عطوان : ما هي أسباب النفي السعودي المفاجئ لوساطة عراقية مع إيران؟ وهل تقف أمريكا خلف هذا التصعيد؟ وما هو دور الأزمة مع قطر؟
عبد الباري عطوان
التصريح “الغاضب” الذي صَدر عن “مصدرٍ” سعودي مسؤول أكّد فيه أن “المملكة لم تَطلب وساطةً بأيّ شكلٍ كان مع جمهورية إيران، وأن ما تم تناقله من أخبارٍ بهذا الشأن عارٍ عن الصحّة، وأنها تتمسّك بمَوقفها الرّافض لأي تقاربٍ مع النظام الإيراني الذي يَقوم بنشر الإرهاب والتطرّف في المنطقة”، كان صادمًا ومُفاجئًا، ويَكشف عن تغيير حادٍّ في مَوقفها، نَسف كل نظريات التفاؤل التي رجّحت انفراجًا في العلاقات، أو حُدوث هُدنةٍ بين البلدين، أي إيران والسعودية.
ما الذي أغضب القيادة السعودية ودَفعها إلى إصدار هذا البيان “التصعيدي”، وهي التي استقبلت قادةً وسياسيين من الطائفة الشيعية العراقية بحفاوةٍ لافتةٍ، وبَعضهم مُقرّب من إيران، وقاتل تحت مِظلّة الحرس الثوري الإيراني بقيادة الجنرال قاسم سليماني، ونحن نتحدّث هنا عن السيّد قاسم الأعرجي، وزير الداخلية العراقي، الذي حلّ ضيفًا “عزيزًا” على المملكة يوم 18 تموز (يوليو) الماضي، وحَظي بلقاءٍ “حار” من قِبل الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد.
ما يَجعلنا نَطرح هذا التساؤل، التحسّن المُتسارع في العلاقات السعودية الإيرانية في الأشهر الثلاثة الماضية، وأثار العديد من علامات الاستفهام، وانعكس هُدنةً مَلحوظةً، رغم ما ورد على لسان الأمير بن سلمان في مُقابلة مع قناة “إم بي سي” (في أيار ـ مايو الماضي) من هُجومٍ شرسٍ على إيران، مثل قوله “الحوار مع إيران مُستحيلٌ بسبب إيمانها بالولي الفقيه، والمهدي المُنتظر، وأن إيران تُريد الاستيلاء على الأماكن المُقدّسة، وعلينا أن لا ننتظرها وأن ننقل الصّراع إلى عُمقها”.
***
بدايةً، وقبل أن نُجيب على هذه التساؤلات وغيرها، يُمكن تلخيص جوانب هذا التحسّن في النّقاط التاليّة:
- أولاً: رفع المُقاطعة عن قُدوم الحُجّاج الإيرانيين لأداء فريضتهم، والتجاوب السعودي مع مُعظم المَطالب الإيرانيّة في هذا الصّدد، بمُرونةٍ غير مسبوقةٍ، بل ووجود وزير الحج السعودي على رأس وفد استقبل الدّفعة الأولى منهم.
- ثانيًا: المُصافحة والعِناق الذي تم بين السيد عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف في أول تموز (يوليو) الماضي في إسطنبول، على هامش مؤتمر لمُنظّمة التعاون الإسلامي حول القدس، وتأكيد صُحف إيرانيّة أن السيد الجبير هو الذي بادر بالمُصافحة.
- ثالثًا: سَماح السلطات السعودية لعَشرة دبلوماسيين إيرانيين بالتواجد في ثلاث مُدن سعودية للسّهر على راحة حُجّاجهم، رغم قطع العلاقات الدبلوماسية، وإغلاق السفارات والقُنصليات مُنذ جريمة حَرق السفارة السعودية عام 2015.
- رابعًا: فَتح معبر عرعر الحُدودي بين العراق والمملكة لأول مرّة منذ أكثر من عشرين عامًا.
- خامسًا: إقدام السيّد تامر السبهان في 13 تموز (يوليو) على مَسح تغريدة على حسابه على “التويتر” هاجم فيها الإمام الخميني بشراسةٍ، ومنهجه الشيعي بعد 24 ساعة من نشرها، والسيد السبهان جرى إبعاده من بغداد التي عُيّن فيها سفيرًا للسعودية بسبب تدخّلاته “الطائفية” في الشؤون العراقية الداخلية.
- سادسًا: الانفتاح السعودي على الشيعة العرب في العراق، واستقبالها اللاّفت للسيد موسى الصدر، وإعلانها عن فتح قُنصليّةٍ لها في النجف الأشرف، وحديثها عن مشروع سعودي إماراتي مُشترك لإحياء الهوية العربية للعراق، وإبعاده عن النّفوذ الإيراني.
