هل عرفتم حسّان؟!
صارم الدين مفضل
نشأ يتيم الأب؛ اذ تُوفي والده بعد ولادته بعام واحد فقط، ولكنه ترعرع على حب الله ورسوله وائمة اهل البيت عليهم السلام، حاملا همَّ الضعفاء والمستضعفين ومتطلعا لخدمتهم والتخفيف من معاناتهم.
منذ نعومة أظفاره ابدى نبوغا وذكاء منقطع النظير حيث كان متفوقا في دراسته وكان اذا دخل في منافسة مع اقرانه ينافسهم بشرف على المرتبة الاولى.
تكللت دراسته بالتفوق والتميز الدائم، وكان يلفت انتباه زملائه فيلقبونه بالعبقري، والسبب يكمن في الاسئلة التي كان يطرحها وطريقة الاجابات التي كان يقدمها بكل ثقة.
يوم اعلان نتائج الثانوية العامة (القسم العلمي) شاهدته حزينا ومكتئبا، فدخل الشك الى نفسي بأنه ربما يكون قد رسب في الامتحان!!
وبسؤاله اتضح ان سبب كل ذلك الحزن والاكتئاب هو حصوله على نسبة ٩٥% حيث كان يطمح لتحقيق نسبة اكبر وخاب أمله لاسباب كان يقول انها راجعة للمصححين وليس لخطأ في اجاباته، ويومها استشارني بتقديم تظلم للوزارة، الا اني تفاجأت من النسبة التي حققها، وكنت اضع النسبة التي حققها ابن عمه قبلها بسنوات (٩٤%) كمعيار لقياس نجاحه من فشله، فصرفت نظره عن تقديم اي تظلم، والاعتماد مستقبلا على تقديم افضل ما لديه.
طلبت منه ان يذهب لتقديم طلب منحه لدى وزارة التعليم العالي، فذهب وتقدم بالطلب، وهناك تعرّف على احد الطلاب المتقدمين والذي اشار عليه بالتقدم بطلب منحة دراسية لدى بعض سفارات الدول الاجنبية كاليابان ودول اروبية اخرى…
تفاجأنا بعد ذلك رغم شدة المنافسة والوساطات بنزول منحة من وزارة التعليم العالي الى احدى الدول الاوروبية، فيما كان طلبه لدى السفارة اليابانية مبشرا بامكانية قبوله للدراسة في اليابان!
حينها جاء واستشارني فاخبرته بانني لا ارغب بذهابه لأي من الدولتين، وشرحت له الاسباب واقتنع، وطلبت منه الذهاب لوزارة التعليم العالي والبحث عن اي طالب اخر يمكن ان يتبادل معه المنحة الى اي دولة اخرى.. كانت النتيجة انه وجد طالبا يريد مبادلته بمنحة الى دولة اوربية اخرى، وطالب اخر رغب في مبادلته مقابل منحة لدولة مصر العربية..
أخبرته انني كنت ارغب لو وجد منحة الى دولة ماليزيا ولكنه لم يجد، فاضطررت لاخباره بأن افضل المنح المتاحة امامه هي دولة مصر، فقام بالتواصل بزميله صاحب المنحة اليها وقاما باجراء معاملة التبادل وانطلق في الموعد المحدد الى مطار صنعاء ليصل بعد ساعات الى القاهرة.
كانت المنحة في مصر محددة بالكليات الموجودة بجامعة القاهرة، وكنت قد طلبت منه ان يسجل في كلية الهندسة قسم اتصالات، وكان حينها لم يحدد قناعته النهائية، وعندما وصل الى الجامعة وبدأ بالتعرف على اقسام كلية الهندسة والالتقاء بالطلاب اليمنيين هناك لاستفسارهم حول المناهج وطبيعة الدراسة واساليب الاساتذة في كل قسم؛ ليستقر رأيه على قسم هندسة معدات طبية.
اتصل بي واخبرني برأيه ولم اخفي امتعاضي من عدم رغبته بالدراسة في قسم الاتصالات ولكني رحبت باختياره وقناعته مؤكدا عليه اهمية بذل الجهد في التحصيل لضمان التميز.
