لحظاتُ وداعٍ
القاصة / زينب الشهاري
أدرَكَتْ حينَ رأتْ تلك العبراتِ تترقرقُ في عينيهِ أنه لا يمكنُ لأي شيءٍ أن يقفَ حائلاً دونهُمَا، رغمَ محاولاتِها هيَ و أبيهِ المتكررةِ في إقناعهِ بأنَّهُ لا يزالُ في السادسةِ عشرةَ من عمرهِ ، و هناكَ من يفوقُونَهُ سناً و أقدرُ منهُ على الذهابِ ، لكنَّ كلُّ محاولةٍ لهمَا باءتْ بالفشلِ ، و استيقنَا أخيراً بأنهما لن يكونَا حجرَ عثرةٍ بينَهُ و بينَ شيءٍ عشقَهُ حدَّ بذلِ الروحِ و التضحيةِ بها …
ها هي لا تزالُ تتذكّرُ عتابَها له كلَّ مرةٍ يعودُ فيها حافيَ القدمين ،، فيبتسمُ ابتسامتَهُ المعتادةَ و هو يقولُ بكلِ هدوءٍ : تركتُهمَا لمن هوَ أحوجُ مني…
لم يكنْ في نظرِهَا سوى طفلِهَا الصغيرِ ، رغمَ معرفتِها بأنَّ روحاً جبارةً تسكنُ ذلكَ الطفلَ ، و بأنَّ عقلاً يملُكُهُ يضاهي في الوعيِ من يفوقونَُه في العمرِ…
لا زالت تتذكّرُ نفسَهَا و هي تزجُرُهُ في كل مرة تعطيه المال فينفقه سريعاً و تلوحُ تلكَ الابتسامةَ الهادئةَ التي لا تفارقُ محياهُ قائلاً: كان ينقصُهُم كذا و كذا فأعطيتُهم…
لم تنسَ أبداً لحظاتَ الوداعِ الأخيرِ حينَ وقفَ أمامَها متوشحاً سلاحَهُ و هي تمازحُهُ و تقولُ : انظرْ إلى السلاحِ يبدو أكبرَ منكَ يا ولدي.. ، فيقبِّلُ يديها و تبرقُ تلكَ النظراتِ من عينبغيَ التي تحملُ كلَّ معاني الإباءِ و الرجولةِ ، فتجتاحُ كيانَها مشاعرُ الزهوِ و الفخرِ و العزةِ فيُسابقُ فؤادَها فمَها بالدعواتِ له بأن يحمِيهِ المولى و يرعاهُ…
في تلكَ اللحظاتِ أخذتْ ترددُ في نفسِها قائلةً : ها هو ابني كبرَ و حملَ همَّ دينهِ ووطنهِ ، ها هو يصبحُ من المسارعينَ في اللحاقِ بركبِ العظماءِ.. رجلي الصغيرُ ذو ال١٦ عاماً لم يرضَ أن يحجزَ مقعداً له بين المتفرجينَ، أبى إلا أن يكونَ من صناعِ تاريخِ وطنٍ ينتصرُ برجالِهِ، و يكونَ من إحدى معجزاتِ الثباتِ و النصرِ،، و أن يكونَ من أحدِ الأيادي التي كفَّت بغيَ المعتدينَ عن أرضهِ،،، رجلي الصغيرُ كان أسمى من أن يرضَ بحياةِ الموتى الأحياءِ على الدنيا ، و اختارَ حياةَ الخلودِ و ارتقاءِ الأولياءِ،،، ذهبَ رجليَ الصغيرَ ليواجهَ الطائراتِ و الصواريخِ و المدافعِ و المدرعاتِ و الدباباتِ بسلاحهِ الشخصيِّ و إيمانِهِ.. رجلي الصغيرُ ذو ال ١٦ عاماً ذهبَ ليردعَ الخطرَ عنِ المرجفينَ و المنافقينَ الذين لا همَّ لهم سوى الاستمتاعِ بالأباطيلِ و الأراجيفِ و الأكاذيب…ذهب ليمنعَ الموتَ عن القاعدينَ في بيوتِهِم المتنعمينَ بالنومِ على أسرتِهم…
ها هي اليومَ حين زُفَّ إليها خبرُ عرسِهِ نحو الجنانِ تقولُ :
رجلي الصغيرُ – لا بل رجلي “الكبير” – ذهبَ حيثُ لا يمكنُ إلا لأمثالهِ أن يذهبُوا،، و طابَ له المقامُ حيث لم يهنأ له إلا السكنَ هناكَ و نالَ مرتبةَ الشهادةِ .. بينما الكثيرُ غيرُه ممن يرونَ أنفسَهم رجالاً رضوا بأن يكونوا مع الخوالف .. فطبع الله على قلوبِهم .. ويالَلمُفارقةِ!!