كابوس الاعتقال يلاحق جنود الاحتلال حول العالم
تتجسد معاناة الفلسطينيين في صور مأساوية، حيث تحولت أحياء سكنية بأكملها إلى أطلال، وامتلأت المستشفيات بأطفال مبتوري الأطراف وأمهات مفجوعات يبحثن بين الأنقاض عن فلذات أكبادهن، وبينما توثق المحاكم الدولية شهادات الناجين وصور الجثث المتفحمة، تتعاظم المخاوف داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية من أن تصبح هذه الجرائم وصمة عار تطارد المسؤولين عنها لعقود، وتجعلهم هدفًا للمساءلة أمام الضمير الإنساني قبل المحاكم، يشهد الداخل الإسرائيلي حالة غير مسبوقة من الارتباك والتخبط في مواجهة الدعاوى القضائية التي تتوالى ضد جيشها في مختلف أنحاء العالم، على خلفية الجرائم الوحشية التي ارتكبها في قطاع غزة، فبينما تتكشف الأدلة المصورة والشهادات الحية عن مجازر بحق المدنيين، تجد تل أبيب نفسها محاصرة بتزايد الضغوط القانونية والدبلوماسية، وسط مخاوف جدية من ملاحقة جنودها وضباطها واعتقالهم عند سفرهم إلى الخارج.
وفي هذا السياق فإنّ «مؤسسة هند رجب» وحدها تقدّمت بطلبات اعتقال لألف جندي إسرائيلي من مزدوجي الجنسية في ثماني دول، بينها إسبانيا وإيرلندا وجنوب أفريقيا، ولفتت إلى أنّ المؤسسة المذكورة جمعت معلومات وأدلّة على الاتهامات الموجّهة إلى جندي الاحتياط التابع للواء «جفعاتي»، والذي تم التستّر على هويته في وسائل الإعلام.
تعليمات صارمة
أمام هذه التحديات والهواجس وحالة الإرباك التي يعيشها الإسرائيليون، أصدرت قيادة رئاسة هيئة الأركان بالجيش الإسرائيلي تعليمات دخلت حيز التنفيذ بشكل فوري بإخفاء هويات الجنود والضباط المشاركين في الحرب على قطاع غزة، وكذلك فرض قيود على السفر للخارج، وحظر نشر الصور والفيديوهات وأسماء العسكريين والمضامين التي قد تستخدم كأدلة في الدعاوى بالمحافل الدولية.
في حين أسست النيابة العسكرية الإسرائيلية وحدة خاصة للاستشارة القانونية.
ووجه وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر تعليماته إلى غرفة الطوارئ للعمل بسرية وصياغة إجراءات عمل لمواجهة الملاحقة القضائية للجنود والضباط بالخارج.
وأصدر ساعر تعليماته بإنشاء آلية “الخط الساخن” لتلقي استفسارات الجنود والمدنيين، الذين يمكنهم الاتصال به والحصول على الدعم والاستشارة القانونية قبل السفر للخارج أو في حال تعرضهم لأي ملاحقة قضائية، كما أصدر ساعر تعليماته للمقرات الدبلوماسية الإسرائيلية حول العالم بإنشاء آليات لمراقبة المنظمات التي تعمل ضد جنود وضباط الجيش الإسرائيلي في الخارج.
ملاحقة جنود الاحتلال
تصاعدت الشكاوى القانونية ضد جنود وضباط الجيش الإسرائيلي بسبب جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبوها في قطاع غزة، وذلك بجهود تقودها مؤسسة “هند رجب”، التي تتخذ من بروكسل مقرًا لها، تعمل المؤسسة على تعقب هؤلاء الجنود ورصد تحركاتهم وسفرهم إلى الخارج، حيث تقدم شكاوى رسمية ضدهم في الدول التي يزورونها، ما يشكل تهديدًا قانونيًا متزايدًا لهم.
منذ اندلاع الحرب على غزة في الـ 7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تم تقديم نحو 50 شكوى ضد جنود احتياط خارج “إسرائيل”، وأسفرت هذه التحركات عن فتح 12 تحقيقًا في دول متعددة، منها البرازيل والأرجنتين وتشيلي وتايلند وقبرص، وردًا على ذلك، كثّفت وزارة الخارجية الإسرائيلية بالتعاون مع جهاز الموساد جهودها لتهريب العديد من الجنود والضباط من هذه الدول، خوفًا من اعتقالهم.
وتحمل المؤسسة اسم الطفلة هند رجب (5 سنوات)، التي قُتلت إثر قصف الجيش الإسرائيلي لمركبة كانت تحتمي بها مع ستة من أفراد عائلتها في حي تل الهوى مطلع عام 2024، تخليدًا لذكراها، رفعت المؤسسة طلبات اعتقال لنحو ألف ضابط وجندي إسرائيلي من حملة الجنسيات المزدوجة في ثماني دول، من بينها إسبانيا وأيرلندا وجنوب أفريقيا.
حسب صحيفة “يديعوت أحرونوت”، يكمن التهديد الأكبر الذي يواجه الجنود الإسرائيليين في الدول التي تعتبرها تل أبيب “معادية”، وتشمل أيرلندا والبرازيل وإسبانيا وبلجيكا وجنوب أفريقيا، حيث تُقدَّم ضدهم دعاوى قضائية متزايدة، ولم تقتصر الملاحقات على هذه الدول فقط، بل شملت أيضًا المغرب والنرويج وسريلانكا وهولندا وصربيا وفرنسا.