مرت السنوات الثلاث وبقيت سنة واحدة لاكتمال دراسته هناك، واستطاع من هناك التنسيق للعمرة وزيارة مكة والمدينة، وبعدها تفاجأنا به في صنعاء، قال بانه جاء لزيارتنا في العطلة..!
ثم ما لبث ان سافر الى محافظة صعدة، وعندما اتصل بي ابديت انزعاجي من ذهابه وطلبت منه الرجوع لاستكمال دراسته الا انه رفض وقال بان واجبه الجهادي اهم وأولى!!
لا اخفي انني انصدمت بما حصل، ليس لشيء سوى انه قطع منحته ودراسته ولم يتبق لها سوى عام واحد، فقمت بالتواصل عبر احد الاخوة هنا بالاخوة في صعدة واطلعتهم على الموضوع، فما كان منهم الا ان التقوا بحسّان وطلبوا منه العودة لاكمال دراسته ثم الرجوع اليهم على اعتبار ان المسيرة القرآنية في بداية انطلاقتها وتحتاج مستقبلا لكوادر مؤهلة في جميع التخصصات.
عاد حسان الى القاهرة وأكمل دراسته وعاد حاملا شهادة التفوق في تخصصه (هندسة معدات طبية)، واتذكر هنا انه كان في احدى زياراته لصنعاء بعد عام من الدراسة في القاهرة، ذهب الى شركة سيمنس وطلب منهم التطوع للعمل معهم، وبالفعل تم قبول طلبه، ولكنهم طلبوا منه ان يحضر في ايام محددة ولساعات محدودة، وقبل موعد السفر للقاهرة طلبوا منه العودة اليهم بعد التخرج للعمل معهم.
عاد حسّان الى صنعاء ومعه شهادة الليسانس، ولكنه بدلا من التوجه الى شركة سيمنس توجه مباشرة الى محافظة صعدة للالتحاق بالمجاهدين، وهناك تم استقباله وترتيب العمل بمركز صيانة خاص بالقسم الصحي، كان هو الاول من نوعه في تاريخ المسيرة القرآنية حسب ما اخبرني زملاؤه.
كان حسّان كتوما ويعمل بهدوء وصمت، لا يحب الحديث عن نفسه ولا عن انجازاته، ولذا كنا نستقي منه المعلومات بصعوبة، وفي هذا المنعطف من حياته بدأ يتعامل معنا كرجل مسؤول عن نفسه ولا ينتظر تعليمات من احد.
عمل حسّان في مركز الصيانة بضحيان ثم انتقل بعد دخول المجاهدين الى مدينة صعدة للعمل بمركز خاص بالمجاهدين لصيانة المعدات الطبية، وهنا يذكر لي احد زملائه ان المجاهدين كانوا قبل حضور حسّان وافتتاح المركز يجدون صعوبة كبيرة في اصلاح وصيانة ابسط المعدات الصحية، حيث كانت الدولة تشدد عليهم الحصار في كل شيء بما في ذلك قطع الغيار وحتى الادوية والمستلزمات الطبية، وكان المهندسون على ندرتهم بصعدة يرفضون الدخول الى اماكن تواجد المجاهدين خوفا من التنكيل بهم من قبل اجهزة السلطة!
بعد انضمام حسّان اليهم كأول متخصص في مجاله استبشروا خيرا، وحصلت نقلة نوعية في العمل، رغم انه لم يكن يحمل الخبرة العملية الكافية للنهوض بمسؤولية العمل، الا انه شكل مع بقية زملائه تكاملا نوعيا في الاداء وتمت صيانة العديد من الاجهزة التي اعيدت للعمل بعد سنوات من الاهمال الناتج عن الاعطال التي اعاقت استغلالها والاستفادة منها.
لم يكن حسّان يتضجر او ينزعج من شظف العيش وخطر التهديدات نتيجة الروح الجهادية التي كان يملكها كما بقية زملائه المجاهدين، ولذا نقل لي بعض زملائه انهم كانوا لا يجون ما ينفقون على مأكلهم ومشربهم سوى مبلغ ٢٥٠ ريال يوميا لعدد ثلاثة اشخاص طوال اليوم!
