ليلى و البحر
د. أسماء الشهاري
بينما والدة ليلى تمر من أمام غرفتها رأتها تمسك بصديقتها الصَدفة بكلتا يديها و الدموع تتساقط من عينيها على صدفتها و هي شاردة الذهن حتى أنها لم تلاحظ وقوف والدتها خارج باب الغرفة..
ثم بدأت ليلى تخاطب الصَدفة: هل تذكري أول مرة قابلتكِ فيها عندما كنتِ على الشاطئ قريبة من البحر.. كم كنتِ لامعة و جميلة.. فسارعت لأخذك و قلت سأبقيكِ كذكرى لهذه الأيام الجميلة التي لن أنساها أبداً..
نعم.. تلك الأيام يا عزيزتي.. ما أجملها و أجمل ذكراها.. عندما ذهبت لزيارة تلك المدينة الحبيبة جداً إلى قلبي و التي أحبها أكثر حتى من مدينتي التي أعيش فيها.. أحبها بكل تفاصيلها بجمالها و هوائها و طيبة ساكنيها الذين هم أهلي و ناسي…و صديقي البحر… آه لو تعرفين كم أحبه.. و كم أشتاق إليه..
في آخر زيارة له.. تكلمت معه طويلاً.. و حدثته بأسرار لم أحدث غيره بها.. و أخبرته بكل همومي و آلامي ليحملها مع أمواجه فترحل بعيداً عني..
عانقت شاطئه و أمواجه و جعلت من أشعة الشمس الذهبية التي تغفو بداخله عقداً فريداً لم يكن لكل صائغي العالم أن يحاكوا جماله.. كم كان جميلاً ..
آه..
أما نسيمه و هواؤه العليل فماذا لي أن أقول عنه أو كيف لي أن أصف روعته و عذوبته .. كم أحب تلك الرائحة المنبثقة من قلب صديقي البحر و التي تفوح رائحتها في كل المدينة لتطلي عليها طابعا قل نظيره في العالم كله و كم أطربتني تغريدات الطيور .. و لكم صنعت من رماله قلعةً للصمود و الحرية..
لكن زيارتي في تلك المرة كانت مختلفة عن غيرها لأني رأيتُ لوناً أزرق تداخل مع الألوان التي نحبها أنا و صديقي البحر و لا يمكن أن نساوم عليها وهي الأبيض و الأسود و الأحمر.. ثمة تغيير مخيف خيّم على المدينة كأنّها كانت تصرخ منه؟ و كأنّهُ يُنذِر برياحٍ عاصفه ستجعل صديقي البحر حزينا على غير عادته..
لذلك لم أدرِ هل كان يعاتبني أم كنت من أعاتبه، و تارةً كنت أصارع أمواجه و تارةً أخرى كانت هي من تصارعني، وكنت أقول له أخبرني ماذا أفعل؟ لكن لا تغضب مني فأنا لا أطيق زعلك..
أتذكر كم كانت أمواجك تداعبني و تصطدم بي و تتقاذفني ليتني أخبرتها أن تحملني على ظهرك فتأخذني بعيداً بعيداً حتى تواريني في أعماقك هناك حيث أحب أن أكون حتى لا أفارقك .. كم أحبك عندما تغمرني من فوق رأسي.. ليتني عندما كنت أُبحِر فيك بهدوء و يداي تداعب موجك وصلت إلى أعمق مكان فيك لأحتضنك.. وحتى لا يقول لي أحد أني لن أتمكن من رؤيتك ثانية..
لا تسألني ما الذي أحبه فيك أكثر؟
الشروق أم الغروب أم غموضك و هيبتك في سواد الليل، الرمال أم الرياح و الجبال.. أم انعكاس زرقة السماء فيك.. أم عندما تغوص الشمس فيك و يغرق في عشقك القمر.. أم أنه عطاءك اللامتناهي كامتدادك و سعتك..أم توافد الناس إليك ليعظموا خلق الله.. فأنت من أعظم مخلوقاته و أنت قِبلةً للحب و العبادة..
ها أنا ذا أسمع صوتك من صدفتي الحزينة لكني لا أراك.. ليتني أخذت منك قارورة لتكون عطري الذي خبّأتُه لهذه الأيام الموحشة..
و هل يرضيك أن تداعب أمواجك من جاء لقتلي؟ أم هل ستسمح له أن يمنعني من رؤيتك؟ هل سيجلس هو على شاطئك و أنا أُُحرم منه؟ هل ستُشرق شمسك على وجهه البغيض و تغرب أمام ناظره و أغرب أنا بحسراتي و ألمي؟ هل هذا هو العهد منك؟ أجبني.. أجبني.. لماذا لم تأخذني قبل أن يأخذوك مني؟
هنا.. دخلت أم ليلى إلى غرفتها و هي تصرخ و تبكي و قد ملأت الدموع عينيها.. و قالت لها :هوني على نفسكِ أيا بنيتي.. فلا أحد سيأخذه منكِ.. و لن يقبل هو بذلك.. فإنَّ هناك رجالاً لن يهدأ لهم بال حتى يجعلوا من جثث الغرباء طعاماً لحيتانه.. و يجعلوا الشمس تُشرِّق على عويلهم و تغرب على جثثهم النتنة التي تتقاذفها أمواجه الطاهرة لتعيدهم من حيث أتوا و قد عاهدوا الله على ذلك،،
“صحيفة الثورة”