يكبُر صمود اليمنيين يوما بعد آخر، وبقدر تحدي العدوان لنا ينمو ويشتد ساعد صمودنا، والصبر عاقبته الظفر، ومن الأشجار ما تحتاج من الناحية الطبيعية إلى أكثر من عشر سنوات لتعطي الثمار المطلوبة، وقد صدق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لما قال كلمة مهمة وملهمة: (لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان).
لا يجوز أن نكون أقل من العدوان تحملا وتجملا، ولا أن نتراخى عن طلب هزيمتهم والتنكيل بمرتزقتهم، (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً) النساء104، وإذا كانت عاقبة الهزيمة في هذا العدوان هو العبودية والاستذلال والاستضعاف والاحتقار لعشرات ومئات السنين، فإنه لخيرُ من ذلك أن نصبر الصبر الاستراتيجي لبضع سنوات في مقاتلتهم، وملاحقتهم، وابتغاء هزيمتهم، فصبر في منهاج الكرامة والعزة بضع سنين، خير من حياة في ذلة ومهانة واستضعاف مئات السنين، وبذلك تميّز العقلاء الثابتون، وفاز الشجعان الأكرمون، ونجب الفرسان الصامدون، وخاب الأذلاء متزلزلو الأقدام.
فضيلة توصل إلى أخرى
إن البلاء في المال والنفس والعرض مدرسة يتخرج منها أهل العزم، ويمير من فيضها أهل المعالي؛ ألم يقل الله تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) آل عمران186، والصابرون هم من يزدادون قوة ومرانا ومراسا، ويشتد رفضهم للهزيمة والانكسار كلما تقدم بهم الوقت، وكلما صبروا كلما ازدادوا قوة إضافية، وقدرة أعلى لمواجهة تحدياتهم، وكلما صبروا كلما اطلعوا على الطاقات الكامنة التي أودعها الله فيهم في مواجهة المستكبرين، وفي هذا تأهيلٌ لهم لمراحل أخرى أكثر صعوبة فيها يصطفيهم الله إليه، ويقربهم منه، وكلما اشتدت بهم النوائب، واستحكمت عليهم حلقات الضيق كلما وجدوا الله هناك معينا وناصرا، وانفتحوا على الرب القادر القاهر المدبر والمعين، وهنا تتثبت علاقتهم بالله القهار، ويتقوى ارتباطهم بالقادر العالم الجبار، وهناك يكون من أهل العزم، وأهل العزم هم الجديرون بتحقق أهدافهم، وفي المحصلة إذا بالإنسان عبر الصبر الاستراتيجي يكون قد أدّى عبادات كثيرة في عبادة واحدة، وأهّلته فضيلة الصبر فيها لعدد كريم من الفضائل الأخرى، ليس آخرها إلا النصر على الأعداء.
رمضان والصبر
يتذكر اليمنيون في العام الماضي حين أظلتهم رحمة الله وعفوه وغفرانه في رمضان في الوقت الذي كانوا يصدرون فيه أفضل العبادات في سبيل الله جهادا وصبرا وعزيمة وتوكلا على الله، وانفتاحا عليه وارتقاء به سبحانه وتعالى، وها هو رمضان الجديد يظلنا ولا زال العدو يعتدي علينا مع تطوّرٍ جديدٍ متمثلٍ في انكساره وفشله وخيبته، ولكن صمودنا أقوى، واستعداداتنا أوفر، ومعنوياتنا أعلى، وخسائرنا أقل، وإن يكن من فضلٍ في ذلك فإنه يعود إلى فضيلة الصبر.
هذا الصبر الذي هو أول الدروس التي يستفيدها المسلم من شهر رمضان، شهر الطاقة المتجددة، الشهر الذي يتقاطر من ثنايا بركاته الصبر، ويفيض من أمزان خيراته اليقين، ويثمِر من أشجار كراماته النصر. شهر رمضان هو شهر الصبر، وهو المدرسة التي تعلمنا الصبر، والثبات، واليقين بالله، والارتباط به، والرجوع إليه، وهو المحطة الموسمية الكبرى التي فيها يأنس المؤمنون، ويستبشر المتوكلون على الله، ومنها يستمد المجاهدون العزيمة والصبر.