***
نعود الآن إلى سُؤالنا الأول، وهو عن أسباب هذا الانقلاب السعودي المُفاجىء الذي بدّد كل الآمال في بِدء تقاربٍ سعودي إيراني يُؤدّي إلى تخفيف حِدّة التوتّر بين البلدين، والتوصّل إلى تفاهماتٍ في ملفّاتٍ ساخنةٍ وخلافيّةٍ مثل الملفين اليمني والسوري، ويُمكن التكهّن بعدّة أسبابٍ في هذا المِضمار:
- الأول: أن تكون المملكة العربية السعودية، وهي المَعروفة بحِرصها على السريّة والكِتمان، قد استاءت من تصريحات للسيد قاسم الأعرجي، وزير الداخلية العراقي، كَشف فيها عن إبدائها، أي المملكة، رغبةً بأن يقوم السيّد حيدر العبادي بجُهودِ وساطةٍ بينها وبين طهران في مؤتمر صحافي عَقده في طهران بحُضور نظيره الإيراني، الأمر الذي أظهرها بمَظهر الضّعيف.
- ثانيًا: غضب إيران من الانفتاح السعودي على القيادات الشيعيّة العراقيّة المُعارضة لها، واستقبالها للسيّد الصدر، ومُحاولتها إحياء عُروبة العراقيين الشيعة، ومشاعرهم القومية العربية في إطار مشروعٍ لفَصلهم عن إيران، وتكوين “جبهة عربية” تتكوّن منهم ومن السنّة العراقيين لتطويق النّفوذ الإيراني في العراق، وبسبب هذا الغضب، ربّما طلبت إيران من السيد الأعرجي إفشاء سِر الرّغبة السعودية في الحِوار مع إيران عبر وساطة السيّد العبادي.
- ثالثًا: من غير المُستبعد أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية، التي يعتقد أنها أوحت للسعودية بالانفتاح على القادة العِراقيين الشيعة لمُواجهة النفوذ الإيراني، هي التي “فَرملت” مُحاولة التّقارب السعودي مع إيران أيضًا، بالنّظر إلى فَرضها عُقوباتٍ جديدةٍ عليها وتصريحات ريكس تيلرسون، وزير خارجيتها الذي جدّد اتهاماته لإيران بدعم الإرهاب، وتهديد السيد روحاني بالرّد بإلغاء الاتفاق النووي.
- رابعًا: الأمير بن سلمان ينظر إلى مُعظم الأمور، والعلاقات مع الدول خُصوصًا هذه الأيام، من مِنظار قُربها أو بُعدها عن دولة قطر، ولا شك أن التقارب الإيراني الكبير مع الدوحة، وفتح موانئها للبضائع القادمة إليها من تركيا ودول آسيويّة وأوروبيّة، ممّا أدّى إلى كسر الحِصار قد أثار غضبة، مُضافًا إلى ذلك إزالة أي تناقض في مواقف الدّول الأربع المُقاطعة لقطر يُقلّل من مِصداقيتها خاصّةً في مسألة مُكافحة الإرهاب، فكيف تتقارب المملكة مع طهران في وقت تنتقد مثل هذا التقارب من قبل دولة قطر؟
***
بعد كل ما ذكرناه آنفًا من نُقاط يمكن أن تُسلّط الأضواء على الغضب السعودي المُفاجىء تُجاه إيران، يُمكن التوصّل إلى خُلاصةٍ مفادها أن الصراع بين البلدين ربّما يَشهد تصعيدًا على عِدّة جبهات، أبرزها الجبهة العراقية، حيث لا يُمكن أن تسمح إيران بمُرور المشروع السعودي الذي يُريد إحياء الهوية العربية لشيعة العراق، بل العراق كَكُل، على حساب النّفوذ الإيراني، وبعد ذلك جَبهتي الحرب في اليمن وسورية.
نفي السيّد الأعرجي لتصريحاته التي تحدّث فيها عن الرّغبة السعودية في وساطة عراقية مع طهران بشكلٍ مُقتضبٍ ومُهين أيضًا، وربّما بضغطٍ من رئيسه العبادي، هو قِمّة جبل الثلج، للانقسامات الكبيرة بين أوساط النّخبة الحاكمة في العراق، وهي انقسامات قد تتفاقم في المرحلةِ المُقبلة.
لا نستبعد أن ينعكس هذا الخلاف الإيراني السعودي الذي جاء، بعد مرحلةٍ من الهُدوء النسبي، على موسم الحج بطريقة أو بأخرى، وتصريحات مسؤولين سعوديين بأن المملكة لم تسمح للحُجّاج الإيرانيين بزيارة قُبور الصحابة وآل البيت في البقيع، ونفيها أن تكون قد تعهّدت بذلك للإيرانيين، ربّما يكون مُؤشّرًا مُهمًّا في هذا الصّدد.
الأيام المُقبلة حافلةٌ بالتوترات للأسف، ونأمل أن يَمر مَوسم الحج بدون مشاكل هذا العام، وإن كان لدينا بعض الشّكوك، نتمنّى أن لا تكون في مَحلّها.