإسلاميَّة هم مخابرات أمريكيَّة.
ثمَّ هناك مخابرات إقليميَّة على مستوى المنطقة، ومخابرات محليَّة، وقد تكون مخابرات محلّيّة رسميّة، وقد تكون مخابرات محليّة شعبيَّة، فلكلِّ حزب من الأحزاب، ولكلِّ حركة من الحركات، ولكلِّ منظَّمة من المنظَّمات، مخابراتها أو أمنها الخاصّ، وشغل كلِّ هؤلاء أنَّهم يعملون على الوسوسة السياسيَّة أو الاجتماعيَّة أو الدينيَّة، من أجل إثارة الفتن المذهبيَّة من جهة، والفتن الطائفيَّة من جهة أخرى، والفتن الاجتماعيَّة من جهة ثالثة، من أجل تدمير صورة شخص أو تلميع صورة شخص، وما إلى ذلك.
لقد أصبح عندنا وسواس خنَّاس دوليّ، ووسواس خنّاس إقليميّ، ووسواس خنّاس محلّيّ، ووسواس خنّاس حزبيّ، وما إلى ذلك. الحذرُ منَ الوسواسِ الخنَّاس
هنا في هذا المجال، تحتاج الأمَّة، أيُّها الأحبَّة، إلى أن تكونَ واعيةً لهذا الواقع، وأن لا تستسلم لأيِّ حالة انفعال في المجتمع، ولا لأيِّ نوعٍ من أنواع الإثارات الَّتي قد تدخل في وجدان النَّاس لتثير حرباً. قد يأتي من يقول لك إنَّ فلاناً سبَّ النَّبيَّ (ص)، أو سبَّ الإمام عليّاً (ع)، فلان سبَّ كذا.. حتّى يثير مشاعرك، وقد لا تكون المسألة صحيحة. إنَّ عليك أن تلجأ إلى دينك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات: 6]، وأن تلجأ إلى كلِّ التَّعاليم في هذا المجال.
لذلك، أيُّها الأحبّة، علينا أن نكون حذرين أمام كلِّ هذا النوع من الوسواس الخنَّاس الذي يوسوس في صدور النّاس، فيفقدهم المحبَّة فيما بينهم، ويفقدهم الوحدة فيما بينهم، ويجعلهم يعيشون في مجتمعهم على أساس أن يكون هذا عدوّاً لذاك، وذاك عدوّاً لهذا.
وهذا من الأمور الَّتي ربَّما عشناها في أمَّتنا الإسلاميَّة، واستطاعت أن تدمِّر مفاصل القوَّة في الواقع الإسلاميّ، حيث إنَّنا نعيش الفتن الطائفيَّة والمذهبيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة وما إلى ذلك من أنواع الفتن.
لذلك قلت لكم مراراً، وأقول لكم مراراً: راقبوا كلَّ وسواس خنَّاس، سواء كان يوسوس في الجانب الاجتماعيّ، أو في الجانب الدينيّ، أو في الجانب السياسيّ… راقبوه في مجالسكم، راقبوه في منتدياتكم، راقبوه في ساحات الصِّراع الَّتي تتحرَّك لديكم، حتَّى لا يتحرَّك من خلال وسوسته الشَّيطانيَّة إلى أن يدمِّر مجتمعكم ووحدتكم، وحتَّى لا يقودكم إلى عذاب السَّعير.