الصبر الجميل في القرآن الكريم
غير أن هناك مصطلحا جميلا ورد في القرآن الكريم في موارد الصبر، وهو (الصبر الجميل)، فما معنى الصبر الجميل؟ وما علاقة اليمنيين في صمودهم وثباتهم بهذا المصطلح الرائع الذي نشتم منه رائحة الأنس به والقرب إليه كيمنيين.
لقد ورد مصطلح الصبر الجميل في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم:
الموضع الأول في سورة يوسف، يقول الله تعالى: (وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ{16} قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ{17} وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ{18}).
في هذه الآيات يعرض الله صورةً لمؤامرةٍ كان ضحيتها هذا النبي الكريم يعقوب، وولده يوسف، إذ كاد إخوة يوسف له، وأجمعوا أن يشرِّدوه أو يقتلوه، حتى يستخلصوا قلب أبيهم لهم وحدهم، فسوّلت لهم أنفسهم افتعال قصة مكذوبة، حبكوا فصولها الواهمة، وشيدوا بنيانها المتهاوي، فنفذوا اعتداءهم على أخيهم الصغير، وأبيهم الشيخ الكبير، وأتوا يذرفون دموع التماسيح، ويتهمون زورا وزيفا ذلك الذئب البريء، ومن الطبيعي أن مثل هذه المؤامرة لا تنطلي على نبي مؤمن يرى بنور الله، ويثق بأن الله ناصر عباده المستضعفين، لقد كانت مؤامرة خطيرة، وتتطلب وقت مستقبليا لكشف الحقيقة، والنبي الوالد يثق أن الله سيجلي الحقيقة، وسيبين القضية، ولكن المسألة تتطلب وقتا، وتتطلب صبرا، هؤلاء الذين نفّذوا عدوانهم للأسف كانوا من أقربائه، وهم أهل الشوكة والقوة لديه، فهل سيستسلم يعقوب لروايتهم الكاذبة، أم ماذا يفعل؟
لا، بل أسلم نفسه لله تعالى، هنا كان لا بد من الصبر الجميل، الصبر الاستراتيجي، الصبر على الموعود الإلهي المستقبلي بنصر الله لعباده المستضعفين، الصبر على هذا المكر، والكيد، الصبر على اضطرام نار الشوق إلى الولد الحبيب اليتيم الصغير، والصبر على احتدام الظنون والأوهام والخلوص منها إلى الحقيقة، الصبر الذي لا شكوى فيه إلا لله تعالى، والشكوى لغيره مذلة. هنا سلم يعقوبُ الأمرَ لله ربه، فهذه مؤامرة خطيرة، ولا يملك فيها أي خيط لكشف الحقيقة؛ لذا أرسل الصبر على عواهنه إلى الله، وطلب العون منه في هذه القضية الشائكة.
في هذا الآيات كان الوضع قد تغير، لقد بات الأبناء – الذين سبقت منهم المعصية – ملزمين بالمواثيق التي قطعوها لأبيهم في حفظ أخيهم الثاني، ربما يكون قد اعتراهم الندم، ورأوا أنهم قد أخطأوا في حق أخيهم الأول؛ لذا يعرض القرآن الكريم كيف جاؤوا إلى أبيهم، وقد جمعوا الأدلة على براءتهم، وعلى سعيهم الحثيث في عدم تضييع أخيهم الآخر، وهنا أطلق نبي الله يعقوب مرة أخرى مرحلة أخرى من الصبر الجميل، الذي يصبر فيه على الموعودات الإلهية التي يؤمن بها، التي تتضمن الفرج والنصر، ولكنه لا يعرف زمانها، ولا مكانها، فأسلم نفسه مرة ثانية لله تعالى، وركب متن الصبر الطويل، إلى فسحة فرج الله ونصره، هنا الصبر الجميل الذي يقتضي وفرة الأمل في ضميره، وتزاحم الثقة بالله تعالى في شعوره، فهو بينما يفقد ولده الثاني، يرجو من الله أن يأتيه بالولد الأول، وإذا به يقول: (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا)، فالله في عقيدته ووعيه (العليم الحكيم) يعلم أين يوسف، وحقيقة أمره، وكيف ستكون العاقبة، وهو الحكيم في كل تلك الأمور، له حكمة في هذا البلاء برمته، وله حكمة في غياب يوسف، ثم في غياب أخيه، وبين علم الله الخارق لحُجُب الزمان، وحكمته المسيِّرة لشؤون الأوان، تشرِق آمالُ المؤمن الواثق بالله تعالى، وينطلق الرجاء الفسيح.