كان حسّان يستفتح العمل صباح كل يوم بايات من القرآن والاذكار دون تناول وجبة الفطور، وكان يعاني من سوء التغذية لدرجة انه كان يتعرض لفقد التوازن وهو يمشي فيضطر للامساك بشيء جواره حتى لا يسقط على الارض من شدة الجوع!
في مدينة صعدة الجميع كان يعرف الاخ حسّان خصوصا المجاهدين والمشتغلين بمهنة الطب والمجال الصحي، والجميع يتحدث عن بشاشته تجاه الجميع وحبه لمساعدة المحتاجين..
كان مرحا وضحوكا ولكنه اذا قام للعمل كان يلتزم الجدية والدقة والمسؤولية.
كان صبورا وكتوما وذا عزيمة في كل أموره، فان قرر شيئا قام به على احسن وجه.
حسّان يشارك الناس افراحهم واتراحهم، وكانت ايام فرحه هي افراح الاخرين اما اتراحه وهمومه الشخصية فلم يكن احدا ليعلم بها حتى اقرب الاقربين منه، حيث كان حريصا على عدم اشغال اقاربه واصدقائه بهمومه الشخصية.
حسّان ظل يتواصل بالاهل والاصدقاء بعد اسقرار عمله الجهادي بمدينة صعدة اما بالتلفون او عبر برامج التواصل الالكتروني، وكان يحرص على طمأنة الجميع والاطنئنان عليهم بكل حرص وحب ووفاء..
بعد دخول صنعاء بفترة انتقل حسّان الى صنعاء وبسبب التطور الحاصل في المجال الطبي والصحي، واندفاع الناس تجاه المسيرة والتفاعل مع المجاهدين، انحسر القسم الذي كان يعمل فيه، ووجد نفسه مليئا بالفراغ مما اضطره للدخول في عمل اخر لا يمت لتخصصه بصلة..
كنت حينها أجهل ظروف واقعه العملي واعتقدت انه ترك العمل في الجانب الصحي من ذات نفسه، فكنت انتقده بشده، والومه دائما على العمل الجديد الذي ليس من ثوبه ولا يليق بانسان متخصص في مجاله، الا انه كان يتحمل ذلك النقد واللوم ويحاول اقناعي بانه لايزال مرتبط بعمله الاول.
خلال حوالى ثلاث سنوات التقى حسّان بزملاء جدد تعرفوا عليه من خلال الدورات الثقافية والصحية والعسكرية التي كان يشارك فيها، وتم اختياره ليكون من افراد احدى كتائب القتال الخاصة والمدربة تدريبا عاليا..
لم يكن احد يعرف بهذه الجزئية، حتى جاء خبر استشهاده لتتضح الصورة اكثر، حيث كان في مهمة جهادية خاصة وسريعة، استطاع هو وزملاؤه من ادائها على اكمل وجه وحققوا انتصارا حاسما في ساعات على العدو، افقدوه خلالها عددا من المواقع والمرتزقة والاسلحة وسيطروا على المناطق المستهدفة.
كان حسّان واحدا من كتيبة مكونة من ١٢٠ فردا، تم تكليفهم بمهمة عظيمة، نجحوا فيها، وسقط منهم ثمانية شهداء فقط، احدهم كان الاخ المجاهد حسّان.
حسّان كان اسما جهاديا اختاره الاخ الشهيد محمد عبدالولي مفضل، ليؤكد في يوم مولده ويوم التحاقه بالمسيرة ويوم استشهاده أنه كان يستحق بالفعل ان يكون مصدرا للاحسان.
وبهذه الصورة الملحمية العظيمة يسدل الستار عن واحد من شباب المسيرة القرآنية المتميزين، الذين بقدر ما نفتقدهم بقدر ما نستلهم منهم دروس الحكمة والعظمة والمسؤولية والاخلاص.
والسلام على حسّان يوم ولد ويوم جاهد واستشهد ويوم يقوم الاشهاد.