القمم منعقدة والإبادة مستمرة: قمة الرياض بيان عربي مهين
96
Share
الصمود | تقرير | يحيى الشامي
منذ نشأتها في منتصف القرن العشرين، حملت الجامعة العربية في أهدافها كثيرًا من آمال الشعوب العربية وطموحاتها العريضة، ظن الكثير يومها أنها بوابة الوحدة العربية, واعتقدوا بأجهزتها التنفيذية ممحاة الحدود المصطنعة, وأمّلوا من منبرها محراب القوة، القوة بما تفضي إلى عودة محترمة لكيان جامع يمتلك من مقومات الوحدة وأسبابها ما لا تملكه أمة على وجه المعمورة (الدم والدين واللغة الأرض والمصالح … إلخ)، بهذا القدر من الرجاء احتفى العرب بالجامعة, واحتفلوا بتأسيسها أملاً بالوحدة الكبرى التي طالما عنها ولها غنوا وكتبوا ورقصوا.
لكنها آمال سرعان ما أحبطت مع تفكك العقود العربية, وتنامي عُقَد الإحباط المصاحبة, والتي كانت تتوالد وتتراكم وتكبر مع تكرر الصور النمطية لاجتماعات القادة وقممهم الدورية من عام إلى آخر ، مع الوقت أضحى الإخفاق فشلًا, والفشل تراجع استراتيجي يتوسع في فراغاته المشروع الصهيوني، حتى ركب اليأس نفوس العرب واعترى شعوبها المحبطة، مع كل قمة وبلسان عربي مهين تردد شعوب العرب: “لا شيء يرجى من القمم، القمة القمة .. والبيان البيان” .
بضع صور ولقطات وزحمة كلمات وبيانات في سياق برتوكولات مملة وجلسات باردة في وسط إقليمي ساخن بالحروب وحافل بالأحداث الكبرى، وبرغم وصفها بـ”الاستثنائية” أو غير الاعتيادية كما هو حال قمة الأمس في الرياض التي جمعت أكثر خمسين دولة عربية وإسلامية، لكنها تبدو مشهداً مجتزأً من فصول دراما كلاسيكية تلتزم الشكل والظهور أكثر مما تلامس الوجع والمضمون, يصح وصفها بالقول: الزعماء في واد، وشعوبهم في واد آخر وقريباً تلتحق بها، لا تجمعهم إلا اللغة, رسم مداد ومخارج حروف.
أصبحت لقاءات القمم العربية وحتى الإسلامية الدورية صورة باهتة تنعقد لأسباب وجيهة, ولا تخرج بمخرجات جديرة، يصدر عنها أقل مما كان يُرجى منها.
وقد لا يصدق عاقل أن قمة العرب والمسلمين في عام ٢٠٢٤م تنعقد على جماجم وأشلاء ودماء١٥٠ ألف فلسطيني يقتلهم العدو الإسرائيلي, ولا يزال يفعل منذ القمة التي سبقتها العام الفائت حتى لحظة تلاوة بيان القمة الأخيرة.
قمة الشجب
في ظل هذا المشهد القاتم لقمة الرياض “غير العادية”، نجد أنفسنا أمام مشهد مألوف, أو بالأصح أليف ووادع حد الانبطاح والتماهي: قمة الشجب والندب والتساؤل, كما يقول أحد المراقبين: “قمةُ الرياض “غير العادية” هذه على نهج الأولى مجرد صخبٍ بالبيانات، خرَسٌ عند التنفيذ، ولا جديد بين العام الماضي واليوم”.
هذا التكرار المخيب للآمال يعكس عجز القمم عن تحقيق الحد الأدنى من التغيير المنشود، وهذا التغيير إن لم يكن اليوم -على وقع أهوال الإبادة الجارية في غزة ولبنان – فمتى عساه يأتي؟!!
لنتذكّر أن من يجتمع في هذه القمة هم زعماء أكثر من خمسين دولة عربية وإسلامية، وأن هدف اجتماعهم “الاستثنائي” يُفترض أن يدفعهم لرسم مصير الأمة, بناء على دراسة نقدية لواقعها السيء, ومراجعة شاملة تفضي لوضع استراتيجيات حقيقية مبنية على مصلحة الأمة ومصالحها وبما ينهي معضلاتها.
لكن المفارقة المؤلمة تكمن في أن أبرز هذه المعضلات وعنوان انعقاد القمة وشعار دعوتها – معاناة الشعب الفلسطيني – تُناقش في حضور من يُطبّع مع العدو الإسرائيلي، وهم -أي المطبعين- قادة ورؤساء وملوك يجمعهم التخاذل ويشتركون في التماهي، وتوحدهم لغة الصمت أكثر من اللغة العربية، و يجتمعون على دين التطبيع أكثر من إقرارهم بدين الإسلام!! هذا التناقض الصارخ يفضح هشاشة الموقف الإسلامي العربي الرسمي, وانفصاله عن مبادئ وقيم وروح الدين الإسلامي, وانفصاله الكامل عن روح القومية ومختلف اللافتات واليافطات الجامعة.