إنه الصبر الجميل، الذي اقتضى من صاحبه وصف الله بأفضل الأوصاف، والثقة العالية بما لديه، والإيمان بالمستقبل إيمانا كبيرا.
الصبر الجميل اقتضى منه أن تقتصر شكواه على الله تعالى، يشكو له تعالى بثه وحزنه، ولا يصاب الهلع، ويعلم من الله أمورا أخرى، لم يفصح عنها.
الصبر الجميل اقتضى منه أن يتحرك أيضا في المضمار العملي؛ هاهم الأولاد الآن قد تغير اتجاههم، ولعلهم قد ندموا، وأمّل فيهم خيرا؛ لذا أمرهم بتحسس يوسف وأخيه، وطلب منهم الشعور برَوح الله، والرَّوح هو الفرج من الله، حين يتحرك الواقع (التحسس) ويصاحبه الوجدان (الشعور برَوح الله تعالى ومعيته وسعة ما عنده من تدبيرات الفرج) فإن النتيجة ستكون الفلاح، ثم يلفت النبي الكريم في هذا الصبر الاستراتيجي إلى الهدف التربوي للمبتلى، الصابر، وهو أن من تمام الإيمان أن يكون الإنسان منتظرا لرحمة الله وفرجه وسعة تدبيراته.
وأما الموضع الثالث ففي سورة المعارج، حيث يقول الله تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ{1} لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ{2} مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ{3} تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ{4} فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً{5} إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً{6} وَنَرَاهُ قَرِيباً{7})
في هذه الآية الكريمة، يأمر الله نبيه الكريم مقابل تعنت الكافرين، وتحديهم للقدرة الإلهية المتلطِّفة بهم، واستعجالهم الشر الذي لا ينفعهم، بالصبر الجميل.
حينما يجد النبي نفسه محتاجا أشدا ما تكون الحاجة إلى سرعة تدخل الله لنصرة حجته، وإعلاء كلمته، والإتيان بأسرع ما يمكن بما أنكره الكافرون في تلك اللحظة لينتصر ماديا على المنكرين للبعث والحساب، لكن الله يأمره بالصبر على هذا الموعود الإلهي المستقبلي الذي هو أشد ما يكون محتاجا لوقوعه، يأمره الله أن يصبر الصبر الجميل، الصبر الذي لا نزق فيه، ولا عجلة، والصبر الذي يشعر بأن ذلك الأمر سيحدث، وأنه لا بد سيأتي.
الجامع بين المواضع الثلاثة
هناك أمر مستقبلي يحب المؤمنون حصوله، ولكنه لا يحصل في الوقت الذي يريدونه، بل يتأخر حصوله إلى الوقت الذي تتحقق فيه حكمة الله، وعلمه، وتواتي تدبيراته، وهناك قهر كبير وغصة أليمة يشعرون بها ويودون لو أنها تتحقق في أقرب وقت، وللأسف فمن تسبّب في هذه المسألة هم أقارب وذوو الشخص المؤمن، والمبتلى، فأبناء يعقوب وإخوة يوسف هم من تسببوا في هذه المصيبة التي تطلبت الصبر الجميل منه. وقريش أقارب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هم من أنكروا اليوم الآخر، وطلبوا نزول العذاب المستقبلي.
