قال صبي صغير في أسرة من الأسر: ليت لنا شهداء أكثر مما لنا، لمّا رأى الحفاوة التي نالتها أسر الشهداء في الأيام الفائتة، قال هذه العبارة وهو يرى صور الشهداء وقد زينت أركان بيتهم، وأعادت لهم أخاهم، قالها وقد عاد من حديقة السبعين، وهو يترنم بأهازيج الشهيد البطل لطف القحوم التي تتغنى بالعزة والكرامة، قالها بعد أن رأى أن المجتمع لم ينس حق أسرته المكلومة في الاحترام والتقدير والرعاية ولو رمزيا.
هذا الطفل سيتكرر في كثير من المنازل والمجتمعات، ويبتني الشعور بأهمية الشهداء وعظيم عطائهم بشكل باذخ، لا ينكره إلا مرتزق أو عميل، الشهداء الذين لولا عطاؤهم لرأينا شذاذ الآفاق ومجرمي العالم وأمساخ الكون يجوسون خلال الديار، وينتهكون الأرض والعرض، ويفجرون المساجد والأسواق، ويدمرون الحاضر والمستقبل.
لما تزينت هذه الشوارع بصور الكرام الأماجد من الشهداء الأبرار – قدّمت درسا مؤثرا لكل أفراد شعبنا المجاهد بأن هؤلاء الخالدين الذين حرسوا الأرض والعرض، لا زالوا في آثار نعمة عطائهم، ولا زالوا حراسا خالدين لمعاني الشرف والرجولة والعزة والكرامة، وهاهم أيضا لا زالوا ينتصبون أساتذة للأجيال المتعاقبة يعلمونها عمليا بالإيثار، ويقدمون لها النموذج الفاضل للكرامة والاستقلال، ويعرضون عليها مشاهد الشجاعة، وسلوكيات القناعة.
هؤلاء الذين يزينون مدن اليمن وقراها هم من حرسوها من أوسخ وأقذر وأفظع وأحقر عدوان عرفته البشرية، ونحن اليمانيين ندرك جيدا أننا نعيش في أرض فضلهم، وفي سماوات عزهم، وفي علياء مجدهم، ومبوَّأ كرامتهم، وهذا الصبي الصغير الذي نال قسطا من التكريم والألعاب والحلوى تعلّم أنه نال ما ناله بسبب هؤلاء، وهكذا مضى مجد الشهداء من حاضرنا ليصنع الوعي الكامل بقضية الشهداء لدى مستقبلنا وأجيالنا، الذين سيكبر وعيهم حتى يصير جبلا عاليا منيفا لا يقل شموخا عن جبال اليمن الشماء.
لعل في هذا العرض المبسّط ما يشير إلى أهمية أنشطة وأدوار القائمين على فعاليات الذكرى السنوية للشهيد ومن كان لهم دور في نجاحها، وكيف صنعوا قضية الشهداء لتتجاوز الأطر الزمنية والمكانية والفئوية، وما يشير إلى أن الشهداء معلمو الأجيال، وصناع الأوطان الحرة، ومهندسو المستقبل الكريم، ولعلهم أدركوا أنهم ساهموا جيدا في تحويل ثقافة الشهادة إلى ثقافة عامة، وهو ما يجب أن نسعى لتأكيده دائما في العقول والقلوب والأعمال.
إن أمة تعشق الشهادة والشهداء وتتربى على الفضيلة وثقافة العطاء وتقدم أغلى ما لديها من خيرة الشباب – لهي أمة موعودة بالنصر، مباركة بالأجر، مطرّزة بوشي المجد، متوجة بالحرية والكرامة، وإن الأمهات اللاتي يستقبلن أبناءهن الشهداء بالزغاريد والسرور لهن مدارس لا تنتج وتلد سوى المستقبل الحر والزاهر والكريم والمعطاء.