عجز القادة
مشهد “قمة الرياض” يكاد يكون نسخة كربونية من قمة العام الماضي، تغيرت فقط أعداد الضحايا في أرقام الإبادة التي لا شيء يبدو قادرًا على إيقافها، نفس الوجوه، نفس اللهجة، حتى تقاسيم وجه بن سلمان لم تتغير, كل ما تغير هو شمل القاعة وديكورها المذهَّب وفرشها بسجادٍ بنفسجي بدلًا من الأحمر، ربما في محاولة لتجنب التذكير بالدماء المسفوكة في غزة ولبنان.
هذا التغيير الشكلي وحده يتسيد مشهد القمة بما يعكس عمق الأزمة, وعجز القادة وخيانتهم الجلية لشعوبهم, لهويتهم, لدينهم ولقوميتهم.
يتحدث بن سلمان عن نجاح قمة العام الماضي في ما أسماه حشد “تحالف دولي للاعتراف بدولة فلسطين”، متناسيًا أن الحق الفلسطيني أزلي, لا يرتبط بأي اعتراف دولي, ولا ينقصه ذلك أصلاً، ولا يستجديه، وفي الوقت نفسه يأتي الرئيس المصري ليتحدث عن مظلومية غزة المحاصرة، متجاهلًا دور بلاده في إكمال مثلث الحصار على غزة من بوابة معبر رفح, وأكثر من ذلك السماح بتمرير السفن والشحنات والفرقاطات الإسرائيلية عبر قناة السويس؛ تخفيفاً لأعباء وكلف الحصار البحري الذي يفرضه اليمن من البحر!.
أما ملك الأردن، فيتساءل بلهجته المعوجة و الممزوجة بالأعجمية عن “حل الدولتين”، متناسيًا أن هذا الحل المزعوم هو في حد ذاته عين المشكلة القائمة، وفق سرديات تنظيره وقوننته المبنية على قرار غير شرعي من الأمم المتحدة.
وسط هذا المشهد المحبط، تتبادل الوفود ألقاب الفخامة والمعالي، في حين تبدأ بياناتهم بالشجب والتنديد بجرائم العدو الإسرائيلي، لتنتهي – كالعادة – بالتطمين على بقاء جوهر فكرة التطبيع سليمة تضبط إيقاع قرارات الزعماء العرب, وتحكم منطقهم أملاً في تغيير المنطقة لصالح مشاريع الصهاينة, إنها دورة مستمرة من الفشل والعجز، تعكس حالة الانحطاط التي وصلت إليها الأنظمة العربية وحتى الإسلامية في عمومها.
إعادة تدوير الفشل
إن استمرار عقد هذه القمم في أجواء مفارقة لوقائع الميدان وحقائق مكتسبات المقاومة المتراكمة في أكثر من جبهة وفي ظل إصرارها على لغة السلام الانبطاحية المقابلة للغة القوة المفرطة والإبادة الجماعية هو ترسيخ آخر لفكرة اليأس المتنامي في الوعي العربي والإسلامي “كي الوعي”.
لا يناقش القادة تحقيق إنجاز ملموس على أرض الواقع وليس في وارده، بقدر ما يعيدون تدوير وتكريس الفشل باعتباره وضعًا قاهرًا يستحيل الخلاص منه والفكاك من تبعاته. فبدلًا من أن تكون هذه اللقاءات فرصة لإعادة النظر في الاستراتيجيات وتبني مواقف جديدة تتناسب مع خطورة المرحلة الاستثنائية فعلاً بكل المعايير والمقاييس، نراها تكرر نفس الخطابات الجوفاء والبيانات الفارغة, بما ينطبق عليها توصيف السيد القائد في تعليقه على قمة العام الماضي حين قال لا تعدو بيانًا باهتًا صادرًا عن إذاعة مدرسية.
يؤكد مشهد القمم الباردة المعزولة والمفصولة والبعيدة عن واقع الأمة الحاجة الماسة والملحة لتغيير جذري شامل يعيد الأمة لوضعها المفترض، على الأقل يبقيها ويبقي لها الحد الأدنى من السلوك الإنساني الطبيعي، فضلًا عن عودتها لمسارها الحضاري في سياق مسؤوليتها الدينية الأممية الكبرى, كحاملة رسالة خاتم الرسل وخلاصة مشروع الأنبياء والرسل في الأرض.