اليمنيون و الصبر الجميل
ما بين عام وبعض عام من العدوان صبر اليمنيون صبرا طويلا، وجميلا، فلم يكن صبرهم هو الصبر السلبي الذي يستسلم للحادثات والمصاعب والآلام بشكل يجرّئ العدو بشكل أكبر، بل هو الصبر العملي الحركي، الذي رأيناه في قول نبي الله يعقوب، وقد أعلن الصبر الجميل، الصبر الذي يأتي من مصاديقه: (فتحسسوا من يوسف وأخيه)، الصبر الذي يملأه الوجدان الصادق بنصر الله، والشعور العارم باليقين بالفرج من الله، (ولا تيأسوا من روح الله).
لقد شن الجيران عدوانا قذرا، ووحشيا، وغير مسبوق، تنفيذا لرغبات الأمريكان والإسرائيليين، وانطلق معهم بعض اليمنيين فكانت حالة اليمنيين في هذا تشبه حالة نبي الله يعقوب الذي ابتلي بعداء أبنائه، وحالة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع قومه من قريش، وكان الصبر الجميل هو زادهم، وهو سلاحهم، مع ثبات الجبال، ورسوخ الرواسي.
شنوا أوقحَ حربٍ، وأفظع عدوان، وأكثرها وحشية، وقذارة، وسفالة، وحقارة، وبالأسلحة المحرمة، وعلى الأحياء والمدن والقرى في شعب مسالم طيب كريم، من دون سبب، فاستهدفوا النساء والأطفال، والأحياء السكنية، والمساجد، والمقابر، والأسواق، والمشافي، والمدارس والجامعات، وفجروا المساجد فقتلوا الراكعين والساجدين، وفخخوا السيارات في المدنيين، فصبر اليمنيون في كل ذلك صبرا جميلا، وثبتوا ثباتا أسطوريا، فما استهدفوا إلا أهدافا عسكرية، وما صوّبوا نيرانهم إلا إلى أعدائهم المجرمين، وكان بإمكانهم واقعا أن يردوا بالمثل، مدني بمدني، وقتل نساء وأطفال بنساء وأطفال، وكان ذلك سيعجل بهزيمة العدو، وباستسلامه، لكنه كان أيضا سيعجِّل بهزيمتنا أخلاقيا وإسلاميا، وسيسلبنا فضيلة الصبر الجميل.
شنت أغنى الدول مالا وأكثرها تسليحا وأقواها طيرانا على أفقر الشعوب مالا، وأضعفها تسليحا، وحشد الكون مرتزقته من كل حدب وصوب، وقذفت الأرض بمجرميها لقتل اليمنيين وقتالهم، وكانت النتيجة بالمعطيات المادية هو الهزيمة الساحقة لليمنيين، والهلع الفظيع، والقتل الذريع، لكنهم بتثبيت الله وتأييده صبروا صبرا جميلا، ووثقوا من أول يوم بأن نصر الله قادم، وأن العدو في هزيمة وإن عربد واستكبر، وطغى وتجبر، ومضت الشهور، وها هي تمضي السنون وهم في فشل، وخيبة، وهزيمة، بينما يكتسب اليمنيون يوما بعد آخر اليقين بالنصر من الله، ويتسلحون بالصبر، ويتدرعون بالمرابطة في ميادين الجهاد، والثبات في ساحات الكرامة، صبرهم الجميل هو ثقة بالموعود الإلهي المستقبلي، وبنصر الله القادم، بل إن ذلك لهو الصبر الجميل بالمكان الأعلى، وله فيه القدح المعلى.
حاصرونا برا وبحرا وجوا، ومنعوا الغذاء، والدواء، والماء والكهرباء، واشتروا العالم للحرب معهم، أو السكوت على جرائمهم، وأرادوا بذلك استثارة الشعب على بعضه، واضطغانه على نفسه، فما زاد ذلك المؤمنين المجاهدين في اليمن إلا إيمانا وتسليما، وما ازدادوا من بعضهم إلا قربا والتحاما، وكانوا مثال الصبر الجميل في هذا الزمان القبيح.