من جهة أخرى، كشفت مديرية الأمن العام والمعلومات التابعة للجيش الإسرائيلي أن الجنود المشاركين في الحرب البرية على غزة يوثّقون أفعالهم عبر صور ومقاطع فيديو يتم تحميلها يوميًا على وسائل التواصل الاجتماعي، بمعدل يصل إلى مليون مادة يوميًا، هذه المنشورات، التي تتفاخر بعمليات القتل والتدمير، أصبحت أدلة قانونية تُستخدم في الشكاوى المقدمة ضدهم، ما يزيد من احتمالات ملاحقتهم أمام المحاكم الدولية.
تحدٍ قانوني جديد يهدد الكيان
تكشف محاولة اعتقال أحد الجنود الإسرائيليين في البرازيل عن تهديد قانوني غير مسبوق يواجه “إسرائيل”، حيث لم تعد الملاحقات القضائية تقتصر على قادتها السياسيين والعسكريين الكبار، بل امتدت لتشمل الجنود العاديين الذين شاركوا في العمليات الميدانية، يمثل هذا التحول تحديًا كبيرًا لتل أبيب، إذ أصبح جنودها مهددين بالاعتقال والمساءلة في محاكم أجنبية، ما يستدعي -حسب الخبراء الإسرائيليين- وضع إستراتيجية وطنية عاجلة لمواجهة هذا الخطر المتصاعد.
ويبدو أن “إسرائيل” تلقت تحذيرات أولية بشأن تداعيات هذه الملاحقات، التي قد تتحول إلى موجة غير مسبوقة من الدعاوى القضائية ضد جيشها في مختلف أنحاء العالم، فمع تصاعد الانتقادات الدولية، وارتفاع حدة الجهود لعزل “إسرائيل” ومنع تزويدها بالسلاح، يصبح هذا التحدي أكثر تعقيدًا يومًا بعد يوم، وقد يتطور ليشكل تهديدًا استراتيجيًا وجوديًا لها.
وفي هذا السياق، كتب المحامي شنير كلاين، المختص في حقوق الإنسان، مقالًا في صحيفة “هآرتس” تحت عنوان “الجنود المطلوبون في الخارج ليسوا أعشابًا ضارة، بل هم الجيش بأسره”، حيث استعرض فيه الورطة القانونية التي تعصف بالجيش الإسرائيلي عالميًا.
يرى كلاين أن ردود الفعل الإسرائيلية تجاه أوامر الاعتقال تعكس ليس فقط اللامبالاة، بل إنكارًا خطيرًا للواقع، حيث تتجاهل الحكومة والجيش التداعيات المتزايدة لهذه الملاحقات، وأضاف إن هناك اتهامات متزايدة لرئيس الأركان هيرتسي هاليفي بعدم فرض الانضباط داخل الجيش، إذ يقوم الجنود بتحميل مقاطع فيديو توثق جرائمهم في غزة، من هدم منازل ونهب ممتلكات، إلى ارتداء ملابس النساء والتدمير العشوائي، وكل ذلك دون أي مساءلة أو إجراءات تأديبية، ما يجعل هذه الأدلة متاحة بسهولة أمام المحاكم الدولية، ويزيد من خطورة الوضع القانوني لـ”إسرائيل”.
سمة خاصة
كل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يُتهم بها الكيان الغاصب، والتي توجد أدلة كثيرة عليها -بعضها نشره الجنود أنفسهم، لا تعتبر انحرافا عن نهج الجيش وسياسات الحكومة، إنها ميزة للجيش بهذه الحرب، وليست خطأ أو انحرافا عن القواعد.
الإرهاب والإجرام ليسا سلوكيات طارئة على جنود الاحتلال الإسرائيلي وضباطه، بل هما جزء لا يتجزأ من عقيدتهم العسكرية وتاريخهم الحافل بالجرائم ضد الفلسطينيين، فمنذ قيام “إسرائيل”، ارتكب جيشها مجازر ممنهجة، بدءًا من دير ياسين وكفر قاسم، وصولًا إلى صبرا وشاتيلا وجنين وغزة، حيث لم يتورع جنودها عن قتل الأطفال والنساء، وتدمير المنازل على رؤوس ساكنيها، وتنفيذ عمليات إعدام ميدانية، ونهب ممتلكات المدنيين.
ما يجري اليوم في غزة ليس استثناءً، بل امتداداً لسجل دموي طويل، حيث يتباهى جنود الاحتلال عبر وسائل التواصل الاجتماعي بجرائمهم، ما يكشف عن طبيعة هذا الجيش الذي يرى في القتل والتدمير وسيلة لترسيخ احتلاله، هؤلاء الجنود، الذين نشؤوا على ثقافة الكراهية والعنف، لا يعرفون سوى لغة القوة والبطش، مدفوعين بعقيدة استعمارية ترى في الفلسطينيين شعبًا يجب إبادته أو تهجيره، وهو ما يجعل من “إسرائيل” كيانًا خارجًا عن القانون، محكومًا بعقلية الجريمة المنظمة.