لقد قالوا: إن الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه إلا لله تعالى، وهل رأيتم اليمنيين في هذه المعركة إلا يطاولون الجبالَ عزةً، ويفيضون كالبحار كرامةً، ولم نجد مثلهم شعبا يتقلَّب بين صروف الموت، ويسكن بين أنياب القصف، ويستنشق كل يوم غبار الدمار والخراب، ومع ذلك لا يلجأ منهم لاجئ، ولا يهرب إلى خارج البلد هارب، وإذا هرب منهم أحدٌ فمن بيته إلى المعركة، ومن مترسه إلى مترس زميله، وإذا استجاز مجاهد إجازة فهي ليس إلا لمداواة جراحه، فإذا ما أبلّ منها قليلا انطلق ولا زالت جبائره معلقة على كسوره، وكأنه الولهان للعودة إلى مرتع فضيلته، ومكمَن عزه ورجولته، إلى أرض المعركة، فهل هناك صبر يشبه هذا الصبر، وهل رأيتم فخرا يقارب هذا الفخر.
لقد صبروا جميلا على مقاساة الأهوال الشديدة، والغربة الأكيدة، صبروا على الجوع، والعطش، وصبروا على انعدام تكافؤ الأسلحة، وقّلتها، وعلى أحدث أسلحة الطيران لدى العدو، وصبروا على أذى المرتزقة، وخياناتهم المتكررة، ولم يزعزع ثقتهم إعلام المعتدين الكذوب، ولا إرعادهم وإبراقهم الخلّب، وصبروا على الحصار الاقتصادي، وإرجاف المرجفين، وكيد الكائدين، وتربص المتربصين، وصبروا على مشاهد الدمار، ومقاساة الأهوال، وتقطع الأوصال، ومشاهدة الأصدقاء والأقارب وهم يغادرون الحياة في وحشية قاهرة، وظروف فاجرة، فما زادهم ذلك إلا إصرارا وإيمانا أنهم على الحق الصراح، والموقف الوضاح. لقد صبروا على التلاعب بالمشاعر، والكيد في المنابر، وحرب الأعصاب، ومبارزة الضمائر، بالإرجاف والتهويل، والكيد، والتخويف.
وإن تعجب فمن تلك المرأة اليمنية التي يتكرر مشهدها بشكل يومي، وهي تستقبل شهيدها الوحيد، مزغردة مسرورة، تزفه زفاف العريس، وتعلنها فرحة مدوية، وعرسا كبيرا، وإن تعجب أيضا فمن تلك الزوجة التي أطلقت عنان فضيلة زوجها إلى السماء، ووهبته لله رب العالمين، ليحفظ الأرض والعرض، صبر جميل في الفراق، وزغردة عند الوداع، وفرح عند نبأ الصدمة الأولى، بشكل لم نشهد له في التاريخ مثلا، وهل ذلك إلا الصبر الجميل، الذي لم يكن اليوم إلا اليمنيون، وما كان اليمنيون إلا إياه.
ومن جانب آخر صبر المجاهدُ المخلِص على مشرِفِه المقصِّر أو المفرِّط، وصبر المشرِف النشيط على بعض أفراده المقصرين، وصبر كلا الطرفين على قلة الزاد، ونقص العتاد، وصبر المجاهد على أخيه وزميله، والآخر على حاجة أمه واحتياج أبيه، وصبروا على السهر في الليالي الطويلة، وعلى الجوع والعطش في الأوقات العصيبة، وصبر المجاهدون على توطيد قواعد الأمن في المدن، والأرياف، وعلى الثبات أمام موجات المؤامرات، التي يشنها الأعداء من الداخل، ويمولها الأعداء من الخارج، فحرب اقتصادية هنا، وافتعال مشاكل اجتماعية هناك، وإثارة المسائل الفكرية في الشرق، والنعرات الطائفية والمذهبية في الغرب، وكل ذلك يمر على يمن الصبر الجميل كأن لم يكن، أو كأنه برد وسلام، وفضل وإنعام، وما ذلك إلا لخيرٍ أراد الله أن يسوقه لمعاشر اليمنيين أهل الإيمان والحكمة، والفقه والإيمان. وصدق الله تعالى إذ يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) آل عمران200
وفي التاريخ .. كانوا صبرا جميلا
في بعض أيام صفين اشتدت الحرب على أنصار الإمام علي عليه السلام، فثبت أهل الشجاعة منهم، وتميز الأبطال عن سواهم، وكان الأشتر النخعي اليماني قد مرّ بقائد يماني آخر يدعى زياد بن النضر الحارثي وقد توسط الأعداء، والتحم بهم، وهو لا يزداد عليهم إلا ضراوة، ولا يزداد ضدهم إلا استبسالا، فقال الأشتر: (هذا وَالله الصبر الجميل هذا وَالله الفعل الكريم)، ثم مضى يسيرا حتى مروا عنده بيماني ثالث، هو يزيد بن قيس الأرحبي اليماني وكان قد استُلْحِم وجرِح، فحملوه وأخرجوه، فقال الأشتر: من هذا؟ قالوا: يزيد بن قيس، لما صرع زياد بن النضر دفع رايته لأهل الميمنة فقاتل تحتها حتى صرِع، فقال الأشتر: (هذا وَالله الصبر الجميل، هذا وَالله الفعل الكريم ألا يستحيي الرجل أن ينصرف ولم يقتل، أو لم يشرف على القتل).
إيهٍ يا أشتر إن ذلك الصبر الجميل في المعركة، فلا ينصرف منها المقاتل إلا شهيدا، أو جريحا جرحا لا يستطيع معه الحراك، يعرفه اليوم أحفادك، وأحفاد زياد بن النضر، وأحفاد سعيد بن قيس الهمداني، وأحفاد يزيد بن قيس الأرحبي، وسل عن الصبر الجميل، في باب المندب العز، والمخا البطولة، وفي ميدي العزة القعساء، وفي صرواح الكرامة الشمَّاء، وسل عنها في عقبة لودر القريبة من أرضك النخع التي تنتمي إليها، لقد أعادوا فيها الصبر الجميل جذعا، وارتاده اليمانيون الأبطال اليوم صفوا من غير كدر. سل عنها أي مكان يماني تجد فيه صبرا جميلا يزدهر، وثباتا كريما ينطلق، كما لا نستحي أن نقول لك أيضا: إنه للأسف أيها الصنديد اليماني الأول فعندنا كما كان عندكم حكاية لمرتزقة ينتسبون زورا إلى يمنيتنا، لكنهم قد نفر نافرهم إلى (سيد الأذناب) في عصرنا، كما نفر بعض منهم في عهدك إلى (سيد الأذناب) في عصرك، ومن وراء ذلك يردد الأبطال زواملهم، ويقول قائلهم:
تصبّر فإنّ الصبر بالحرّ أجمل
وليس على ريب الزمان معوّل
وما أجمل قول سيدنا موسى عليه السلام لقومه: (اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) الأعراف128.
خاتمة الصبر الجميل
إن الصبر جميل، لأن بدايته في النهاية جميلة، ولأن نهايته جميلة، ولأن اجتيازه جميل، ولأن الثقة فيه بالله تعالى جميلة، ولأن خاتمته جميلة، وذكرياته جميلة، وما أجمل فشل أعداء الله عنده، وما أجمل أن يجد الإنسان هدفه بعد مشقة وصعوبة، وأن يحقق بغيته بعد دورة امتحان واختبار، تتزكى فيها النفوس، وتتطهر القلوب، وترتقي العزائم، وتختَبَر الإرادات، وتمحص النيات، وكل ذلك جميل من الله تعالى.